ما كانت الفضائل تستطيع أن تغزو لها مكانًا في العالم كما غزت، لولا أنها كثيرًا ما تكون ممزوجة في أنفس أصحابها بشيء من الإعجاب بالنفس يذيع دعوتها، ويعلن عن شأنها، ويكافح من أجلها وأجل أصحابها. وقد يختلط الإعجاب بالنفس بالإعجاب بتلك الفضائل، فهو وإن كان يهيئ لها جندًا وأعوانًا، فإنه كثيرًا ما ينقص من طهارتها وكمال نُبلها، أو قد يقضي عليها بما يدعو إليه الإعجاب بالنفس من شرور الأَثَرَة. فإن المرء قد يرتكب الجرائم ويؤذي من خالفه؛ لأنه يَعُدُّ مخالفه أو عدوه مخالفًا وعدوًّا للفضيلة ومناصره مناصرًا لها، وإن قلَّ حظه منها.
إذا أسفنا لِنَبْوَة من نَبَا عنَّا فإننا قلما نأسف لافتقاد المتعة بعقله وأدبه، بل كثيرًا ما نأسف لأننا فقدنا بفقده رمزًا يدل الناس على ثقة بعض الناس بنا وحسن رأيهم في عشرتنا ورغبتهم في أن يكونوا معنا — فنعتز بالأصدقاء في أعين الناس ونزيد بهم قدرًا وجاهًا، أي أن الأسف لنَبْوَة صديق أساسها الأَثَرَة وحب النفس — ولكن هذا الأساس لا يمنع من أن تكون الفضيلة فضيلة، فكثيرًا ما يختلط الإيثار بالأثرة في النفس حتى عُدَّ مظهرًا من مظاهرها إذ أن النفس تنشد في الإيثار شيئًا يرضيها ويريحها، بالرغم مما تتكلفه بسببه، وما يرضيها ويريحها منفعة لها وإن كانت مطلبًا نبيلًا.
في بعض الحالات يخالف المرء منهاج حياته ونفسه كما يخالف غيره من الناس؛ وذلك لتعدد نزعات النفس المتغايرة الخفية، ولكن الناس كثيرًا ما يحكمون على المرء أنه يسير على وتيرة واحدة وطبع لا يخالفه طبع، وصفة لا تغايرها صفة، وقلَّما يدركون تغيره وخلافه لنفسه إلا إذا تغيَّروا له، وكان لهم مأرب في تغيير حكمهم عليه، فإذا حدث ذلك ربما اتهموه بمخادعتهم، وربما كانوا هم الذين خدعوا أنفسهم به. وسواء أفطنوا إلى أنهم هم الذين خدعوا أنفسهم أم لم يفطنوا فإنهم قد يُحمِّلونه جريرة قصر نظرهم أو خداعهم لأنفسهم طوعًا فيتضاعف ذنبه لديهم. وقد يكونون معذورين في انخداعهم؛ لأن الحياة تفرض التجانس في صفات النفس الواحدة؛ كي يسهل فهمها ومعاشرتها، حتى إن الصفات المتناقضة قد يكون بينها شيء من التشابه والانسجام والتجانس ما دامت في النفس الواحدة.
في بعض الأحايين يفضل المرء أن يُحرَم من أن يُنسَب إليه خير صنعه عن أن يعرف الناس الأسباب الحقيقية التي دعته إلى عمل ذلك الخير، فيظهر من الأسباب غير ما يبطن.
لعل أعظم النجاح في المهارة التي بها يقنع الماهر الناس أنهم لا يستطيعون ضرره من غير أن يصيبهم ضرر فيهابونه ويتجنبون أذاه، وقد يسعون فيما ينفعه هيبةً واتقاءً لشرِّه — ولكن لا يستطيع كل إنسان إقناع الناس على هذه الطريقة، بل إنها قد تكون عاقبتها وخيمة لمن لا يتقنها ومن لا يعرف أساليبها ودهاءها ومستلزماتها؛ لأنه إذا خاب ولم يقنعهم أو إذا رأوا أنهم يستطيعون أن يقضوا عليه وعلى وسائله بأن يبادروه بالعداء بادروه به وحاولوا القضاء عليه، وقد يفعلون؛ فإذًا ليس من الكياسة أن يحسب المرء إظهاره العداء للناس أو تهديدهم كافيًا لنيل احترامهم وهيبتهم إياه.
