حَفظَت ذاكرتي منذ الزمن الذي كان يُتاح لي فيه درس مسائل العمران والقراءة في كتب ابن خلدون وأمثاله عنوانًا لفصل من فصول هذا الشيخ العربي هو: «أن المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيِّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده».
ودفعني الحنين والشوق إلى رفاق الصبا من بعض الكتب، فاستحضرت مقدمة العلَّامة العربي الجليل، وقلَّبت صفحاتها بعد أن طال عهدي بذلك، وقرأت منها ما يأتي:
«لذلك ترى المغلوب يتشبَّه أبدًا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه … بل وفي سائر أحواله».
وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تجدهم متشبِّهين بهم دائمًا، وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم، وانظر إلى كل قطر من الأقطار كيف يغلب على أهله زي الحامية وجند السلطان في الأكثر؛ لأنهم الغالبون لهم، حتى أنه إذا كانت أمة تجاور أخرى، ولها الغلب عليها، فيسري إليهم من هذا التشبُّه والاقتداء حظ كبير كما هو في الأندلس لهذا العهد من أمم الجلالقة، فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم وأحوالهم … حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء، والأمر لله!
وقرأت في كتب مفكري الغربيين ممن تأخروا عن زمن ابن خلدون ما يؤيد مذهبه، وقد يؤيد الواقع المشاهَد صدق ما ينتهي إليه مذهب علماء الاجتماع من أن التقليد من سنن الحياة الاجتماعية وقوانينها الظاهرة، ولعله من المحتوم المقضي به علينا أن نقلد الغربيين في فترة من فترات الزمن، وكان ذلك في التعليم أو في غير التعليم ما دمنا نشعر بأننا في موقف الضعيف المغلوب على أمره، وما دمنا نستكين إلى هذا الموقف المخفوض.
حقًّا إن الكثير مما لحقنا من الغربيين واتخذناه من مكتشفاتهم، واصطنعناه من مخترعاتهم كان لا بد لنا من اتخاذه واصطناعه؛ لأن الخبرات التي تثمرها عقول البشر ليست وقفًا على ناحية من نواحيه دون غيرها. ومنذ القديم أخذت الأمم بعضها عن بعض، وتبادلت ضروب الثقافات، وتعاونت العقول والجهود في سبل الكمال، لكن هناك فرقًا بعيدًا وبونًا شاسعًا بين من يأخذ عن غيره، ويستعين بطرائق هذا الغير ليستفيد بها لإنعاش قواه الكامنة وآماله المتولية وتصوراته الفنية الخاصة؛ وبين من يأخذ للفقير ليركن إلى ما يأخذه، فيعطل قواه المواتية، ونشاطه الكمين، ويقضي على آماله وتصوراته الذاتية، شتَّان شتَّان بين من يتخذ سلاح الغير ليقهر له، وبين من يتخذ سلاح الغير ليكون له قرينًا ونظيرًا أو ليكون له إمامًا، وشتَّان بين من يدعو للتقليد، ويردد الدعوة للتقليد، ولا يدعو لغير التقليد والمشابهة، وبين من يتخذ من التقليد مدعاة للمغايرة والابتكار.
وإني لأسائل نفسي: أيرضي عزتنا القومية أن نظل واقفين موقف الذلة لنتطلع إلى ما عند الغير، ونقيد أبصارنا بما في يد الغير دون أن يكون لنا ومنا ما يغري غيرنا بالنظر إلى ما في يدنا والاقتداء بما عندنا؟ أَوَلَا يرى من يريدنا ويدعونا إلى أن نمعن في الاقتداء بالغربيين في مسائل الثقافة أو في غيرها أنه إنما يدعو في نفس الوقت إلى استساغة مواقف الاستكانة والركون إلى الانقياد؟
لعل قائلًا يقول: ماذا يفيدنا ترديد الأماني في أن تكون لنا شخصية مميزة وها نحن أولاء قد عصرنا ما نتخذه من مُثُل الغربيين ونحتذيه من أنظمتهم؟ وقد يقول ذلك القائل: إن شأنكم في مثل ذلك شأن الغريق في وسط البحر اللجي تمر على خاطره خيالات الشاطئ وأحلامه، وهيهات هيهات أن يبلغه!! … وقد يقول مثل ذلك القائل اللاحي: ما لكم يا قوم تتخيلون لأنفسكم صورًا شرقية أو عربية، تملأون أشداقكم بأناشيدها، وما هي إلا سراب لن تجدوا عنده شيئًا؟! والحقيقة أنكم تسيرون مسار الغربيين، وتودون لو أنكم قطعتم من مسارهم أمدًا مديدًا!
ولمثل هذا اللائم أقول: إن دودة القز في ساعات تطوراتها الأخيرة، حين تكون في نسيجها فراشة تمعن وتلح في أن تهتك الستر، وتثقب الحجب المنسوجة حولها ليست تعلم ما ستلقاه من هذه الدنيا، وما هي إلا لحظة حتى ينكشف الغطاء وتخرج الفراشة إلى الوجود، فترى آفاقًا واسعة ومظاهر عديدة.
فعلى الأمة التي تريد عِزَّتها أن تمعن في الاستثمار بمعاني هذه العِزَّة، وذلك برغبتها المُلِحَّة في أن تغاير غيرها من الأمم بشخصيات وصفات ترفعها وتميزها من غيرها من الأمم، وذلك كفيل بأن يصل هذه الأمة بآفاق من العظمة والسمو، كما وصلت الفراشة بدأبها وإلحاحها من داخل الصحن إلى الفضاء، فرأت ثمَّة ما لم تحس به من قبل، أو يخطر لها على بال!