إن علم النفس من العلوم الحديثة، ولكن وصف النفس الإنسانية ومحاولة كشف مجاهلها ومخبآتها أمر قديم عالجه الشعراء والكتَّاب في كل قوم، ولكن لعلهم لم يبلغوا من الصراحة مبلغ النظريات والنظرات التي بلغها سيجموند فرويد وأمثاله، وإن كان لكل مفكر نصيب وطابع خاص في الصراحة. ولا نظن أن أديبًا أو مفكرًا أعفى النفس الإنسانية من تطلعه إلى غرائب أمورها أو الأمور المألوفة التي هي في منزلة الغرائب لانزوائها في ظلمات النسيان كلما رأت النفس في ذلك النسيان مأربًا لها، ولكن نفعها بتذكيرها علم وفهم. ولعل بعض ذوي الفهم والزكانة، يرى في فهم النفس في نزعاتها وخواطرها، سبيل رقيها وتخلصها من شوائبها، وربما غالوا في أثر الفهم في العاطفة والنزعة والطبع وأملوا منه أكثر مما يستطاع جنيه من ثمرات أثر لطف الفهم في لطافة الحس والنفس ورقتهما. ولكن ما لا ريب فيه أن جهل النفس صفاتها وطبائعها هو العمى الروحاني، وهو مصدر شر في ذاته بما يؤدي إليه من بلادة الطبع والإمعان في قسوته والاسترسال في حمقه. ومن الأدباء المفكرين الذين لهم نصيب من بحث النفس — على سبيل التفكير والتأمل لا على طريقة القصص في التصوير — لاروشفوكولد النبيل الفرنسي، وليوباردي النبيل الإيطالي، وشوبنهور الفيلسوف الألماني، ولكل منهم نظرات صائبة، وكانت في حياة كل منهم عوامل أدت إلى التفكير في النفس والصراحة في القول وإلى الإلمام بمكنونات النفوس ومعروضاتها من غرائز ونزعات وصفات، فقد سخط الأول على حكومة أمته وضرب بسهم في حرب الفروند، وجُرِح في حصار باريس، ونُفِي إلى الريف. فكان عائشًا بين المؤتمرين، وخالط أناسًا من طبائع مختلفة ودرس أطماعهم وأطماع نفسه. ولعل نفيه إلى الريف أعطاه فرصة وفراغًا كي يعيد على فكره ما وعاه من طبائع الناس في حياته العملية وما وصل إلى علمه من حيل رجال القصر الملكي ونسائه ودسائسهم وحبهم وبغضهم وحبهن وبغضهن. وكل ذلك كان مادة يستمد منها نظراته. أما الثاني وهو ليوباردي فقد كان معاصرًا لشوبنهور ومات قبله ولو أنه كان أصغر منه سنًّا، وكان من أسرة نبيلة فقيرة. وقد أنهك نفسه وجنى على صحته بالإسراف في القراءة والاطلاع حتى صار يُعَدُّ حجة في الأدب على حداثة سنه، وقد سمح له أبوه بعد تمنُّع شديد وتأبٍّ كثير أن يرحل إلى المدن الإيطالية الكبيرة، وأن يعاشر الناس. ولم تكن إيطاليا قد وحِّدت بعد، بل كانت تتحكم في دويلاتها حكومات رجعية تشجع التجسس والدسائس والتلفيق. فبدا له ما يبدو للرجل المفرط في الفظاظة من طبائع الناس؛ لأنه درس نفوس الناس في كتب الأدب حتى اعتل وصار لا يستطيع لاعتلاله أن يجاريهم، ولا أن يماشيهم لأنه لم يتعود من صغره أن يألف تلك الطبائع كي يهون عليه بعض المكروه منها؛ إذ أنه كان كالمحجور في بيت أبيه، وكل هذه الأسباب مهدت وسائل كشفه مكاره النفس وصفاتها التي تغالط فيها.
