الكاتب: محمد حسين هيكل
الناشر: مجلة السفور
تاريخ النشر: 10 ديسمبر 1915
المناسبة: مقالة ضمن ثلاثة مقالات نُشِرَت أثناء الحرب العالمية الأولى، دافع فيها الدكتور هيكل عن السلام وما تفيده الإنسانية والحضارة منه، في مناظرة بينه وبين الدكتور طه حسين دافع فيها عن دور الحرب في حياة العالم.
يتعثر الطفل أول ما يمشي، وكثيرًا ما يقع فيصيبه الأذى على أثر وقوعه، ويهفو الشاب فيقاسي الآلام على أثر هفواته، ويبقى الإنسان كذلك حتى تحنكه التجربة وحتى يبلغ الرجولة، فإذا بلغها لم يبق محل لأن يغتفر له ما كان يغتفر للشاب وللطفل، وأصبح بحيث تؤخذ عليه الزلة ويُلام على الهفوة.
كثيرون يصفقون لهفوات الشبيبة، وهل الشباب إلا ربيع الحياة فكل ما فيه جميل! وآخرون ينظرون لها بعين التخوف، والوجل، وينتظرون أن تمر بسلام، فيكون من تذكُّرها بعد ذلك موضع لتأمل العقل الناضج واستفادته، أولئك الآخرون لا يقصرون نظرهم على الحاضر القريب، فيهنئون الشباب بكل ظفر قد يجر عليه ويلًا، بل هم يمدون البصر إلى ما بعد ذلك، وينتظرون اليوم الذي يكمل فيه الرجل فيقدِّر كل شيء قدره، وغاية الحياة الرجولة الكاملة، أما ما بعد الرجولة من الكون فتدرك إلى الموت.
مَثَل الإنسانية مجتمعة مَثَل الفرد في تطوره، وهي إلى الآن لم تبلغ حد الإدراك؛ لذلك تراها تتخبط ذات اليمين وذات اليسار آملة هدًى ولمَّا تهتدِ، وكما يجد الشاب من يحبذه في تخبطه ويزداد تصفيقًا له، وإعجابًا به كلما صادفه الضلال في مسيره، كذلك تجد الإنسانية من يحبذها كلما ازدادت ضلالًا في تلمُّس طريق الصواب، ومن المحبذين من قد يكون حسن النية.
على أن في الزلات درسًا قد يفيد، وأقل ما يفيده تجنبها. ولكن تجنب الزلة، إنما يكون بعد تكررها وبعد أن يصل صاحبها إلى حد من الإدراك يستطيع معه كبح جماح شهوته، والتغلب على نفسه، والحذر مما سبق أن وقع فيه.
لذلك ولأن الإنسانية لا تزال تغالبها شهوات الوحشية وتغلبها، نرى الحرب وهي أكبر زلاتها لم تزل باقية، ولا يزال لها أنصار يحبذونها، ويحبذونها على نحو ما يحبذ به عامة الناس وارثًا يضيِّع تراثه بين يدي اللهو والشهوة. وكان لها عليه من السحر ما لعربات ذلك الوارث، وخيوله، والغانيات ينمن فوق صدره عند جماعة العامة. غدًا يصبح الوارث معدمًا أو يكاد. غدًا يكون خرابه، ثم من يدري؟ ربما أسعده الحظ فاستعاد بعمله ما يقيمه في مركزه، أو على الأقل ما يعزيه على مصيبته، ولكنك يومئذ تراه أحرص ما يكون على مركزه ونفسه.
