قبل أن ننتقل إلى غير من ذكرنا من المفكرين، وقبل أن نستعرض طرفًا من أخبار حياتهم وأن نتأمل في المختار من أفكارهم، يحسن أن نذكر هذه الطائفة الأخيرة من نظرات لاروشفوكولد فعنه أخذ كثير من المفكرين والقصصيين. وهو يمتاز عن كُتَّاب هذا العصر والذين سبقوهم؛ إذ أنه لا يتصنع الابتكار في الرأي تصنعًا، ولا يخلط الفكاهة بالجد خلطًا تضيع معه معالم الحقيقة. فإنك تقرأ كتب برنارد شو أو أوسكار وايلد فلا تعرف في بعض الأحايين أين تنتهي الفكاهة وأين يبدأ الجد، أما لاروشفوكولد فإن فكاهته تفسر الحقيقة ولا تخفيها ولا تبعث مثل تلك الحيرة. كما اتضح مما ذُكِر في المقالين السابقين، وكما هو ظاهر في هذا المقال:
إن تصنُّع القدرة والكفاية في أمور الحياة قد يعوق عن القدرة والكفاية، وهذا صحيح؛ إذ أن ما تلاقيه من مظاهر التصنُّع من النجاح في خداع الناس والانتفاع بهذا الخداع والتكسب به أمور قد تقنع صاحب التصنع، فيقنع بالادعاء دون الحقيقة ويستريح إليه، فلا يعاني الشدائد في معالجة نفسه أو ما يحسبها شدائد تعظم في نظره وتهوله إذا حاول التهدِّي إلى صفات القدرة الحقيقية والتماس أسبابها.
إن حسن النصيحة لا يكفي لمعرفة الانتفاع بها، ورجاحتها لا ترشد إلى القدرة على ذلك الانتفاع ولا تفيدها؛ إذ أن المرء محتاج إلى مقدرة على إتقان العمل والاهتداء إلى طرقه وأوقاته المناسبة كي يعمل حسب النصيحة الراجحة قدر احتياجه لما يحتاج إليه من المقدرة إذا عمل من غير نصيحة وبإرشاد نفسه.
إن في المصائب نفاقًا كثيرًا مختلف الأسباب والأنواع: فمن الناس من يبكي ادعاءً للحنان والرحمة، ومنهم من يبكي كي ينال عطف الناس ورحمتهم وإشفاقهم عليه، وإن لم يكن متأثرًا في سريرته بمصابه، ومنهم من يبكي إذا فقد قريبًا أو صديقًا كي لا يلومه الناس إذا لم يبكِ، ولولا خشية الملامة ما بكى.
إن خداعنا لأنفسنا من غير أن نفطن إلى مخادعتنا أنفسنا أسهل من خداعنا الناس من غير أن يفطنوا إلى مخادعتنا لهم، ولكنا نظن عكس ذلك حقًّا.
لا يرتاع من احتقار بعض الناس له، ولا يبيت مغيظًا محنقًا إلا من رأى نفسه جديرًا بالاحتقار، أو من كان عنده ما يسميه علماء هذا العصر «مركب النقص»، أو عقده نفسية أو الشعور بالنقص، سواء أكان ذلك بسبب نقص نفسي أم نقص جثماني، فإن ضعف الأعصاب قد يحل محل النقص النفسي في إثارة هذا الغيظ، وإذا وثق المرء من نفسه فإنه قد يُرجَى منه التسامح في الإهانة إذا لحقته أكثر كما يُرجَى التسامح ممن فقد الثقة بالنفس إلا إذا صار الانتقام لكل إهانة شريعة الشرف والعرف، كما يكون في البقاع التي يشيع فيها الثأر وتشيع فيها المبارزة فيضطر المرء إلى الانتقام من خوف الذم والاضطهاد بسوء الرأي فيه إلا إذا علا شأنه، ولم يشك أحد في مقدرته، ولم يقدر على تتبعه بالتعبير، فصفحه صفح القادر الذي حظي بإقرار الناس بقدرته وكرمه. وفي البقاع التي اختل فيها الأمن لفساد الحكومات، ترى كل إنسان يدفع عن نفسه خشبة أن يتسامح في الاعتداء القليل فيناله الكثيرمن شر الناس وظلمهم وتهجمهم إذ يتهم بالعجز، واستبداد الحاكم يولد الشعور بالنقص في نفوس المحكومين، فيسرع كل منهم إلى الانتقام من جاره إذا حسب أن إهانة لحقته، إلا إذا حال الاستبداد بينهم وبين الانتقام، وكثيرًا ما يسرع الحقير إلى إهانة غيره، كي يلفت نفسه ويلفت الناس عن حقارة نفسه، وكي ينقل في زعمه وخياله تلك الحقارة إلى غيره.
