الكاتب: عباس محمود العقاد
الناشر: الدستور
تاريخ النشر: 13 سبتمبر 1938
من الثابت أن قبائل كثيرة رحلت من فلسطين وشبه جزيرة سيناء فيما قبل العصر المسيحي إلى الصحراء الليبية التي تُعرَف الآن بالقسم الشرقي والقسم الغربي أو بقسم العامرية وقسم مرسى مطروح.
وكان قصد هذه القبائل أن تقيم في مصر الشمالية فحيل بينها وبين ذلك فاتجهت إلى الغرب وأقامت حيت تيسر لها المقام من ذلك الأقليم.
وقد ثبت أيضًا أن أناسًا من المغرب طرقوا ذلك الأقليم كما طرقه أناس من الأوربيين، وكما طرقه أناس من السودان الذين ضاق بهم العيش في بلادهم القاصية في بعض سنوات الجدب والشدة، وقد ظهر من قياس الجماجم التي كشفت في واحة سيوة أن أصحاب هذه الجماجم أقرب إلى الأوربيين والمغاربة منهم إلى العرب أو إلى المصريين.
إن الحالة التي حدثت في القِدَم هي الحالة التي تتكرر اليوم ولا تزال تتكرر في المستقبل بغير اختلاف كبير. فسكان الإقليم جنس لم يتغير كثيرًا على توالي الأزمان وتقلب الأحوال، وما صلح له أسلافهم الأقدمون يصلح له خلفاؤهم الحاضرون، ولا يصدق عليهم ما يُقال من تحكم العادة واستحالة التبديل في طبائع الأجناس.
ومعظم السكان اليوم بدو رعاة إبل وأغنام، ولكننا متى ذكرنا أن الجمل الذي يلازم هؤلاء البدو في عهدهم الحاضر لم يكن معروفًا بينهم قبل الغزوة الفارسية وأنهم اقتبسوه من الفرس واشتهروا به حتى غلب عليهم وغلبوا عليه لم نستبعد شيئًا مما يفعله الاقتباس والتطبع والتعويد. فالبدو اليوم رعاة إبل وقد يكونون غدًا رعاة أبقار ويكونون بعد غد زراعًا من الطراز الأول وصناعًا ونساجين ممتازين، وكل شيء مستطاع مع العزيمة وحسن الاقتباس وحسن التطبيق.
ولقد كان من نفحات هذه الرحلة مصنع النسيج الذي تم افتتاحه في مرسى مطروح، فهو باب رزق لا ينفد ومستهل صناعة يُرجى لها كثير من التقدم والشيوع. ومن يدري ماذا تدره هذه الصناعة على البدو خاصة وعلى البلاد عامة إذا تعوَّد البدو العناية بأوبار الإبل وتعهدوها بالإنماء والتنظيف ونسجوا منها أصوافًا كأمثالها التي تُباع بأغلى الأثمان؟ بل من يدري ماذا تدره هذه الصناعة غدًا حتى لو اقتصر الأمر فيها على أصواف الغنم الموجودة الآن والتي يمكن أن تُنقَل من بعض الأقطار؟
هذا باب من أبواب الرزق التي فتحت في وجوه أبناء البادية، ويعدله في النفع معاصر الزيتون ومعامل تكرير الزيت، وقد تبيَّن من التجربة أن هذا الإقليم على قحله وقلة الري فيه يصلح لزراعة الزيتون المستجلب من البلاد التونسية ويُستخرَج منه زيت فاخر لا يقل في جودته عن الزيوت الفرنسية التي تُصدَّر من المغرب إلى بلادنا وإلى سائر البلاد، فإذا عمَّت التجربة واتسع نطاقها وانتشرت هذه الزراعة بين أبناء البادية فمن المحقق أنها تنقذ فريقًا منهم لا يستهان به من العوز والمتربة وتجنح بهم إلى حضارة آمنة كالحضارة التي كان عليها أسلافهم في هذه البقاع.
ومثل هذا يقال في أشجار الفاكهة الأخرى التي تبين صلاحها للنمو في أرض البادية.
ومثل هذا يقال في استغلال الثروة المعدنية التي عرف طريق بعضها ولا يزال بعضها في حاجة إلى البحث والتعهد والاستغلال.
على أن المأثرة الكبرى التي يستفيد بها أهل البادية ويفتقرون إليها أشد افتقار هي الحماية من المزاحمة، والحماية من المرابين.
فالبدوي الذي يُنشئ عملًا من الأعمال الاقتصادية في باديته لا يصح أن يتعرض للمزاحمة الجائرة من الأجانب عن أرضه ولو كانوا مصريين؛ لأنه أحوج إلى المنفعة وأحوج إلى التشجيع على مزاولة الأعمال.
أما المرابون فقد يجهل سواد المصريين أن البدوي يبيع الأردب من الشعير قبل حصاده بثلاثين قرشًا لفرط احتياجه إلى المال، ثم يبيعه المرابي بأربعة أضعاف هذا الثمن على أثر الحصاد.