وأما شوبنهور فقد رحل أجداده من هولانده إلى ألمانيا وصاروا من أهلها. وكان أبوه من التجار وقد أراد أن يكون ابنه تاجرًا مثله، وأرسله في رحلة إلى فرنسا ثم إلى إنجلترا. وقد قارن الفتى بين حرية الفرنسيين في حياتهم الاجتماعية ومغالاة الإنجليز في ذلك الزمن في مراعاة العرف والتقاليد. ولعل هذه المقارنة هيأت للفتى دراسة طبائع النفوس في حالي تبذلها واحتشامها. وقد ورث عن أبيه حدة في الطبع، كما ورث عن أمه الميل إلى دراسة النفوس؛ إذ كانت أمه أديبة قصصية مفكرة. وهذا بالرغم من أنه لم يكن على وفاق معها، وقد شجعه جوته كبير شعراء وأدباء الألمان، كما شجعه فاجنر الموسيقي وغيرهما. وكان غزير الاطلاع لم يكتفِ بالآداب الأوربية، بل درس الفلسفة الشرقية، ولا سيما الهندية، كما درس عقائد الهنود. وكان لا يحجم عن البحث في دخائل نفسه، كما يبحث دخائل نفوس الناس، وفيما يلي بعض نظرات هؤلاء المفكرين مع التعقيب عليها.
من نظرات لاروشفوكولد:
بعض الناس إذا ما مات كان إحساس الناس بافتقاده أعظم من إحساسهم بالحزن عليه، وبعضهم إذا مات كان إحساس الناس بالحزن عليه أعظم من إحساسهم بافتقاده. والحزن على هالك لا يكون على قدر الانتفاع به، بل على قدر الائتناس به والراحة في مخالطته. وفي هذا الباب استثناء ولا كالاستثناء، مثل حزن من لا عائل له غير المفقود، ومن انقطعت عنه الأسباب والحيل ووسائل كسب الرزق، وحزن أمثال هذا إنما يكون حزنًا على أنفسهم لا على المفقود إلا إذا كان مما يُرجى للائتناس بعشرته ولطف أساليبه في الحياة.
أكثر الناس لهم فضائل خفية لا تظهر إلا بالتجربة وفي حالات مرتبة لتلك الفضائل. فهم مثل الأعشاب الطبية، التي تظهر فضائل طبها بالتجربة وفي حالات خاصة — وهذا صحيح، ويجوز أن يقال في كل إنسان فإنك قد تعرف إنسانًا لا خير فيه ولا فضل له فإذا عرضت له حالات غير منظورة رأيت له شيئًا من الفضل يدهشك فتلح في إنكاره؛ لأنه لا يتفق وما تعرف من طباعه التي جُبِل عليها، وما ذلك الإنكار إلا لأن المفكر ينسى أن النفس الإنسانية مستقر كل فضل وإن غاب، وقرارة كل نقص وإن رسب، وإنما يلبيها من هذا وذاك في أكثر الأحايين ما اعتادته وسهل عليها إيراده وعمله.
قد يفخر الناس بعيوبهم ويجهرون بالمباهاة بها، كما يفخر شارب الخمر بقدرته على شرب الكثير منها، أو كما قد يفخر مواقع الشهوات بقدرته عليها وبما ظفر منها، أو كما قد يفخر الآخذ بالثأر أو الذي يدفع الشر بشر أعظم. وقد يفخر غير هؤلاء بعيوبهم إلا الحسود فإنه يخجل أن يفتخر بلؤم الحسد، فإذا افتخر حمل ما ظهر منه على سبب آخر غير الحسد، فيحمله على الغضب للحق والغيرة على الصدق والصواب أو الانتصار للعدل إلخ.
الاعتراف بالجميل المصنوع معك هو الدين الذي تدفعه كي تعود فتستدين فتجد من يقرضك. وليس ذلك الاعتراف من أجل أنك تراه فرضًا واجب الأداء، وفضيلة تحبها لذاتها من غير مأرب آخر. وهذا من السخر الكثير الذي نجده في نظرات هذا المفكر. ولك أن ترفض هذا الرأي في حالات. ولكن ينبغي لك الاعتراف بأنه يصدق في أكثر الناس؛ لأن النفس طبعت على الأثرة، وهي تتخلى عن أثرتها إذا تخلت؛ لأنها تجد أو تأمل أن تجد مسرة ونفعًا، والمسرة نفع أيضًا. ولعله يعني أداء ما يتطلبه الاعتراف بالجميل؛ إذ أن بعض الناس قد يعترف بجميل لم يصنع معه رغبة في الحث عليه واستعجاله وتصيدًا لأوجه الخير من الناس.