إننا في بعض الأحايين نفضل أن يخدعنا من نحب ونود ألَّا يزول عنا ذلك الخداع فإننا به نعيش في نعمة المحبة والإخلاص اللذين نتخيلهما في نفس من نحب، فإذا زال عنا الخداع كان زواله نقمة وتعاسة. وقد يعرف المخدوع منا بنصف انتباهه أنه مخدوع، فيتغافل حتى يغفل، فيعيش في نعيم الانخداع.
لو كلف المرء نفسه من الجهد كي يصير إلى ما ينبغي ويحب أن يكون قدر ما يكلف نفسه من الجهد كي يخفي ما هو عليه مما يريد إخفاءه لما احتاج إلى نفاق، إذ أن الجهد في سبيل الرياء قد يكون فيه من العناء والمشقة قدر ما في الجهد الذي يصير به إلى ما ينبغي ويَحسُن.
إن مغالطة المرء الناس كي يخفي حقيقته عنهم مما يساعده على إخفاء حقيقته عن نفسه سواء أنجحت المغالطة أم لم تنجح، إذ أنها لو نجحت مغالطة المرء الناس كان نجاحها شافعًا يشفع لنفسه عند نفسه كي تخفي حقيقتها عن ذاتها، وكان نجاحها برهانًا على ما يريد المرء أن يقنع به نفسه، ودليلًا على ما يوهمها من أمرها. وإذا خابت مغالطته الناس، احتاج إلى الإمعان في إخفاء حقيقته عن نفسه كي يتقن بذلك أساليب مغالطة الناس، وكي يعرف كيف يتجنب الخيبة في مخادعتهم.
إننا نرتاح إلى رؤية من نتفضل عليهم ونساعدهم ونبرهم أكثر من ارتياحنا إلى رؤية من يجودون علينا وينعمون إلا إذا خشينا أن يورطنا الأولون حتى نجود بما لا نود أن نجود به، وإذا خشينا أن تفلت من يدنا نعمة نرجوها عند الآخرين إذا ابتعدنا عنهم فينقلب الحال، أما إذا لم يكن هذا ولا ذاك فقول لاروشفوكولد هو الصواب؛ لأن رؤية من نجود عليهم تدعو إلى الزهو والارتياح والخيلاء والثقة بالنفس، ورؤية من يجودون علينا تدعو إلى استضعاف النفس والاستخذاء والشعور بالنقص والعجز.
كثيرًا ما يبقى الحسد حتى بعد زوال النعمة المحسودة — ولعل سبب ذلك أن شدة الإحساس بالحسد لا يُستطاع إيقافها وانتهاؤها، كما لا يُستطاع إيقاف المندفع في سيره إذا بطل الدفع، فيظل سائرًا بعد الدفع مدة، أو لعل السبب أن الحسود لا يغتفر لمن زالت نعمته تمتعه قديمًا بالنعيم الزائل، فيريد أن ينتقم منه كأنما بانتقامه بعد زوال النعيم يستخلص تلك المتعة الماضية واللذة الغابرة والسعادة الزائلة من لحمه ودمه حتى تكون كأن لم تكن، وحتى يندم المحسود على ابتهاجه بها، وقد يزداد الحاسد غيظًا إذا عجز عن أن يجعل ذلك النعيم الزائل كأن لم يكن.
