الكاتب: محمد حسين هيكل
الناشر: مجلة السفور
تاريخ النشر: 19 نوفمبر 1915
المناسبة: مقالة ضمن ثلاثة مقالات نُشِرَت أثناء الحرب العالمية الأولى، دافع فيها الدكتور هيكل عن السلام وما تفيده الإنسانية والحضارة منه، في مناظرة بينه وبين الدكتور طه حسين دافع فيها عن دور الحرب في حياة العالم.
تحت هذا العنوان كتب صديقنا «تاسيت» مقالة فخيمة طويلة، قَصَّ فيها فضائل الحرب، وأظهر لنا ما جادت به المجازر الإنسانية على بني آدم من حياة، وقوة، ورقي، ولقد خيَّل لنا ونحن نقرأها أن الدماء الإنسانية أسمدة إذا اختلطت بالأرض أنبتت الفلسفة، والمدنية، وجادت على الناس بالحياة والحرية، وظننا أنها كانت وستبقى كذلك أبد الدهر.
ليهنأ «تاسيت» بالرأي الذي قرَّره، وإن العالم المتمدن ليقدم للناس المثل الحي على ما في الحرب من فضائل. ها هي الكنائس البديعة تخرب، ودور الكتب تحرق، والوحشية التي اختفت تحت ثوب من رياء الإنسانية تدوس ما جادت به الحروب الماضية من علم وفلسفة، وتهلك أجمل ما خلف الإنسان للإنسان، وتقوم بذلك كله دليلًا ناطقًا على فضيلة الحرب، وعلى جمالها.
يقول «تاسيت»: إن تلك إلا مصائب وقتية سرعان ما تزول إذا رجع السلم إلى نصابه، وراجعت الإنسانية حركتها ونشاطها. وما الحرب إلا كالمطر يهطل وابلًا فيصيب بعض ما يلاقي، ثم إذا الأرض بعده زينة للناظرين.
كلمة ما أجملها لو صدرت من أعرابي في صحراء مقفرة يرجو الغيث ينبت له من بين الرمال المجدبة كلأ يرعاه بعيره وشعيرًا يتبلَّغ هو به في تقشفه وزهده، ولكنها لا تصدر من حاضر يهدم المطر بيته الذي بناه على متعاقب السنين. كذلك لو أن الحرب في أيامنا هذه لا تصيب إلا ما كانت تصيب الحروب في الماضي من ثروة طريفة سرعان ما تتجدد، لهان الخطب، ولقلنا إن الأرض تظمأ أحيانًا للدماء تعطي بها البشر حياةً أقوى وأعز، ولكنها تصيب ثروات تكدست على الزمان وعملتها الأجيال المتعاقبة للسير بالإنسانية في طريق التقدم. ثروات علمية، وثروات فنية، وثروات مادية، ومن لنا اليوم باستعادة مكتبة لوفان، أو كنيسة ريمس، أو نقوش سان مارك، من لنا باستعادة الشبيبة الزاهرة التي ذهبت ضحية المدنية المتوحشة، من لنا بعود التوازن السياسي والاقتصادي بعد أن فتكت الحمى المتهوسة بقواعد الاقتصاد والسياسة!
لهذا ليس من الحق في شيء أن يمتدح متمدح بالحرب. إن هي إلا نزوة من نزوات الطيش تصيب الإنسانية حين ترى الإنسانية أنه قد طال متاعها بالسكينة والسلام، وحين تنسى الويلات الكبيرة التي تجرها الحروب المستعرة، وإنه لمما يوجب الأسف والدهشة معًا أن تبقى الإنسانية ترى ما تراه من مصائب الحروب وبلاياها، ثم تتناسى بالزمان هذه المصائب والبلايا، وترجع لتجدد أسبابها لأسباب واهية. إنها في ذلك كالطفل تصيبه التخمة من جراء الانكباب على الطعام، ثم لا يفتأ ينكب على الطعام كلما دعاه لذلك داعي الصبا والشهوة. ومن يدري فقد تكون الإنسانية إلى اليوم في مبادئ شبابها لم تحنكها بعد التجارب.