بعض فضل أهل الفضل ممجوج ثقيل، كما أن عيوب بعض الناس ونقائصهم قد تستملح وتستلطف فتغتفر؛ وما ذلك إلا لأن ظاهر المرء مفضل لدى الناس على حقيقته، وأسلوبه في ملاطفتهن ومعاشرتهم مقدم على فضله.
لولا مخادعة الناس بعضهم بعضًا ما استطاع الناس أن يعاشر بعضهم بعضًا. وهذا صحيح. ومن أجل ذلك قد يكره الناس من لا ينخدع لهم بلباقة أو يدعي الانخداع في أمور كثيرة. هذا إلا إذا كان انخداعه دليلًا على البلاهة، فيرون أنه لا فضل له في ذلك الانخداع، وأنه خليق بالهزء والاحتقار.
بعض الناس لا تظهر مهارتهم ولا يظهر فضلهم إلا إذا اقتصروا على قول الأقوال التافهة بأسلوب لبق، وإلا إذا اقتصروا على عمل من الأعمال الهينة بأناقة محبوبة تغني عن مطالبتهم بما هو فوق ذلك. ومن أجل صحة هذا الرأي قد تتعجب لنجاح أناس في الحياة نجاحًا لا يتفق مع عظم قدره وقلة ما يعرفون. أما قول الناس إن الخيبة في الأمر العظيم أعظم من النجاح في الأمر الهين، فقد يكون صحيحًا مشجعًا على محاولة عظائم الأمور، ولكن أكثر الناس يهمهم النجاح في الحياة، ولا يستطيعون أن يسيغوا الخيبة.
قد يفعل الناس الخير. رغبة في التستر وراءه كي يعملوا الشر آمنين. فليس عملهم الخير في هذه الحالات من حبهم للخير. وهذا سخر لاذع، ولكنه حقيقة مشهودة.
الكسل والكبر يحملان أكثر الناس على الميل إلى اعتقاد النقص في غيرهم من غير بحث أو دليل — وهناك أسباب أخرى منها أن الناس ترى أن ما ينقص من قدر غيرهم يزيد في قدرهم. ومنها معرفتهم أن النقص شامل للنفوس البشرية كلها محتمل فيها، وبين الاحتمال والحقيقة وبين الجوار والوقوع خطوة في نظرهم لا تكلفهم تعبًا ولا نصبًا. ومن الأسباب أيضًا أن الناس من قديم الزمن كانت خطتهم نقل نقصهم إلى نفوس غيرهم بل إلى حيوان أو جماد إذا لم يكن إنسانًا. وكانت لهذا النقل شعائر ورسوم عند البدائيين، وقد وصفها سيجموند فرويد في كتاب الطوطم والطابو أو المقدَّس والمحرَّم.
إذا اعترف إنسان بخطئه فكثيرًا ما يكون ذلك رغبة في إصلاح ضرر أصابه من ذلك الخطأ ونيل إعجاب الناس، لا حبًّا للصواب واقتناعًا به أو قد تقنعه المنفعة المرجوة، وإلا بقي على عماه لا يدرك وجه الخطأ، ولا يستطيع أن يقنعه دليل منطقي. ومما يسهل هذه الغفلة عن الخطأ النفسي أن النفس كما قال سيجموند فرويد في كتاب العلل النفسية في الحياة اليومية: تستطيع أن تنسى ما ترى نسيانه من أمرها زينًا، فإذا لم يكن سبيل إلى ذلك النسيان ورأت في الاعتراف بالخطأ فضلًا ونفعًا لدى الناس وإعجابًا، أقدمت على الاعتراف بالخطأ مطمئنة.
