الكاتب: مي زيادة
الناشر: جريدة المحروسة
تاريخ النشر: 24 أكتوبر 1914
هل ضاع المُذَنَّب بين جيوش الآفاق، أم انقضت أيام مروره في دوائرنا، أم … بعث إليه جلالة الإمبراطور غليوم بإنذار يهدده بهجوم طيارات «زبلن» على أطراف ذيله إن لم يغادر الأفق في أربع وعشرين ساعة؟
راقبته بالأمس نحو ساعتين وبحثت عنه بين الصور السماوية اللامعة في الشمال فلم أقف له على أثر، أين هو؟ ثم حاولت أن أستعيض عنه بمرأى الكواكب العظيمة الساطعة في سهول الأثير التي تفوق سهول وادي النيل جمالًا وجلالًا … ناجيت الكواكب طويلًا وقد طَرِبَتْ نفسي لعاطفة المجهول الهائلة التي تقبض على القوى الإنسانية أمام وجه السماء …
على أني حزنت لأني لم أر المذنَّب، إني أحب مشهد السماء فوق كل مشهد، ومناجاة النجوم تكسبني غِبْطَةً وسلامًا متناهِيَيْنِ، غير أني أحب المذنَّبات بوجه خاص، أحبُّها لأنها عوالم لم تتكون بعدُ. أحبها لأنها تائهة في أبراج مخيفة ليست لها، بين ملايين من النجوم والكواكب الغريبة. أحبها لأنها إذا لمحت عن بُعد أخواتها المذنَّبات تائهات في ظلمات الآفاق، فليس لها إمكانية الجمود والانتظار، وتبادل الأخبار عن أسرار الأبدية … عوالم ضالة مهتدية إلى الأبد لا تعرف راحة ولا قرارًا، تدفعها قوة الجاذبية إلى حيث لا تعلم فتتناولها الهيئات الشمسية وتجذبها حرارة الشموس وتشعر أن الحرارة قد دبَّت في موادها الغازية، تنقلب عائدة إلى الأبراج غير المحدودة، وتسعى هائمة في وَحْشة اللانهاية بين حفيف الأفلاك ودويِّ الأبدية …
أحبها خصوصًا لأنها كانت دائمًا مكروهة مظلومة، فكم اتَّهمها البشر زورًا أن ظهورها علامة الشقاء وأنها تجلب على العالم ويلات الحروب والأمراض والجوع! ظلمتها القرون الأولى وظلمتها القرون الوسطى وما زلنا لها ظالمين. فقد اتَّهم الرومان مذنَّب ٤٣ قبل الميلاد بالفتك بقيصر العظيم، وكان قيصر العظيم قد قُتِل قبل أن يفتك المذنَّب به بثلاثة شهور! فقال آخرون: لا بل هذه نفس قيصر ظهرت لنا بشكل المذنَّب لتنبئنا أنها مالكة في السماء بعد أن ملكت على الأرض. وكم أقلق مذنَّب (هالي) الجالسين على العروش والذين يدبون تحتها! فقد ظهر في سنة ٨٣٧ أيام مُلك «لويس الحليم» مَلك فرنسا فملأ القلوب فزعًا ورعبًا، فشيَّد الملك الكنائس وصام وصلَّى مع أهل بلاطه وامتد تقواه المؤقت إلى جميع شعبه. وعلى ذلك فقد توفي بعد سنوات ثلاث! وقالوا إن ظهور المذنَّب عام ١٥٠٠ أثار الزوبعة التي هلك فيها برتوليموس دياز العالِم البرتغالي الشهير مكتشف رأس الرجاء الصالح.
ولا يخلو عصرنا من القائلين بنحس المذنَّبات من مؤيدي الخرافات، كأنَّ للعالم يومين: يوم نعيم ويوم شقاء! وكأن الحرب والموت والفقر والألم على اختلاف صنوفه ليس الغذاء اليومي لجميع البشر! كان كبلر الرياضي الفلكي يقول: إنَّ عدد المذنَّبات في الفلك يعادل عدد الأسماك في الماء، فَسَلِ البشر عن أحوالهم يجيبوك محرِّفين قول كبلر: «إن أنواع الشقاء في الحياة تفوق رمال البحار عددًا!» أجل أيها المتألِّمون، ولكن عدد الأفراح كذلك، لا يُحصَى، وهنيئًا لمن عرف الطريق الخفية المؤدية إليها! طريق صغيرة لا تطلب خيولًا مُطَهَّمَةً ولا فخفخة الجاه والثروة، ولكن يجب على السالك فيها أن يريد الحياة والسعادة …
ولو أراد أشقياء الحياة لسعدوا، لو تعودوا رفع أنظارهم وأنفسهم إلى الفلك الساطع وقطعوا بالخيال المسافات الشاسعة ليناجوا الجمال والعظمة اللامعة في أنوار الكواكب لوجدوا تعزية وسلوانًا وارتفعوا فوق كثير من حركات البشر التافهات، فوق الأصوات الضئيلة والأطماع الصبيانية، فوق كل دنيء وشائن. حتى إذا ما عادوا من نجواهم إلى الحياة العملية شعروا بنفوس جديدة طاهرة حرَّة فَرِحَة لا تعرف من الأحزان إلا الأحزان الكبيرة التي تهذِّب وتقوي وتكوِّن الشخصيات الكبيرة والمَلَكات العالية.
جاء نيوتن وغاليلوس وكبلر ولابلاس فحرَّروا الفكر البشري من أوهامه وقيوده وخرافاته. دانت لهم حقائق الأفلاك وسبحت نفوسهم بين السيارات السابحات فتحطَّمت قيود الجهل التي طالما أنَّت تحتها الإنسانية. والآن لما تمر المذنَّبات التائهات في أفقنا ويحصي الفلكيون أبعادها والسنين التي تعود فيها، لمَّا نرى من المذنَّبات أو نحاول أن نراها واثقين بأنها طيبة مظلومة فلا شك أن أنوارها البعيدة تنحني على قبور منصفيها لاثمةً ترابهم الغالي. آه لو كان الموتى يشعرون لشعر مُحرِّرو الفكر البشري بتلك القُبْلة وبشكر العصور التي أناروها وعظَّموها!