إن الحاضر مهما بدا للناظر مستقلًّا هو وليد الغابر، يستمد منه بعض صورته وبعض مادته، كما تستمد النبتة من الحبة بعض صورتها وبعض مادتها، فللماضي إذن على الحاضر كرامة الأصل والأرومة، ومن لم يعرف غابره فقد ظلم حاضره.
إذا كان لنا — ونحن أمة تتوثب للنهوض — أن نتبين ما نحن عليه من استعداد للحياة والرقي، وما يمكن أن نصل إليه من ثقافة قومية نتشوق إليها، فيجب علينا أن نهمل مجموعة الآداب والفنون الماضية التي اتصلت بحياة من دونوا العلوم وفننوا الفنون من السلف الصالحين.
وتتمثل هذه المجموعة الفكرية المتصلة بحياة أسلافنا فيما أبقوا لنا من كتب هي كد لأفهامهم وثمرات لأقلامهم، وفيما خلفوا من اصطلاحات تصوِّر لنا نماء عقولهم وحركة عقولهم، وفيما تركوا من فنون يقاس بها بُعد خيالهم ومدى أذواقهم، وفيما أجروا من مَثَل مسموع وهيأوا من عُرف متبوع، وفيما سنوا من شريعة تُصان، أو دانوا به من دين يركن إليه المطمئنون، ويتعبد به المتعبدون.
علينا واجب مقدس حيال ذلك كله:
علينا أن نرجع إلى الكتب القديمة لنستخرج تِبْرَها من ترابها، ونستبقي سليمها من بين سقيمها، وأن ننظر في طرائق أبوابها وأساليبهم التي توارثوها وتعهدوها، فما كان من ذلك صالحًا لعوننا على إدراك الحقائق وتصويرها اتخذناه لنا عونًا، وما ليس يصلح منها نتبين وجه ضعفه، ومكان اعوجاجه، ونقابله بنقيضه من القوة والاستقامة.
أما واجبنا نحو الآثار فأن نجعل منها مزارًا نستمد منه لفنوننا لونًا، ومن جمالها شعارًا، ومن خيالها خيالًا، ينبغي أن يختلف أبناؤنا إلى المتاحف لكي يتنفس الأحفاد من ذوق الأجداد.
وكذلك واجبنا حيال تقاليدنا في بعض المظاهر كمظاهر المجاملة والإكرام فينبغي أن نحفظ منها ما ليس في حفظه تعطيل لمصلحة وما لا يشين جمالًا.
والذي حداني إلى ما تقدم أن غير قليل من شبابنا ينكرون حرمة القديم وغير قليل من منشآتنا غافلة عما فيه من خير.
حقًّا قد يعذر من يرد كيد الروح الرجعية البالية إذا هو تنكر للماضي وبالغ في إعلاء شأن الجديد، وفي تسليطه على نفسه والإذعان لسلطانه، ولكن ما عذر من يتعمد أن يجهل الماضي عقوقًا بالماضي وغرورًا بالحاضر؟
وقد يخطئ كل الخطأ من يزعم أن ترقية الأمم وإنهاض الشعوب مقصوران على تغذية نشاطها بما يستمد من ظروف الحال أو يتطلع إليه الآملون من شرفات المآل؛ وذلك لأن في الغابر ما يعين على الاستعادة للحاضر وفي أمور الحال ما يعين على إعداد الاستقبال.
وما من أمة ناهضة تغني للجديد وبالجديد إلا وفي توقيعها صوت من أصوات الماضي الشجية.
فالأتراك الذين ثاروا في وجه القديم طلبًا للرقي والحياة قد يتلمسون أحيانًا في ماضيهم البعيد أو القريب ما يتقوى به نهوضهم، وتتثبت به شخصيتهم.
إن في حماسة الأمم العطشى للرقي متسعًا لصون ما فات، ومتسعًا لطلب ما هو آت، ومن أراد أن يعمل لأمته فليعلم أن الأمم تقاليد وخيال، وتوثب وآمال.