بعض العظماء ليس من المستطاع الإعجاب بعظمتهم إلا على بعد، كالصور الفنية قد لا يستطاع إدراك جمالها الفني إلا إذا ابتعدت عنها. وهذا تشبيه بديع؛ لأن دقائق الألوان والخطوط وتفاصيلها قد تعوق عن إدراك القدرة الفنية التي بها استطاع الراسم رسمها، ومن جهة أخرى يستطاع تشبيه جمال هذه العظمة على بعد بجمال المناظر الطبيعية، فإنك قد ترى وأنت على ظهر سفينة جزيرة كأنها جنة غنَّاء فيحاء، فإذا نزلت إلى البر وجدت الذباب والأقذار والوحل وما هو أشد على النفس من ذلك. والظاهر أن مؤلفي كتب سير العظماء والمشهورين في هذا العصر يخالفون هذا الرأي، ويرون أنه يستعصى إدراك عمل العظيم وتمام فهمه إلا إذا عرض في مباذله أو نقائصه عرضًا تامًًّا، فهم يحاولون الوصول إلى أعماق نفسه ووعيه الباطن، متناسين وصف سيجموند فرويد للوعي الباطن، ولعل في علمهم هذا أيضًا شيئًا من الحسد والانتقام من غير أن يشعروا به كحسد القبائل البدائية التي في كتاب الطوطم والطابو، والأقوام الذين كانوا في محفل تقديس ملكهم الجديد يربئون به أن يُمسَّ بأيديهم لأنه مقدَّس، فكانوا يمسونه بأطراف قضبان، لكن هذا المس المقدس كان يتحول من غير أن يفطنوا إلى ضرب قد يودي بحياة الملك حسدًا له على منزلته وما بلغ من جلالة المُلك.
ومن نظرات ليوباردي ما يلي:
المخادع الماهر هو الذي لا يظن أن كل الناس يسهل خداعهم على كل حال، بل يعرف أن من الناس من يتظاهر بالانخداع حتى يعرف غاية المخادع ويكشف أمره. أما المخادع غير اللبق فإنه يستسهل خداع الناس، فلا يتخذ أهبته لإتقان الخداع. ومن أجل ذلك كثيرًا ما يكون المخادع مخدوعًا. وهذا صحيح، ومن أجل ذلك قد يكون خداع الرجل الأبلة مضحكًا وخداع الساذج مكشوفًا لجميع الناس إلا لصاحبه، فهو وحده المخدوع به. على أن للمسألة وجهًا آخر، وهو أن نجاح المخادع غير موقوف على مهارته وسذاجة الناس فحسب، بل على رغبة الناس في أن ينخدعوا. وهذه الرغبة تكون لأسباب متعددة، فالغرور قد يؤدي بصاحبه إلى احتقار كفاية المخادع، فلا يراه ينهض له بخداع متقن. واعتقاد الصدق وسلامة النية في المخادع قد يعمى عن خداعه. والرغبة في الائتناس بالمخادع قد تسهل له إتقان خداعه. والفائدة المرجوة منه قد تذهب بحذر المحاذر منه. ومن أجل هذه الأسباب وغيرها قد يخدع المرء من هو أذكى منه، وقد يخيب الذكي اللبق في خداع من هو أقل منه فطنة.
كثير من الناس يسيئون إليك، ثم يأبون أن تقابل الإساءة بمثلها. وهذا شائع، حتى إن بعضهم ينسى إساءته إليك ويرى من اللؤم أن تتذكرها، ومن النذالة أن تتألم بسببها، ومن الحقد ألا تقبلها بصدر رحب. فإذا لم تفعل عَدَّ المُسيء نفسه مُساءً إليه، وهذا الطبع من وسائل الناس ومغالطاتهم في أمور الحياة حتى يظفروا بما يشاءون.
بعض الناس يعيشون طول حياتهم وهم معروفون بالنبل والكرم والشرف؛ وذلك لأنهم لم يقابلهم في حياتهم ما يضطرهم إلى أن يتخلوا عن نبلهم وكرمهم وشرفهم، ولكنهم لو أُحرجوا وأُحوجوا إلى ذلك التخلي لاستطاعوا أن يبذُّوا الأوغاد واللؤماء في لؤمهم. فهؤلاء نبلاء النفوس؛ لأنهم ليسوا في حاجة إلى أن يكونوا لؤماء، وهذا الرأي يذكرنا قول البحتري:
إذا أحرجت ذا كرم تخطى
إليك ببعض أخلاق اللئام
عرفت طفلًا كان يقول إذا لم تجب أمه طلبه وإذا منعته من شيء: «آه، ماما الآن تحب الخبث والعناد. أو ماما مولعة بالشر» ولو فطن الناس إلى أحكامهم التي يحكمون بها على جيرانهم وأصدقائهم وأعدائهم لوجدوا أنها من هذا القبيل، فإذا مَدَحَنَا إنسان واسترضانا وكنا نعدُّه قبل ذلك وغدًا، عدنا نقول: إنه ليس بوغد إلى الحد الذي كنا نظن أو أنه عرف الحق فرجع إليه، والرجوع إلى الحق فضيلة فهو من أهل الفضيلة، إلى آخر ما يكون من أمثال ذلك.