من العيوب ما يمتزج بفضائل بعض الناس كما تمتزج العقاقير السامة في الأدوية بمقادير لا تسم، على أنه لو حاول المرء وتعمد مزج فضله بعيوبه السامة قضى على فضله وفضيلته. إلا أن الحياة نفسها قد تخرج من الشر خيرًا، كما أن بعض الخير قد يكون من عواقبه الشر.
من الصعب أن يحب إنسان إنسانًا تجرَّد من كل دواعي الاحترام. ومن الصعب أن يحب إنسان إنسانًا بذَّهُ وشآهُ. فالنفس تأبى في أكثر الأحايين أن تحب من تجرَّد من كل دواعي الاحترام ومؤهلاته. ولكن أَثَرَتها تأبى أن تحب من تستصغر أمرها وتزدري شأنها عند استجلاء عظمته وعلو شانه وإن كانت تحترمه سرًّا أو علانية، ولكن الحالات الشاذة قد توجد في الأمرين.
من الصعب أن تحترم النفس من لا خير له ولا شر.
كثير من الناس عدُّوا من العظماء بالرغم من شرهم الكثير — وهذا يذكرنا قول هنري هين الشاعر الألماني «إن شجرة الإنسانية قلَّما تذكِّر بالزارع الذي سقاها ورعاها، وإنما تذكِّر بالعادي الذي حفر اسمه على جذعها بمديته» — نعم إن سير العظماء الذين شكلوا حوادث التاريخ والأمم ونشروا الحضارات كان يمازجها شر كثير مسرف، وهذا مشاهد في حياة أمثال الإسكندر المقدوني ويوليوس قيصر، ونابليون بونابرت؛ ولكن إذا كان الناس في بعض البيئات يرفعون المجرمين الذين يعبثون بالأمن إلى مراتب البطولة، فلا غرو أن يفعل الناس ذلك مع من صهروا الناس بنار حروبهم وأنزلوا بهم شرًّا كثيرًا إذا كانت عاقبة ذلك نشر الحضارات والآراء.
إن العظماء لا يمتازون عن غيرهم من الناس بعِظَم فضائلهم، وإنما يمتازون عنهم بعِظَم ما يعملون وما يقولون — وهذه النظرة تفسر السابقة، وليس معناها أن العظماء أقل فضائل، وإنما يعني أن الناس تتوقع خلوهم من النقص خلوًّا تامًّا بسبب ما يبهرهم من آيات عظمتهم، أو أنهم يريدون توريطهم بمطالبتهم بتلك العصمة، أو أن بروزهم مما يبرز نقصهم، أو أن مايزاولون من عمل الخير ربما جرَّ شرًّا ونقصًا.
من نظرات ليوباردي:
المكر — وهو من جهود العقل والذكاء — قد يلجأ إليه الماكر كي يخفي نقص عقله وذكائه، وذكاء المكر هذا كثيرًا ما يلجأ إليه الناس في البيئات التي حال فساد الحكام فيها دهرًا طويلًا دون تعهد العقل بالتربية والتثقيف، فترى فيهم الجهل وقلة النمو الفكري والسذاجة وشيئًا من الغباء، ومع ذلك يُرى أيضًا نوعًا من ذكاء المكر تعوضهم به الحياة عما فقدوه.