القدوة عدوى، وما من خير أو شر إلا وله قدوة وعدوى، فالاقتداء بالخير إنما يكون للمنافسة ونيل الثواب أو للزهو ونيل إعجاب الناس، والاقتداء بالشر لأن النفس إنما يعوقها عن الشر في كثير من الأحايين الخوف والحذر وتجنب الملامة والعقاب، فإذا لم تجد النفس ملامة ولا عقابًا بل وجدت مشجعًا ومحسنًا ورأت أن مواقعة الشر أمر شائع غير ملوم أقبلت على عمل الشر ومواقعته اقتداء بمن يعمله، ومن أجل ذلك كثيرًا ما تنقلب المقاييس في الأماكن والأزمنة المختلفة، لا سيما في عصور الثورات والانقلاب والتغير. ومع ذلك فهذه حقيقة مشاهدة في الحياة اليومية؛ إذ يقبل الناس على الشر؛ لأنهم يجدون من يمدحه ويعده محمدة وخيرًا لا شرًّا، وقد يتباهون به من أجل ذلك.
كثيرًا ما يفخر الإنسان بعيوب ليست من عيوبه وبصفات ليست من نقائصه؛ لأنها بعيدة كل البعد عن عيوبه، فهي وإياها في طرفي نقيض، وهي لبعدها عنه تلفت الناس عن عيوبه وتعميهم عن نقائصه. ومن أمثال ذلك أن ذوي التردد والعجز والجبن كثيرًا ما يدَّعون التهور والخرق والحمق والتسرع في الاندفاع من غير تروٍّ سترًا لترددهم وإحجامهم، والذين يسهل انقيادهم يدَّعون العناد والتصلب والإصرار على رأيهم، ويفتخرون بذلك إخفاءً لسهولة انقيادهم.
من السهل أن يغتفر المرء لأصدقائه العيوب التي يرى أنها لا تضره ولا تصيبه بسوء، وإن أصابت غيره من الناس، وهذا الغفران يكون ما دام المرء ناظرًا إلى أصدقائه بعين الرضا، وكثيرًا ما يغتفر لهم خيانتهم أصدقاءهم مادام الغافر يرى أنه بمأمن من أن يخونوه؛ لأنه بزعمه عندهم في منزله أعز وأرفع — وقد يسخر ويضحك من المغدور به ويلتمس العذر لمن غدر به. أما إذا حاق به الغدر دونه بعد اطمئنان إلى الوفاء واستنامة إلى عزته ومنعته فإنه لا يصفح للغادر كما فعل قديمًا بل يسخط. ومصاحبة الرجل صاحب الشر على ما في ذلك من خطر إنما تكون لأسباب متعددة؛ فبعض الناس يلازمه كي يعرف شره ونيته وما يبيت فيتجنب بذلك ما يتوقع من شره، وبعضهم يلازمه ويجاريه تزلفًا إليه واتقاءً لشره بالتزلف والتقرب، وبعضهم يتابعه كي ينتفع بشره، وبعضهم يزامله لأنه يتمنى لنفسه في سريرته جرأة على الشر ليست له، فمزاملته له إعجاب مستتر، وهذا لا يمنع من أن ينقلب عليه إذا انقلب الناس.
يقول التعساء المحرومون: إن الحظ أعمى، ويقول السعداء: إن الحظ مبصر. إذن كل من الطائفتين تدعي الفضل؛ فالطائفة الأولى تعتقد أن الحظ لا يستطيع لعماه رؤية فضلهم، والطائفة الثانية ترى أنه رأى فضلهم فكافأهم بما هم جديرون به من الخيرات والسعادة.
في بعض الأحايين يشكو المرء من نقص بعض ملكات عقله كي يدفع عن نفسه التهمة في ملكات أعز وأرفع، ومثل ذلك أنه قد يشكو من ضعف الذاكرة ولكنه لا يشكو أبدًا من ضعف ملكته في الحكم على الحقائق، مع أن الملكة الثانية قد تتأثر بضعف الذاكرة، وهذا لا ينفي صدق قول «مونتاني» الفرنسي صاحب الرسائل المعروفة إذ قال: إن ملكة الحفظ والاستذكار قد تكون قادرة ولكنها مقرونة إلى ملكة ضعيفة في الحكم على الحقائق.
كثيرًا ما تنفذ أمور باسم الحب وتعمل أعمال وتُقال أقوال ولا شأن للحب في كل ذلك، ومثله مثل الدول التي كفَّت يد الحاكم — مثل دوق جمهورية البندقية — وغلَّت سلطته، ومع ذلك تجري كل أمور الدولة باسمه.