إن صاحب النقص لا يكون خليقًا بسخر الناس منه والزراية عليه ومبالغتهم في ذلك إلا إذا بالغ في تكلُّف ضده، كالشيخ الذي يتكلَّف أخلاق الغلمان وطباعهم وعاداتهم وهيئتهم. أو كالفقير الذي يحاكي الأغنياء، أو كالجاهل الذي يظهر بمظهر العالم المتكلِّم، أو كالريفي الذي يحاول أن يقنع مجالسه أنه متقن عادات أهل الحضر وأنه منهم حذوك النعل بالنعل. وهذا يصدق أيضًا في تكلُّف إخفاء العيوب الجثمانية بما لا يخفيها بل يزيدها وضوحًا وينم عنها.
كثير من الناس يريدون أن يكسبوا الشهرة بعمل الخير من غير كلفة أو مئونة. ومن أجل ذلك قد يعرضون أن يصنعوا الخير لإنسان اعتمادًا على أن تعففه أو زهده أو حياءه أو قناعته أو شيئًا من أمثال كل ذلك يمنعه من قبول ما يعرضون عليه من المعونة، فيكتفي بشكرهم وبمدحهم لدى الناس وأن يذيع أنهم من أهل الخير. فإذا خيب ظنهم وقبل معونتهم وورطهم بذلك القبول، تغيَّر لونهم وتلجلجوا في الحديث، وقد يضمرون له المقت والضغينة ثم يغيرون موضوع الحديث، وإنما مَثَل هؤلاء مِثل من يدعون الناس إلى وليمة ولم يعدوا وليمة وليست عندهم مادتها، وإنما يختلفون عن أصحاب الوليمة الموهومة في أن ذاك سعى إلى خير، وهذا إلى طعام.
من الغريب أنه في أكثر لغات العالم يطلق الناس اللفظ الذي يدل على الفضيلة لما يدل على البلاهة، فتراهم يضحكون ويقولون: فلان رجل طيب — على نياته — وهم يريدون أنه أبله، أليس هذا مما يدل على اعتقادهم أن الطيبة وحب الخير وسلامة النية أدلة على البله، وأن عكس ذلك دليل على الفطنة؟ فهم يكشفون عن سريرتهم وسريرة الناس من حيث لا يشعرون.
أفراد الناس في الهيئة الاجتماعية مثل ذرات المادة في الكون: كل ذرة تقاوم وتضغط على ما يليها من الذرات، فتؤثر بهذا الضغط المتسلسل في الذرات البعيدة، وهذه تؤثر فيها بضغطها المتنقل المتسلسل، فإذا بطلت مقاومة ذرة في مكان ما انجذبت جميع الذرات من كل ناحية إلى ذلك المكان، فتسحق الذرة التي بطلت مقاومتها، وتحل غيرها مكانها. وهكذا الناس في الحياة.
إن من عاشر الناس واشترك في حوادث حياتهم كثيرًا ما يرى فيها ما لو كُتِب قصة عدَّه القارئ مبالغة من نسج الخيال الجامح، وأبَى أن يصدِّق أنها من حوادث حياتهم؛ ولذلك قيل إن الحياة قد تكون أغرب من الخيال، وقارئ تلك القصة قد يعدها نابية عن أصول الفن الذي يرخص في الخيال المهذب القريب من المعقول، ويقول إنها تعدت الخيال القريب المعقول، وما هي إلا قطعة من الحياة. وهذا يدل على أن تناقض أخلاق النفس أكثر في الواقع مما تظن. ومن أجل ذلك قال كاتب حديث وهو سمرست موام: إن مهارة القصصي في تقليم الحقيقة وتنسيقها ونفي المبالغة فيها والتأليف بين المتناقضين تأليفًا يزيل وحشة الخلاف وشك الغرابة، ويفسر اجتماعهما، ويلطف من حماقات النفوس وفجاءاتها غير المألوفة.
