الكاتب: مي زيادة
الناشر: جريدة المحروسة
تاريخ النشر: 29 ديسمبر 1914
لا أظنني أوحشتك أيها القارئ، ولكن يومياتي أوحشتني كثيرًا إذ كانت لي حديثًا طيبًا أُعبِّر فيه عن أهم ما يجول في نفسي بسذاجة وسرور، كأني أحادث نفسًا ليست بالغريبة عنِّي، ولئن كنت بالجملة شديدة الاستعداد للتأثر بالحركات الخارجية، فإني ما زلت محافظة على استقلالي النفسي، وكثيرًا ما أشعر بانقطاعي عن حركات العالم إلى ما هو أقرب منها إلى الحياة المعنوية، ولقد قال بسكال فيلسوف الفرنسيس قولًا جميلًا في هذا المعنى، وهو: «إن لنفسي جوَّها، وفصولها المنفصلة تمام الانفصال عن جوِّ العالم وفصول السنة، فقد تكون الأمطار متدفقة سيولًا على الأرض وفي نفسي شموس لامعة، وقد يكون الربيع باسمًا للبشر وفي نفسي حزن ودموع وخريف دائم». أقول هذا تطمينًا لجانب قلم المطبوعات أفندم حضر تلري كي يرأف بأسطري البعيدة عن كل ما يستحق صواعقه … ويلاه! ماذا أقول؟ إني لم أتجاوز بعدُ السطورَ الأولى ومع ذلك فقد جازت عليَّ العقوبة إذ لقَّبت القلم (قلم المطبوعات) بأفندم حضر تلري، وذكرت بعد ذلك الصواعق، رحماك، يا قلم المطبوعات! لا أفندم أنت ولا حضر تلري! ولست أعني من الصواعق القلمية الشبيهة بالتي ألقاها الدكتور شميل على رأسي بالعربي والإفرنجي، يوم نشرت يوميَّاتي للمرة الأخيرة منذ أسابيع، وإذا ساءتك الصواعق القلمية أيضًا فها أنا أسحبها بانتظام لأبرهن لك بالقول والعمل أني في غاية الاحتياج إلى رضاك.
ساعتان لذيذتان:
قضيتهما بالأمس في الجامعة المصرية، فقد بدأ الأستاذ كليمان دروسه الجميلة عن الحركة الفكرية في فرنسا في القرن الثامن عشر. القرن الثامن عشر! القرن العظيم مُهيِّئ الثورة الفرنساوية، قرن فولتر ومونتسكيو وفونتنل وديدرو وروسو وشينيه، القرن الغني الجامع في ثروته شعرًا وفلسفة وأدبًا وعلمًا، الفاصل بين قرون الماضي طويلة العبارة، مبهمة الفكر والقصد، وبين القرن التاسع عشر الذي لمعت فيه شموس العلوم فانطلق البشر إلى الاستنارة بها، فما كانت نتيجة ذلك؟ لا أدَّعي الاستطاعة على الجواب ولا أظن البشر قادرين على إبداء مثل هذا الحكم الكبير في الوقت الحاضر، التاريخ لا يستطيع أن يقول كلمته في زمن إلا بعد مرور ذلك الزمن حتى تَحِلَّ نتائج حوادثه في الأزمنة التي تتلوه، لنا القرون الماضية ندرسها ونحللها ونعللها وليس لنا من القرن الحاضر إلا الحياة وكفى بها درسًا وتحليلًا وتعليلًا! وللقرون المقبلة ذكرى مصائبنا وشقائنا وأفراحنا! وعلى كلٍّ، إذا ما صرفنا النظر عن القرن العشرين، فلا أظن أنْ مرَّ على الإنسانية منذ عصر نبي الإسلام قرن أكثر أهمية من القرن الثامن عشر، فشكرًا للجامعة المصرية التي تجذب أفكارنا إلى ما يرفعها، وتبعدها من وقت إلى وقت عن أخبار الحرب الموجعة المجففة لقوى النفس، وليت هذه الغيبوبة الأدبية تدوم أكثر من ساعة! ثم علمت بعد المحاضرة الفرنساوية أن هناك درسًا في تاريخ الشرق القديم باللغة العربية، فأسرعت إلى استماعه، وكان الموضوع بطليموس الثاني فيلاذلفيوس، فاستهل حضرة الأستاذ كلامه في وصف المِهْرَجَان العظيم الذي أقامه بطليموس تذكارًا لأبيه وإظهارًا لعظمته وجلاله، وبعد أن وصف المهرجان وصفًا دقيقًا، قال: إن في هذا الوصف الذي تركه المؤرخون من الغلو شيئًا كثيرًا، وتطرَّق إلى حياة بطليموس وإلى زواجه بأخته أرسينويه وما قاله المعلِّقون في ذلك ليكسبوا رضى الملك، وذكر إطراء الشعراء لحب الأخوين ومقارنتهما بالآلهة وختم هذا المعنى بقوله: «لقد مدحوه (أي بطليموس) وبروا زواجه شأن الشعراء والمنافقين». وأعترف بأني ضحكت من كل قلبي عند سماع هذه الكلمات.
مساكين الشعراء. مساكين حقيقة! فهم والمنافقون في صف واحد!