سلامًا واحترامًا. في يوميَّاتكِ تقولين إنكِ تتحاشين كل ما هو ألماني من مؤلَّفات وآداب وفنون، ورأيتكِ في الغد مستشهدة بكارمن سيلفا ملكة رومانيا، أليست كارمن سيلفا ألمانية؟ فكيف تستشهدين بأقوال ألمانية في حين أنكِ تقاطعين الفكر الألماني ومظاهره؟ «سائل»
أشكرك يا حضرة السائل، لأنك نسيت أيَّ يوم ذكرت كارمن سيلفا، تقول إني ذكرتها في الغد مع أني ذكرتها في نفس العدد الذي قرأتَ فيه أني أتحاشى كل ما هو ألماني، نسيتَ ذلك عمدًا لتعطيني فرصة الانتقاد على انتقادك، ولكي لا أغضب كثيرًا من نفسي التي أوحت إليَّ فكرين يربطهما تناقض مبين، وأشكرك لاهتمامك بما أكتب.
ولكن ليس هناك تناقض. نعم، إن كارمن سيلفا ألمانية المولد، بيد أني لا أهتم بمولدها ولا بأصلها ولا بنسبها لأنها من الشخصيات النادرة في العالم التي ترتفع بقيمتها المعنوية فوق كل علاقة زمنية، الوطن بحدوده ضيق على هذه الشخصيات، فوطنها الحقيقي هو العالم، والإنسانية هي الشعب الذي تنتمي إليه.
ثم إن كارمن سيلفا كانت من ضحايا الخشونة الألمانية الأولى، فلو صرفنا النظر عن ٢٦ عامًا من سِنِيهَا الأُوَل قضتها في قصر ويد المملوء بأحزان القلب وأثواب الحداد، تحت سماء دائمة الغيوم دائمة الظلام، حيث كادت نفسها الكبيرة تَجْمُد تحت ثلوج الوحدة الروحية لو لم تكن شمس الذكاء والأمل تحييها — لو صرفنا النظر عن شقاء شبابها، فكيف ننسى جودها وتَوَقُّدها وهمومها بعد أن تُوِّجت ملكةً لرومانيا؟ لم يكن لها بنون أحياء لتصرف عليهم ذكاءها وحنانها، ومع ذلك لم تيأس من الحياة، بل أوقفت قواها على مساعدة أبناء شعبها وكل من يقصدها من الغرباء والمجهولين، ولما شعرت أن ولي عهد رومانيا الأسبق يميل إلى إحدى وصيفاتها، ورأت في تلك الوصيفة الفتاة ذكاءً وجمالًا يؤهلانها للجلوس على العرش، بذلت كل ما بوسعها لتوفِّق بين الصديقين، وحاولت أن تبيد الصعوبات الكبيرة الحائلة دون ائتلاف الروحين، ولكنها لم تنجح لأن أمثالها في الفكر والعقل قليلون، ولم تستفد من ذلك إلا عداوة الفتاة وعداوة الشعب وغضب ذويها.
كانت هذه فاتحة الأوجاع، وتلتها أوجاع كثيرة ورماها الناس بالتُّهم الفظيعة ثم بقِصَر العقل والجنون، وذلك لأن نفسها الكبيرة بريئة صادقة تحوم فوق كثير من الإصلاحات البلهاء والأكذوبات الاتفاقية الخبيثة، ولما كانت الجمعية تكشر عن أنيابها محاولة نهش تلك النفس النقية، كانت كارمن سيلفا تقصد صديقتها الجميلة وتجلس الساعات الطوال بقرب ضريح ابنتها الوحيدة المائتة وتتكئ على مرمره باكية كمن يلتجئ إلى صدر حنون …
طالما كرهتها ألمانيا لأنها تكتب منتقدة سياستها الداخلية والخارجية، حتى توصلت إلى إرشاد الخدم والوصيفات للحصول على كتابات الملكة غير المطبوعة، وكذا أحرقت تلك الكتابات الجميلة فكانت طعامًا للنار بدلًا من أن تكون غذاءً للعقول! وتوصلوا أخيرًا إلى استحضارها إلى ألمانيا وسجنها في أحد القصور الحزينة المتروكة على ضفاف نهر الرين …
هذه هي الأميرة الألمانية التي ظلمها قومها، ابنة الغرب وملكة في الشرق، أمٌّ لفتاة مائتة وأمٌّ لكل من أحسنَتْ إليهم فأساءوا إليها، هي الملكة التي سُجِنَتْ ثم أُطلِق سراحها، وهي تبكي اليوم تحت نقاب الأرامل بعد أن قضت عمرها باكية دموع الثكلى! هذه هي المرأة الساذجة العظيمة التي لم تسعد بالقبض على الصولجان والتمتع بلبس التيجان فوجدت سعادتها بهذا القلم ووضعت فوق رأسها تاج الفكر الخالد، اسمها الذي تحسدها عليه ملايين من النساء هجرته غير مكترثة به لتأخذ لها اسمًا مجرَّدًا من الأتعاب: كارمن سيلفا، وهذا الاسم هو فخرها وتاجها وصولجانها، فإذا استشهدتُ بأقوال كارمن سيلفا فما أنا مستشهدة بأقوال مفكرة ألمانية، بل أنا مترنِّمة بذكر إحدى النساء الثلاث اللواتي أُكبِر أسماءهن وأضع عند أقدامهن إعجابي وإعظامي وهن: هيباثيا ومدام كوري وكارمن سيلفا؛ لأنهن حققن وجود المثل الأعلى في النساء، المثل الأعلى الذي رسمه قاسم أمين عندما قال: «كلما أردت أن أتخيل السعادة تمثَّلت أمامي في صورة امرأة حائزة لجمال المرأة وعقل الرجل».