ومن نظرات شوبنهور ما يلي:
كثيرًا ما ينطق الإنسان بأقوال قد تضره معرفة الناس لها، ولكن قلما ينطق بما يجعله أهلًا للهزء والسخر. وهذا صحيح؛ لأن الإنسان بطبعه حيوان معجب بنفسه. ولكنه قد يكون مغرمًا بالظهور بين الناس — وهذا نوع آخر من الإعجاب بالنفس — فيؤدي به حب الظهور إلى أن يجعل نفسه أضحوكة، إذا لم يجد سبيلًا آخر إلى الظهور.
قد يتألم المرء من ظلم وقع به أو إهانة صغيرة مقصودة كانت أم غير مقصودة أكثر من تألمه من مصائب القضاء والقدر؛ لأن مصائب القضاء والقدر عامة ولا إهانة فيها ولا استعلاء إنسان على إنسان. أما الظلم أو الإهانة فإنها دليل على ظهور إنسان على إنسان باللسان وحده أو بالقوة أو بالمكر والحيلة فتشعر بالمذلة والنقص وتدعو إلى التفكير في الانتقام وتزيد حقيقة الإهانة والظلم في الذهن حتى لا تطاق. وقد يقدم المرء على الانتقام حتى ولو كان فيه أضعاف أضعاف مافي ذلك الظلم أو الإهانة من المضرة. وقد يؤدي انتقامه إلى ضياع حياته وهو يردد قول شمشون «علي وعلى أعدائي يارب» ثم هو قد لا يتلذذ الانتقام وإن فاز به، بل قد يجد له مرارة وحسرة.
كثيرًا ما يكون تجسس إنسان على إنسان لمعرفة أسراره سببه الحسد أو الملل والسأم. فهو قد يحسد إذ يعتقد أن إنسانًا نال من أطايب الحياة وملذاتها، أو ما يعده المتجسس ملذات وأطايب أكثر مما ناله ذلك المتجسس، فيلاحقه ويأخذ عليه نظراته وكلماته وأعماله في خلواته وجلواته، وكثيرًا ما تكون الضجة التي يدَّعي فيها الأشرار نصرة الفضيلة من نوع هذا الحسد.
في بعض الأحايين نود أن يحدث أمر، ونود ألا يحدث وألا يكون، فتجتمع في النفس رغبتان متناقضتان في وقت واحد، فمثلًا إذا كان لا بد أن نؤدي اختبارًا في أمر من أمور الحياة كي نصير ظاهرين مسرورين فإن الرغبة في الظفر والمسرَّة تغرينا بأن نود اقتراب موعد ذلك الاختبار، ولكن الخوف من الخيبة يغرينا أن نود لو تأخر موعد الاختبار، فإذا اتفق حدوث ما يؤخر ميعاده كأننا نحس بحسرة وأسف فمسرَّة لتجنب احتمال الخيبة مدة من الزمن، وأسف لتأخر ميعاد النجاح، والفوز بما نريد. وكثيرًا ما يتوهم الناس أن اجتماع الضدين في النفس في وقت واحد أمر محال وهو ليس كذلك، وقد فسر سيجموند فرويد هذه الأحاسيس الثنائية المزدوجة في كتاب الطوطم والطابو أي المقدَّس والمحرَّم، ووصفها عند الأقوام البدائيين.
لا يستطيع الإنسان أن يعرف مقدار ما في نفسه من الصبر والجلد على تحمل الألم، ومن القدرة على العمل العظيم أو على مكافحة الخطوب إلا إذا أتيحت له فرصة لاختبار نفسه، وقد تظهر في بعض النفوس قوى كانت كامنة، وكانت لا يعترف أحد لها بها حتى صاحب النفس قد تدهشه قواه الخفية إذا ظهرت، وإنما مثل الإنسان أمام نفسه مثل الناظر إلى بحيرة هادئة مصقولة كالمرآة ليس بها موج، فلا يستطيع الرائي أن يدرس عِظَم أمواجها التي تحاول أن تهشم الصخور، وذلك إذا هبت عليها الأعاصير، وبعض من يخاف وقع الخطوب قادر على مجالدتها ومناهضتها، وقد يعجز بعض من يخافها كما قد يعجز بعض من يبدي شجاعة في الأمور اليومية الصغيرة ولا تتعب حنجرته من وصف شجاعته. فإذا اختبرته الخطوب والمصائب ذلَّ وضعُف.