كذلك متى أدركَت الإنسانية يومًا ما رأت فظائع ماضيها التعيس. رأت الشقاء الذي يخيم على الأفراد، والتعس الذي ينتاب المجاميع الصغيرة من جراء نظام العائلة والوراثة والذل الذي يصيب الأمم من العسف والتحكم. ورأت أساسًا لذلك البلاء كله غلطتها الفظيعة التي ارتكبتها جيلًا بعد جيل. رأت الجريمة الشنعاء التي طالما جاهدت للتكفير عنها، ثم إذا هي عاودت ارتكابها، وكانت في عودتها أشنع وأبشع، رأت الدماء السائلة والرؤوس الطائرة، والأطفال الصارخة، والنساء المتأيمة، والآثار المُخربة، ورأت واقفًا على أطلال ذلك كله شيطان الظلم والقسوة، النافخ في بوق الحرب المنادي باستعباد الأمم واستذلال الشعوب، وإقامة التفرقة بين الطوائف، الواضع نظام الأرستقراطية، وإذلال الضعفاء للأقوياء، والفقراء للأغنياء، المعلي على رؤوس الملأ استهزاءه بالعدل، والحق، والإخاء، والرحمة. هذا ما ستراه الإنسانية يوم تبلغ رشدها، ثم ترجع البصر إلى ماضيها.
لا أحسب من بين العقلاء من يتمدح بالحرب إلا رجلًا واحدًا. ذلك الرجل هو المعري أو من على شاكلته، فأساس فلسفته أن الوجود شقاء بذاته، وخير ما يُرجى للناس الخلاص منه، ولا شك أن الحرب أسرع من كل الأوبئة فعلًا، وأقرب ما يكون لتحقيق خلاص الناس من الحياة.
ولعل «تاسيت» يرمي لهذا الرجل حين تمجيده الحرب، فلقد رأيناه رغمًا عن تراجعه عن ادعاء الفلسفة ابنة الحرب، وتمسكه بأهداب الخيالات، واعتباره الإلياذة وغيرها كلها أسس المدنية، لا يرى الحرب خزيًا للإنسانية وعارًا، بل يعدها أساسًا من أسس المدنية، فإن كان منتهى ما تريده المدنية هو ما أراده المعري للناس فأكرِم برأي «تاسيت» وبفكرته، فهي من بين الأفكار لا شك المصيبة.
أما إن كان يريد ما يقول فهو ذلك الذي يحسب الإنسانية بلغت مبلغ الكمال في حين هي لم تدرك بعد، وفي حين لا تزال في تخبط الصبا، والوقوع في زلات الشهوات، ولو أنه راجع التاريخ الذي يُكثر من الإشارة إليه، وذكَّر نفسه كم قليلة هي الخطى التي قطعت الإنسانية في سبيل الوصول لشيء يكاد يكون هو الحق، لاقتنع كل الاقتناع بأن الإنسانية لا تزال في دور الطفولية، وأن ما يحبذه ليس هو إلا تلك الكبوات التي تتناوشها أثر استرسالها وراء شهواتها.
وما كان لنا أن نطرح في موضع الجدل حاضر الإنسانية ومستقبلها، وبالأخص في تلك الأنهر الضيقة التي تحملها صفحات الصحف، ولكن إكبار أمر الحرب واعتبارها أساس المدنية استنتاج غير صحيح، والذي استفادته الإنسانية من الحروب صغُر إلى جانب ما أفسدت الحروب على الإنسانية، وما كان أغنى الإنسانية عن الإلياذة وأحوجها من هوميروس إلى خيال أرق وأصفى وأدنى إلى الحب والرحمة. ولم تكن عبقرية هوميروس لتقف دون الإلياذة، لو لم تكن تلك الحرب التي أذكت في نفسه شيطانها، لهذا كله رأينا أن لا تترك القسوة التي تعم العالم بالفعل تتسرب حتى إلى أشد الأفكار حيادًا وأقربها إلى الإنسانية السليمة.
على أنَّا نكرر هنا أن لن تنهد عزائم أنصار السلام، فما الحمى التي تهز العالم اليوم إلا الأنانية تقتل نفسها، وقريبًا تلقى مصرعها، ليست هي إلا احتقار الشناعة والقسوة، وهي في يقيننا فاتحة عصر التضامن، والحرية، والإخاء.