المناسبة: مقتطف من خطبة أُلقيَت بمدرسة الأمريكان في احتفالها السنوي.
… ولكن الحياة من طبعها أن تُسيِّر الإنسان في عالم مفعم بالكد والكفاح، ولولا أن الطبيعة البشرية مدرَّعة بدرع قوي تارة يسمونه الخُلُق، وتارة يسمونه الإرادة، لولا ذلك الدرع الذي يلقى به الإنسان الوجود فيسمو به في ميدانه الواسع فيغزو، ويعمر فيه، ويستبقي منه ما يستبقي، ويشيد منه ما يشيد، لولا الخُلُق لما كان الإنسان إنسانًا، ولما كانت الحياة حياةً.
الخُلُق هو تلك القوة النفسية التي يتوجَّه بها الإنسان إلى حدث من أحداث الكون أو إلى أمر من أمور العيش، فيتسلط على هذا الحدث أو يسيطر على هذا الأمر.
بل الخُلُق هو ذلك التيار القوي المندفع الذي يوجِّه في سيره جميع الانفعالات والعواطف وخلاصات الوجدان، وجهة تصلها بما في الوجود من كائنات قلَّما أن تتغلب على ما في الوجود، أو تبلو فيه بلاءً حسنًا.
بل الخُلُق هو الإنسان كله من مشاعر وأفهام، ولكنه الإنسان حركةً لا سكونًا، الإنسان قوةً لا ضعفًا، الإنسان مؤثِّرًا لا أثرًا.
طالما يُقال: إن فلانًا لَحَسَن الخُلُق، وإن فلانًا لَسيء الخُلُق. ولقد يكون من اليسير حينما نحكم على واحد من الناس بجمال الخُلُق أو قبحه أن نقدِّر الأسباب التي من أجلها نسوق إليه إحدى الصفتين.
يقولون: إن صاحب الخُلُق الحسن هو الذي يسترشد بالعقل في كل أمر، ويتسمَّع وجس الضمير في كل مسألة، ثم يسلِّط قوته النفسية على نفسه فيُسكِت صوت الهوى إذا صاح به الهوى ويرغب عن الأثَرَة والأنانية يوم تُرغِّبه في نفسها الأثَرَة والأنانية، ويصرف من قوة خُلُقه إلى مواطن الخير ليصيب من الخير أوفر نصيب.
ويقولون: إن صاحب الخُلُق السيء هو ذلك الذي تضعف قوته عندما تهب عليه عواصف الأهواء فيميل مع الهوى، ولا يحب إلا نفسه، ويطوح بنفسه في سبل السوء والغواية، فينال من مدى السوء وينال منه مدى السوء ما ظلَّ عاريًا عن درع الخُلُق.
ربما نتساءل عن المحك الذي تميز به ذهب الخير من رصاص الشر.
ولكني أسلك في الجواب مسلكً شبيهًا بمسلك الفيلسوف الفرنسي ديكارت فأقول: إن تجارب الزمن وما خلَّفه لنا السلف الصالح من عظات، وما تركته الأجيال والأيام من عِبَر، وما حرص عليه التقدم البشري من نظريات وقواعد، وما يتناسب مع الظروف المحيطة من تقدير الأمور وفهمها؛ كل ذلك من شأنه أن يضع علامات حمراء في مواضع الخطر التي فيها للنفوس شقاء ومهلكة، وعلامات خضراء في المواضع التي تكسب منها الأفراد سعادة والإنسانية خيرًا.
كأن صوتًا صارخًا من صحائف التاريخ وتجارب الوجود يصيح بالإنسان عند العلامة الحمراء: قف هنا واحذر ولا تتقدم. وكأنه يناديه عند العلامة الخضراء: سر هنا، ولا تخف فإنك موفَّق في السبيل. عند سماع هذا الصوت الذي يجيء عن حنكة الدهر، عند سماع ذلك الصوت الذي يخرج من قبور العصور، يجب على الإنسان أن ينتهي عند النهي، ويأتمر عند الأمر من غير تردد؛ لأن الخُلُق قوة لا تعرف التردد.
دعوا للفلاسفة ورجال البحث والنظر أن يتعرضوا لماهية الخير والشر، واتركوا لهم هذا الموضوع الخطير ليحكموا فيه بنظرهم وعلمهم. ولكن ينبغي فيما يخص أنفسنا أن نكون عمليين فلنتجنب ما اصطلح الزمان على تسميته بالشر ولنُقبِل على ما عَلِمنا أنه الخير، ولعل الدهر الخبير أخبر من الفلاسفة وأصدق من العلماء.
الإنسانية في تطورها ورقيها مدينة للخُلُق والإرادة سواء أكان ذلك في علمها، أم في مشاعرها، أم في عقائدها، أم في سائر مظاهرها المحسوسة.
ألا ترى أن الكثير من المكتشفات والمخترعات كان من نتائج اليقظة والانتباه والصبر، ولعمري ما ذلك إلا ثمرة من ثمار الخُلُق والإرادة القوية.
ألا ترى أن عواطف الخير، والتراحم بين الناس، والتساند على البر، واحتمال المكاره كانت من نتائج رياضة النفوس لتشعر بحالات ينبغي أن تشعر بها، وتحس بحالات ينبغي أن تحسها، ولعمري فما رياضة النفوس على العواطف الطيبة إلا أثر من آثار الخُلُق، وثمرة من ثمار الإرادة!
ألا ترى أن بين العقائد في الأصقاع المختلفة، وتعميمها بين الطبقات المختلفة قد يرجع إلى العمل بها أكثر من العلم بها؟
ولعمري ما العمل بأمر من الأمور إلا نتيجة من نتائج الخُلُق وثمرة من ثمار الإرادة!
ألا ترى أن كل ما نراه حولنا من آثار قائمة، ومدنيات مشيدة قد كان فكرًا في عالم المعاني قبل أن يكون حقائق في عالم الواقع، ولعمري لم يكن تحقيقه إلا من المثابرة والعزيمة. وما المثابرة والعزيمة إلا من نتائج الخُلُق وقوة الإرادة.
وفي الحق إن الوجود وما فيه راجع للإرادات والخُلُق. إذن فالخُلُق عظيم، فكيف نربي الخُلُق؟