في بعض البيئات التي بين الحضارة والهمجية إذا كان الرجل فقيرًا جدًّا احتقره في سريرتهم من هم أحسن منه حالًا من الناس، حتى يكاد يسقط وينزل في نظرهم عن مرتبة الإنسان، وإذا كان غنيًّا لم يكن آمنًا على حياته بسبب الحسد والرغبة فيما عنده — وهذا صحيح في البيئات التي يثري فيها المرء باستخدام قوته أو احتياله أو سلاحه ويفاخر باستخدامها جميعًا، وفي هذه البيئات يحتقر الناس من يجبن عن استخدام القوة أو السلاح أو الحيلة لدفع عادية الفقر الشديد، وكما يحتقرون مثل هذا الفقير فإنهم يجِلُّون المجرم العابث بالأمن حتى إنهم قد يلبسونه صفات البطولة والعظمة، وكثيرًا ما تتم هذه الصفات حيث لا يجد المرء فرصة لنيل ما يستحق بسبب المحاباة والظلم والرشوة واحتيال الحكام لتسخير أداة الحكم في أغراضهم. وقد تكون هذه الصفات بسبب آثار حكم مضى، وعهد سابق وأحوال في الحكم انقضت. وقد يكون العهد السابق والحكم الغابر قد خلَّف في نفوس الحكام والمحكومين خصالًا مستعصية باقية.
في بعض الأحايين يمدحنا مادح بسبب أعمال أو صفات طالما ذممناها في غيرنا، فنسرع إلى مدح تلك الأعمال والصفات — ويحجم المرء عن المآثم والنقائص إذا خاف لوم الناس أو بغضهم أو ذمَّهم أو عقابهم، فإذا وجدهم يمدحون تلك المآثم والنقائص ويحبذونها ويزينونها أقدم عليها غير هيَّاب ولا وَجِل، وهذا لا يمنعه من مؤاخذة غيره على ما يفعل مثله إذا وجد لنفسه فائدة، ولكنه يحاول أن يفرق بين عمله وعمل غيره، وإن لم يكن بينهما فرق.
أكثر ذوي الفضل كانوا على بساطة في السلوك والعادات، ولكن من الغريب أن الناس تعدُّ تلك البساطة دليلًا على قلة الفضل والعقل — وذلك إما لأن تلك البساطة تشابه في أذهانهم صفات الطفولة أو البلاهة، وإما لأن البساطة تنافي التكلُّف لهم الذي يغري بالظهور بالمظهر الذي يرضي رغباتهم وفوائدهم، وهذا التكلُّف لهم، منبعه مكر اللباقة الذي يعدُّونه أعظم مظاهر العقل ومزاياه؛ لأنه يحوطهم بما يشاءون، وكل هذا التكلُّف قد يخالف بساطة العظماء، ومن أجل ذلك يعدها الناس نقصًا في الفضل والعقل.
مهما بلغ المرء من اشمئزازه من الدنيا وأحوالها بعد اختبارها، فإنها لو أومضت له وابتسمت ودعته إليها لبَّاها وصالَحها وابتسم لها بعد العبوس ورجع إلى الائتناس بها ولو بعض الرجوع، وكذلك حاله مع من يتودد إليه، ممن اختبرهم وساء رأيه فيهم، فإذا لم يعد لعشرتهم إذا توددوا له قلَّ سوء رأيه فيهم.
يحسب المرء أنه إذا خاب، حزن أصدقاؤه ومعاشروه لخيبته، وإذا نجح فرحوا بنجاحه، ولو كُشِف له عن مكنون سرِّهم لوجد فيه عكس ذلك في كثير من الأحايين — أو على الأقل يجد بجانب الأسف لخيبته شعورًا بالمسرَّة، ويخالطه مخالطة النقيض للنقيض، وبجانب السرور لنجاحه شعورًا بالامتعاض والاستخذاء يناقضه، ولكنه يخالطه، وقد يجد ذلك حتى عند أقاربه وعند من ينتفع بنجاحه ويخسر بخيبته من الناس؛ لأن النفس لا تستطيع أن تتغلب على أَثَرَتها كل التغلُّب وإن تغلَّبت على بعضها.
أكثر الناس لا يخجلون من الأذى الذي يصنعونه للناس، وإنما يخجلون من الأذى الذي يصنعه بهم غيرهم؛ لأنه ينقص من أقدارهم لدى أنفسهم — أما إذا خشي المرء أن يخجل إذا ظَلَم غيره فإنه يعمل على أن يُشرِك الناس في ظُلم المظلوم، فإذا نجح في حمل الناس على مشاركته في ظُلم المظلوم أمن من الخجل ومن تأنيب الضمير، ولقد كان الطغاة قديمًا يتخذون من الناس رجلًا يكون أداةً لتنفيذ ظلمهم، حتى إذا لم يعد صالحًا لتنفيذه قضوا عليه واتخذوا غيره، وبذلك ينالون أغراضهم كما ينالون حمد الناس إذا بطشوا بأداة ظلمهم.