من الغريب أن المرء قد تكون له ذاكرة قوية، فيتذكر بها حوادث حياته الصغيرة التافهة، ولكن ذاكرته على قوتها لا تستطيع أن تعينه على أن يتذكر أنه حدَّث جليسه مرات عديدة بهذه الحوادث التافهة حتى صار الحديث مملولًا مكروهًا. وقد فسر فرويد هذا النسيان في كتاب العلل النفسية في الحياة اليومية، وأوضح أن النفس تستطيع أن تنسى عمدًا ما تريد نسيانه، وأنه تدفع به إلى الوعي الباطن.
لو استطاع مستطيع أن يمنع رجلًا من أن يملق نفسه وأن يمدحها سرًّا أو جهرًا، مباشرة أو غير مباشرة، وبالقول أو العمل، وبالخاطر الذي يخطر في النفس أو في الظاهر وفي الحقيقة أو في الخيال — لكان هذا الانسان الممنوع من تمليق نفسه بأية وسيلة أشقى الناس وأتعسهم وأكثرهم مللًا من الحياة.
يعترف الناس أن الميول والنزعات النفسية لها أثر كبير في تكوين آرائهم، ولكنهم قلما يدركون عظم هذا الأثر — وكثيرًا ما ينسونه إذا كانت لهم فائدة في نسيانه، بل قد ينكرونه.
الأحاسيس والميول النفسية والصفات التي تتصف بها قد تولد أضدادها، ومن أمثال ذلك أن الجبان قد يشجع من الخوف فيقبل مندفعًا بدل أن يفر إذا أحست نفسه أن في الفرار ضررًا أشد، أو إذا حسبت ذلك أو إذا جُن جنونها من الخوف فاندفعت من غير تروٍّ. والخوف يسبب الثبات أيضًا، والثبات من مظاهر الشجاعة والقدرة والعزيمة، ولكن المرء قد يخشى أن يتزحزح عن رأي أو مسلك أو مكان من الخوف فيظل ثابتًا عليه.
أشد ما ينبغي أن يكون حذرنا من الأحاسيس والنزعات النفسية أن تغطي على الصواب إذا لبست لباس العقل والحكمة واتخذت منه أسبابًا وحججًا وأدلة؛ لأن العقل كثير الافتنان في استنباط الحجج، وتمويهها تعزيزًا للميول النفسية والشهوات، وتسويفًا لما قد لا يسوغ.
كما أن الفضل ثمرة فإن له موسمًا، والفضل الذي يكون في غير موسمه كالفاكهة التي قد تأتي في غير موسمها وموضعها، فإذا بعدت كل البعد عما يناسب مزاج ذلك الموسم الغريب عنها كانت متهجنة غير مقبولة، فالبطيخ المبرد في برد الشتاء لا يستحب، وكذلك الفضل إذا جاء في غير أوانه ومكانه، وكان عند من لا يُقدِّره يُستهجَن ويبرد.
الإعجاب بالنفس موجود في كل نفس، ولكنه يختلف في الطرق والوسائل التي يظهر بها ويشبع بها نهمته، وقد يختفي زمنًا كي يتمكن ويحتال، وهو إذا لم يظهر بالقوة ظهر بالمكر والحيلة، وقد يظهر ويفوز بطلبته حتى بالتملق والتواضع، فهو كما قال «لاروشفوكولد» دائمًا يعوض نفسه ويتخذ كل أهبة ووسيلة كي لا يخسر شيئًا وإن ادعى الخسارة والتخلي عن الغرور والكبر، وكما أن الإنسان قد وهِب من ملكات الجسم ما يناسب مطالبه وأعماله، فقد وهِب من الكِبْر ما يخفي به نقائصه عن نفسه، والأصل في ذلك أن يكسبه ثقة بنفسه كي يستطيع أن يعيش، فإذا زاد عن حد الصلاح كان مفسدًا.
إن بعض صفات الحمد مثل الحواس، فمن لم يجربها ولم يعرفها في حياته وولد خاليًا منها لا يستطيع إدراك كنهها كالذي ولد أعمى يصعب عليه إدراك معاني البصر كلها، وكذلك من خلا من بعض صفات الحمد لا يستطيع أن يفهمها، وقد ينكرها أو يحار فيها ويتهم أصحابها بالكذب والادعاء — والمراد بالخلو منها أنه لم يتعودها، ولم يعود نفسه ارتياد مواردها واتباع أحكامها.