أمام هذا الذي نرى منها لا نستطيع إلا أن نقول إن الحرب كانت بلاءً ضروريًّا لا مفر منه. وقد ظهر من الإنسانية حكماء استفادوا من كل بلاء ينزل، ليكون لهم أساسًا لموعظة يتقدمون بها لإخوانهم بني آدم. هؤلاء هم الفلاسفة الذين قال صديقنا «تاسيت» إن فلسفتهم استفادت فائدة عظمى من الحروب، وإن عملهم لعلى جانب من الحكمة عظيم. فإن العاقل من استطاع الوصول إلى الحسن ينقب عنه حيث يكون، حتى ولو كان وسط فظائع الوحشية التي يرتكبها المتمدينون باسم الحرب.
ولكن ذلك كله ليس معناه أن المدنيات الزاهرة التي رأى الناس كانت ثمرات الحرب، فإنما الصنائع، والعلوم، والفنون كلها آثار العمل السلمي الهادئ. ولعمرك ما شأن الحرب بنظرية التضامن الاجتماعي آخر النظريات التي جاد بها السلام الذي حكم أوربا نحو نصف قرن من الزمان؟! بل ما علاقتها ببدائع التصوير وفخيم القصور وجميل الصور والتماثيل؟! وهل ساعدت هي على اكتشاف الحقائق العلمية التي يقضي المنقبون من العلماء أعمارهم في البحث عنها؟!
ألا تعسًا للحروب، فلكم هدمت من ثمرات عمل بني آدم الأجيال المتعاقبة، ولكن مزقت كل ممزق النظريات الجميلة المتينة التي وضعت للخروج بالإنسانية من درك الوحشية التعيس المظلم، ولكم نشرت على الأرض راية الخسف والاستعباد.
كان من نظرية التنافس على البقاء بعض المبرر النظري لوجود الحروب. فكان أنصار القسوة، والكراهية، والوحشية يقولون إن من سنن الطبيعة أن يبقى الأصلح، ولو كان ذلك بفناء الضعيف، لكن نظرية التنافس دخلت هي الأخرى في حكم الضعفاء، وتغلبت عليها نظرية جديدة مبناها الإخاء، والعطف، وغرضها التخفيف من تلك الهمجية القاسية التي ظل بنو آدم يقاسونها القرون الطوال. على أساس هذه النظرية الجديدة نظرية التضامن، تألفت جمعيات العمال، وتداخلت الحكومات؛ لتخفيف الفروق بين الممول والعامل، وعملت الإنسانية جمعاء على تحقيق شيء من معنى الإخاء بين بني آدم، والسعي لاستعباد قوى الطبيعة لفائدته، ولدفع الاستعباد عنه احترامًا لحريته. ولا نحسب بعد الذي ظهر في عالم الحياة من تحقيق الكثير مما ترمي هذه النظرية إلى تحقيقه، ومن إفلاس النظرية القديمة نظرية التنافس المطلق أن إنسانًا يستطيع أن يقول بأساس نظري للحروب في عالم الإنسانية التي يرجوها المستقبل القريب.
ولقد قلنا أول هذه الحرب ونقول اليوم إنها إنما قامت لإعلان إفلاس المبدأ القديم إفلاسًا مطلقًا، وللقضاء على ما بقي منه، وبشيرًا بالمبدأ الجديد الذي لا بد عما قريب تراه أعيننا محققًا حيًّا عاملًا.
ولا يغرن أحدًا ما يرى اليوم من مظاهر القوة المتوحشة، ولا يذهلنا عن إدراك الحقيقة ما يُقال من امتلاك الإنسان الأرض والهواء والماء. الحقيقة إنما امتلكها ليذلها ويستعبدها لفائدته، لا ليستعين بها على إذلال أخيه الإنسان واستعباده. وما هو حاصل اليوم ليس إلا حمى احتضار ذلك المبدأ البائد، وكثيرًا ما تخرج نوبة الحمى المصروع عن صوابه فإذا به استوحش فلا يقدر عليه إنسان، حتى إذا انتهت خر صريعًا لا محل فيه لرجاء.
لهذا كله لا يهولن أحدًا من محبي الإنسانية ما يرى اليوم من فناء ودماء، فإنما على الباغي تدور الدائرة، والباغي هو مبدأ الأَثَرَة والتنافس، ولا يفرح محبو المجازر بما يرون فيمدون بأعناقهم من ظلمات المستقبل تطلعًا إلى مجازر جديدة مقبلة أفظع مما يشهدون وأقسى. فإنا نحسب هذا الدرس الحاضر تقاسيه الإنسانية المتعلمة بشيرًا بسلام مقدَّس خالد، سلام سَدَاه الحب ولُحمَته الإخاء.