الدنيا كالمرأة الجميلة المعشوقة لا ينال الفتى لديها حظوة بالخجل والحياء، فمن أراد أن يعلو حظه وجب عليه أن يودِّع الحياء، وأن يكون لسانه بوقًا يدعو الناس إلى الاعتراف بمزاياه الحقيقية أو المزعومة، أو أن يجد أناسًا لهم رغبة وفائدة في أن يكونوا أبواقًا له، أما إذا انتظر حتى يُسرِع الناس للبحث عن فضله وإعلانه فإنه لن يرى إلا من يُسرِع إلى إخفائه.
لو حوسب كل إنسان على ما يقوله في غيبة أصدقائه لَمَا رضي أن يقولوا فيه مثل ما قال فيهم، فإنه مهما كان مخلصًا لهم لا يسلم لسانه من سقطات في غيبتهم لا ترضيهم. وهو — بالرغم من ذلك — يدهش إذا بلغه أن أحدهم قال فيه مثل ما قال فيهم، ويعدُّ نفسه مظلومًا لا يجد جزاء إخلاصه وسلامته لهم في غيبتهم.
قلَّما يكون البعيد عن الناس القليل الاختلاط بهم مسيئًا الظن بهم، إلا إذا كانت العزلة بعد المخالطة. فليس أسوأ رأي في الناس مما يرسخ في النفس بقراءة الكتب التي تعلِّم سوء الظن بالناس، وإنما يكون هذا المقتَبَس من الكتب كلامًا غير راسخ في النفس؛ لأن العشرة هي التي تفطن إلى سوء الرأي في الناس، بسبب مرارة اختبارهم — وليس أشد الناس سوء ظن بهم المعجب بنفسه، وليس من الحتم اجتماع الإعجاب بالنفس وسوء الظن بالناس، فإننا قد نرى الرجل الشديد الإعجاب بنفسه عظيم الثقة بها، وثقته بنفسه قد تدعوه إلى حسن الظن والرأي، فيحسب أن الناس يعجبون بنفسه كما يعجب، فينشرح صدره للعطف عليهم ولا سيما أن ذلك العطف يتفق وما في نفسه من العظمة المزعومة التي تقضي أن يشمل الناس ببركات خيرها، وإذا ظهر منه غير ذلك من سوء الرأي في الناس كان سحابة صيف عن قليل تتقشع.
من نظرات شوبنهور:
مما يجعل الإنسان غير مبال تعاسة التعساء ولا آبه لها، أنه يعتقد في نفسه العجز عن تحمل متاعب أكثرمن متاعبه؛ ومن أجل ذلك إذا حسن حال إنسان بعد ضيق وبؤس فقد يعطف على أهل البؤس إما سرورًا بنجاته من مثل حالهم وإما خشية أن يعاوده البؤس فهو يرحم نفسه إذ يرحمهم، وأما الذين لم يصادفوا في حياتهم بؤسًا فإنهم كثيرًا ما ينصرفون عن العطف على أهل البؤس؛ لأنهم يرون أنفسهم بمأمن من غوائله، فلا يستطيعون أن يضعوا أنفسهم مكانهم — على أنهم لو حاولوا وضع أنفسهم مكان أهل البؤس لنفروا من هذه المحاولة وتأففوا وامتعضوا، ومن الجائز أن النعيم يضعفهم فيريدون أن يتجاهلوا ما يؤذي سمعهم وبصرهم من مناظر البؤس، على أن الكفاح للخروج من الضيق، إذا نجح، قد يعود بعض الناس برودة الطبع والقسوة؛ إذ يعدُّ كل معاملة للناس قتالًا كالذي تعوَّده في الكفاح، ويرى أن الحياة معركة لا يظفر بالنصر فيها من يترك القتال كي يضمد جروح الجرحى؛ فينسيه هذا الرأي فائدة التعاون.