إن الغريزة تعوض بعض التعويض ما يفقده المرء بسبب نقص حظه، فهي تعلِّم الفقير أن يستفيد من المال القليل أكثر من استفادة مَن هو أغنى منه، وتجعل له المكر عوضًا من نقص العقل أو ضعف الجسم.
إن رغبتنا فيما نطلبه بالعقل رغبة ضعيفة إذا قيست برغبتنا فيما نطلبه بالنزعات النفسية، إلا إذا كان العقل وهو يدعي الاستقلال خادمًا للميل النفسي ومحتالًا له بذلك الادعاء كي لا يفطن الناس إلى أنها رغبة الشهوات النفسية، لا لرغبة المنطق المستقل والعقل المسيطر عليها.
كثيرًا ما يكون الاغتياب باعثه الغرور أكثر من خبث النفس، فلا تأمن الرجل الموصوف بطيبة القلب أن يغتابك إذا كان مغرورًا، وأي الناس يخلو من الغرور؟! ولكنا كثيرًا ما يدهشنا الاغتياب إذا كان من رجل موصوف بطيبة القلب وباعثه الغرور.
إن السرور الذي نجده في التحدث عن أنفسنا ينبغي أن يفطننا إلى أنه يسبب الامتعاض لغيرنا، فإن غرور كل إنسان يجعل غرور غيره أمرًا يكاد لا يطاق. ومن الغريب أن كل إنسان يضجر من كثرة تحدث غيره عن نفسه، ولا يفطن إلى ضجر غيره من تحدثه عن نفسه.
أمراض النفس لها نكسة كأمراض الجسم، وقد نظن شفاءها فيما قد يكون هدنة نفسية أو فيما قد يكون مرضًا آخر، فالحب أو الطمع أو البغض إذا كان أحدهما مرضًا نفسيًّا وانتهى، فكثيرًا ما ينتهي إلى اختفاء كاختفاء النار في الرماد، أو إلى خمود كخمود البركان الذي ربما ثار بعد خموده — وهو إذا اختفى فقد يسبب للنفس عقدة نفسية كالشعور بالنقص، ولعل هذا ما يعنيه بقوله: «إن النفس قد تنتقل من مرض إلى مرض».
إن الغرور كثيرًا ما يساعد المرء على تحمل آلام كثيرة، ولكنه قد لا يساعد على تحمل آلام الغيرة والحسد والإحساس بالعار؛ لأنها آلام إذا استشرت أنقصت من ذلك الغرور الذي يراد للاستعانة به على تحملها أو أضعفته أو قضت عليه، فتقضي على العماد الذي يعتمد عليه لتحملها.
إن الغرور كثيرًا ما يحمل المرء على عمل ما يخالف طبع نفس صاحبه وميلها، أما العقل فقلما يستطيع بالمحاجة أن يحمله على ذلك — ومن أجل ذلك كثيرًا ما يعمل المرء أعمالًا فاضلة والحامل عليها غرور صاحبها لا طبعه وميل نفسه.
إن الخجل الذي ينشأ بسبب مدح لا نستحقه قد يحملنا على عمل أعمال عظيمة ممدوحة وما كنا نعملها لولا ذلك الخجل — أو الميل إلى الخجل أو الخوف من الخجل أو الحذر من معرفة الناس سببه، فيظن الناس أن هذه الأعمال صادرة عن طبع دائم، ويحسبون أنها وتيرة في الخلق، وهي ليست كذلك.
***
لقد انتهينا مما اخترناه من آراء ليوباردي وشوبنهور ولاروشفوكولد، والقارئ يرى أن لاروشفوكولد إنما استنبط ما استخرج من آراء في النفس بأن جعل رائده أَثَرة النفس، فتتبع الأَثَرة في مظاهرها من خير أو شر ومن مدح أو ذم، ورد ما خفي أو بعد عنها إلى أساسها، ولم ينكر للأَثَرة مظاهرها الفاضلة في حياة الناس.