في أكثر لغات العالم اصطلح الناس على أن الصفات الشائعة بينهم صفات احتقار، فيقولون هذا أمر «شائع وعمومي ومبتذل ومشترك ومطروق ومألوف ومعروف. ويقولون فلان من العامة ومن الدهماء إلى آخر ما هناك من المترادفات» وهذا الاصطلاح في اللغات دليل واعتراف على أن الفضل غير شائع بينهم، بل يشذ به الآحاد، وأنهم إنما يشتركون في النقص.
بعد مكان الشيء يصغر من حجمه ويخفي معايبه، وهذا مثل العدسة التي تصغر أحجام الأشياء. أما العدسة التي تكبر الأحجام فإنها تكبر ما خفي من العيوب. وماضي الحياة يتأثر ببعده حتى تصغر متاعبه وحتى تألف الذكرى حسناته وتتغاضى عن سيئاته. أما الزمن الحاضر فلا ميزة له من هذه الناحية؛ لأن الشيء الصغير يبدو كبيرًا إذا كان قريبًا حتى إنه قد يحجب عن النظر ما هو أكبر منه حجمًا وأبعد مكانًا، ومن أجل ذلك تبدو متاعب الحياة اليومية شاقة عظيمة خطيرة، فتشغلنا وتثير قلقنا وأحاسيسنا المختلفة إلى أعظم حد ودرجة. ولكن إذا حملها الزمن في تياره وابتعدت عنَّا صارت حقيرة صغيرة، وقد ينساها الإنسان بعد أن شغلته وشقت عليه.
الإنسان يتبع ما دُرِّب عليه من الصغر ويعتقده ويسير على نهجه. وكثير من الناس يدربون على لون واحد من ألوان فضيلة من الفضائل وينزهون أنفسهم عما يقابلها من الرذيلة في شكل واحد دون جميع أشكالها ومعارضيها. فإن التجار من أصحاب الدكاكين ينزهون أنفسهم عن قطع الطريق وعن التلصص ليلًا والسطو على المنازل للسرقة، ثم يحسبون أنهم قد جمعوا أصناف النزاهة، فإذا اتهمت أحدهم بالسرقة شق عليه ذلك، مع أنه قد يغش المشتري في الثمن أو صنف البضاعة، فيكون سارقًا من غير شك. ولكنه لا يعد نفسه سارقًا، بل يرى أنه منزه عن السرقة. وقس على ذلك فضائل الناس ورذائلهم في أحوال الحياة المختلفة. وشبيه بذلك أن الرجل الموصوف بالشجاعة قد تكون شجاعته مقصورة على أمور دون أمور، وكذلك الجبن.
الأمل هو تحول الرغبة في حدوث شيء إلى توقع حدوثه، حتى لقد يكون التوقع قريبًا منظورًا بالرغم من أن فرص احتمال الحدوث فرصة في الألف أو في مئات الآلاف، كما في توقع الكسب من أوراق اليانصيب.
قد نرى أشجارًا على بعد فنعجب لجمالها، فإذا اقتربنا منها وجدناها شيئًا مألوفا لا كما صورت لنا. وهذا مثل سعادة أكثر الناس، فإنا نرى سعادة السعداء على بعد ونغبطهم عليها، فإذا اقتربنا منها وبحثناها زالت روعتها أو أكثر بهجتها؛ لما في حياتهم من آلام ومتاعب وأمراض ومشكلات، فإن السعداء غير معفين من هذه الأمور بل يشاركون الناس فيها.
من أسباب خطئنا في الحكم على الناس أننا نفرض وجود الصفات المتجانسة. فمثلًا نرى الكرم: فننسب إليهم النزاهة والشرف والنبل، وننسى أنها قد تجتمع، وقد لا تجتمع، ونرى الكذب: فننسب إليهم المكر والغش والاختلاس والسرقة، وقد لا تجتمع.