قد يكون سبب سعادة الإنسان ونجاحه في الحياة أن له ابتسامة سارَّة يبتهج الرائي عند رؤيتها وينشرح صدره، فيعطف على صاحبها ويصنع له كل خير يريده. وقد يحسب الرائي بهجة هذه الابتسامة وحلاوتها من طيبة قلب صاحبها، واستقامته وسلامة صدره من الشر والأذى والأحقاد، وهي قد تكون كذلك، وقد لا تكون — إذ ربما كانت من تكوين الوجه وشكل خلقته، من غير حقيقة خلقية خلف ذلك التكوين، أو قد تكون من لباقة المخادع الماهر في إخفاء سريرته — فينبغي لمن يغتر كل الاغترار بمثل هذه الابتسامة أن يتذكر قول شكسبير في قصة هاملت «قد يكثر المرء من الابتسام وهو وغد». ولكن من ذا الذي لا يغبِط صاحب هذه الابتسامة التي هي مفتاح القلوب والخير؟
بعض ذوي الكفاية العظيمة في أمور الحياة أو العبقرية لا يحاولون إخفاء عيوبهم ولا سيما إذا كانت من الأخطاء أو العيوب التي يعدها الناس بالحق أو الباطل من لوازم تلك الكفاية العظيمة ودليلًا عليها، وهم لا يحاولون إخفاء عيوبهم أو أخطائهم لأنهم يرون أنهم قد أدوا ثمنها من كفايتهم، وبالعكس نرى بعض من عدموا الكفاية النادرة وإن كانوا لا بأس بهم يحاولون الظهور بمظهر العصمة، ويتألمون ويتملكهم الغيظ إذا ظهرت أخطاؤهم، ويحاولون أن يقنعوا الناس أنهم معصومون، وما ذلك إلا لأنهم ليس لهم فضل عظيم نادر من أجله تغتفر سيئاتهم — بالرغم من ميل الناس إلى التشفي من أهل الفضل بنسبة النقص إليهم — فمزية من لا فضل له لا تتحقق لدى الناس إلا إذا خلا من الأخطاء، وقد تبالغ كل طائفة في خطتها: فالطائفة الأولى في رفع الكلفة، والطائفة الثانية في استخدام كل وسيلة مهما كانت ظالمة لإثبات خلوها من العيوب ونقلها إلى غيرها، وهناك طائفة ثالثة هي من أهل العجز يحاكي آحادها ما يحسبون أنه من عيوب ذوى الكفاية؛ كى يسلكوا في زمرتهم ويُعَدُّوا منهم.
من الجائز أن يحزن إنسان لموت خصم أو منافس أو عدو حزنًا كثيرًا إذا افتقد ذلك الإنسان خصمه الميت عند النجاح والظفر، فيود لو كان حيًّا كي يرى كيف ظفر في الحياة بعده بالنجاح والسعادة ولم يظفر الميت، وهذا نوع من الحقد والتشفي من الميت يكون عند ذوي النفوس الدنيئة.
رغبة الإنسان في أن يظل شهيرًا بعد موته إنما هي مظهر من مظاهر حب هذه الحياة الدنيا.
إذا غالى الناس في اعتناق رأي أو مبدأ أو مذهب فلا بد أن يعودوا في المغالاة إلى ضده حتى تستقر حياتهم بين الطرفين، وإنما مثلهم في الذبذبة مثل رقاص الساعة.
كل فضيلة من الفضائل لها رذيلة من نوعها، وكل رذيلة لها فضيلة من نوعها، ومن أجل ذلك كثيرًا ما نخطئ في الحكم على الناس، فقد تنسب إلى إنسان الفضيلة التي هي من نوع رذيلته أو الرذيلة التي هي من نوع فضيلته، فيظن الحازم المتأني جبانًا، والمقتصد المدبِّر بخيلًا، والمبذِّر المتلاف سخيًّا كريمًا، وسيء الأدب صريحًا مستقيمًا، والأحمق متحليًا بفضيلة الثقة بالنفس … إلخ.