وقد يجهل سواد المصريين أن البدوي قلَّما يقبض ذلك المال القليل من ثمن شعيره المسلوب؛ لأن التاجر المرابي يُلزمه أن يشتري به سكرًا وزيتًا وتبغًا من دكانه، فيربح في الصفقتين، ولا يملك النجاة من هذا الغبن الثقيل.
فهل يكثر مع هذا الاستغلال الشنيع، بل مع هذا السطو الأثيم، أن تخصص الحكومة بضعة آلاف من الجنيهات لتسليف البدو على الزراعة المقبلة وإنقاذهم من قبضة المرابين والمحتالين؟ أليس أقصى ما تخشاه الحكومة أن تخسر قسطًا أو أقساطًا من تلك القروض؟ فماذا تبلغ هذه القروض إلى جانب الإعانات التي تبذلها للجياع والعراة من أولئك المساكين في سنوات الضنك والكساد؟
أما مشروعات الإصلاح الشاملة التي تتناول الإقليم من شرقه إلى غربه ويراد بها تجديد رخائه ولو بعض التجديد فهي نوعان:
النوع الأول لا خلاف فيه وهو ترميم الآبار الرومانية المهجورة وإنشاء طواحين الهواء وتوزيع الأرض حولها على قدر طاقة الزراع من أهل البادية واستعدادهم للصبر والمثابرة، وتقل الصعوبة كثيرًا في سيوة حيث تتوافر العيون والأرض الصالحة للأشجار والأعشاب، ولا يعوزها إلا الطريق التي تيسر وصول الفاكهة والثمار إلى الشواطئ والبلاد الخارجية.
والنوع الثاني عليه خلاف بين المهندسين والمختصين من رجال الري والإدارة فمنهم من يرى إمكان مد الترعة النوبارية إلى جنوب العامرية واستصلاح اثني عشر ألف فدان بهذه الوسيلة.
ومنهم من يجزم باستعصاء هذه الوسيلة لأسباب فنية، ويشير في الوقت نفسه بمشروع آخر واسع النطاق يقول أنه مضمون النتيجة وأنه يستصلح نصف مليون فدان تزرع كرومًا رملية ونخلًا وخروعًا وغابات وأزهارًا برية وثمارًا مختلفة، وخلاصة هذا المشروع كما شرحه لي صاحبه الأستاذ «الشفسكي» في بلدة العامرية أن تقام آلات رافعة على علو اثنين وعشرين مترًا ترفع الماء إلى قناة تمتد من الفرع الغربي للنيل، وأن تستقي هذه القناة من ماء النيل مائة وخمسين يومًا فلا تستنفد إلا نحو خمسة في المائة من مليارات الأمتار المكعبة التي تتدفق إلى البحر من فرع رشيد على غير جدوى، وحسبي الإشارة في هذا الصدد إلى المشروع المشار إليه ليلقى نصيبه من دراسة المعنيين بهذه المشروعات، فليس في وسعي هنا تفصيله والحكم على مبلغ السهولة والصعوبة فيه.
وتشاء رحمة الله بأبناء البادية ألَّا يكون رخاؤهم كله معلقًا على المشروعات التي يطول عليها الخلاف بين المختصين ويطول بها التمهيد والتنفيذ.
فالصحراء الغربية اليوم مجال متسع لأعمال حربية واقتصادية ينتفع بها العرب ويستعينون بها على شؤون المعيشة من شتى الوجوه …
في الصحراء الغربية تعبيد طرق وبناء ثكنات وحركة بيع وشراء يستدعيها تكاثر الجنود والعمال هناك، فإذا تكفلت الحكومة بحماية العرب من المحتالين والمستغلين الذين يحرمونهم نصيبهم في هذه الأرزاق فالنفع الذي يصيبونه منها غير قليل، وإن كان التعويل على أمثال هذه الموارد لا يدوم إلى زمن طويل.
لكن الذي يدوم إلى زمن طويل ويعود نفعه على العرب وعلى الحكومة وعلى الأمة المصرية بأسرها في وقت واحد هو إشراك العرب في حركة التجنيد والدفاع، وإنما يكون ذلك على خير الوجوه بإنشاء فرقة كبيرة للهجانة يتطوعون فيها على الطريقة التي ألِفوها واستراحوا إليها في فرق الحراسة الصغيرة، وبهذه الوسيلة نكفل العمل لعشرين ألفًا من أبناء البادية الأشداء، ونكفل السهر على حدودنا الغربية ونطمئن إلى هذه الرقابة التي يقوم بها أناس يعرفون كل شبر وكل منفذ وكل مورد ماء في شعاب الصحراء.
وخلاصة القول أن العناية بالصحراء الغربية واجبة حق الوجوب، وأنها عناية لا يكثر عليها إنجاز هذه المقترحات أو هذه الضرورات التي قلَّما تقبل الإرجاء والإمهال، وحسبنا أملًا في نجاحها وتوفيقها أنها مشمولة برعاية المسؤولين، وأنها ماضية إلى غايتها في أثر هذه الزيارة المباركة التي تتعلق بها آمال صادقة لأبناء البادية وأبناء النيل.