كثير ممن يجعلون عِظَم منزلة الإنسان في العالم بسبب فضائله وعقله يشتطون في القسوة في الحكم إذا حكموا في معاملة آحاد الناس إذ يطالبونهم بما يناسب عِظَم منزلة الإنسان التي أساسها الفضائل والعقل؛ ولكن الفضائل كثيرًا ما تخذل الإنسان ولا تواتيه، والعقل كثيرًا ما يسخف أو يخطئ أو يسهو، فعِظَم منزلة الإنسان في الكون بسبب ما هو معرَّض له في حياته من آلام ومصائب وعذاب، وجهازه العصبي أرق من جهاز غيره من الحيوانات فهو مرهف الحس وله خيال يصوِّر له آلامه وعقل يشغل بها؛ فإذا عاشرت إنسانًا لا تنظر إلى ما في إرادته من شر وما في عقله من قصور، وما في آرائه من سخف أو هوى، فإنك إن فعلت ذلك كرهته أو احتقرته، بل انظر إلى آلامه من واقع منظور وإلى حاجاته وتعبه في الحصول عليها وإلى بواعث القلق في حياته فإن من يتحمل كل ذلك خليق بالعطف والمحبة والإعظام.
قصور العقل وسوء الخُلُق أمران مختلفان قد يجتمعان وقد لا يجتمعان، ولكن قصور العقل قد يساعد على إنشاء رذائل صاحبه فتحسب أنها ناشئة منه. فالغباء كثيرًا ما يُظهِر دناءة صاحبه وشره بينما العاقل الحازم قد يدرك وسائل إخفاء شره ويستطيعها، فيحسب أنه خالٍ من الرذائل وأن العقل وحسن الخُلُق متلازمان أبدًا، كذلك سوء الطبع قد يستهوي صاحبه فيمنعه من إدراك الحقائق التي لولا سوء خلقه وطبعه لاتضحت لعقله، وقد تتضح في حالات دون حالات.
كل حيوان لا يقسو إلا ليأكل أو للدفاع عن نفسه. أما الإنسان فإنه قد يقسو من غير داعٍ إلا التلذذ بالقسوة. فهو كما سماه العلَّامة «جوبينو» صاحب كتاب «الأجناس البشرية»: «الحيوان الذي بذَّ كل الحيوانات في خبث طبعه وشرِّه»، وإذا وُجِد حيوان يقتل أكثر مما يأكل، فما ذلك إلا كما يقول الفرنسيون في أمثالهم: «عينه أكبر من معدته» — فالإنسان قد يقسو من غير فائدة لنفسه إلا التلذذ بالقسوة، وقد يبلغ هذا التلذذ مرتبة الجنون، وكثيرًا ما نسمع عن حوادث تعذيب ترتكبه حتى بعض الأسر المحترمة في عهد الحضارة والثقافة. وكأن شهوة القسوة تفرِز في جسم الإنسان سُمًّا زعافًا يتجمع كَسُمِّ الأفعوان وينتهز أقل سبب وأصغر فرصة كي يؤذي به بعض الناس أو الحيوانات. ولعل التلذذ بقسوة الألفاظ المؤلمة والنظرات التي تنم عن القسوة وبالدسائس والمكائد كلها أنواع من التلذذ بالقسوة هي عِوَض سيكولوجي عما كان يصنعه الإنسان في أيام الهمجية بأعدائه وأسراه وعبيده تلذذًا بالقسوة لأجل القسوة سرًّا وعلانية من غير رادع؛ ومن العجيب أن بعض المرضى بمرض نفسي أو عقلي يلتذون ألم قسوة غيرهم بهم، وما دام الإنسان يقتتل على الحياة وهو رقيق الجهاز العصبي وذو خيال وعقل فلا سبيل إلى محو طبع التلذذ بالقسوة كل المحو — إلا إذا أسعف طب الغدد الحديث — وربما كان تلذذ الإنسان بالقسوة لشدة فرحه بأن الألم نال غيره ولم ينله. فهي نوع من الجبن أو وسيلة للنجاة من الخوف على النفس.