الكاتب: مي زيادة
الناشر: جريدة المحروسة
تاريخ النشر: 23 أكتوبر 1914
من أخبار فرنسا أنَّ الحكومة عطَّلت جريدة «الرجل الحر» التي يكتب فيها يوميًّا مسيو كليمانسو، أحد زعماء الحزب الراديكالي ورئيس وزارة فرنسا سابقًا. ولقد أصدر السياسي المذكور بدلًا عن الجريدة المُعطَّلة جريدة «الرجل المُقيَّد»، ولا ريب في أن هذا الاسم الجديد للجريدة القديمة هو الوتر الذي سيمرن عليه مسيو كليمانسو مَلَكة التهكم الخفي والتوريات الدقيقة التي لا تخلو منها حِدَّة لهجته وقوة حُجَّته. وليس بمُسْتَهْجَنٍ أن نرى رجلًا كمسيو كليمانسو تقلَّب في أعلى المناصب وعالج السياسة أعوامًا في زعامة حزبه، ينظر إلى القلم كالسلاح الأعظم الذي تُغزى به قوات الرأي العام.
يقولون إن الحق بجانب المدفع في هذه الأيام، وهذا صحيح عن ساحات القتال، على أن في غيرها من الأماكن ما زال القلم ذا النفوذ الأكبر. إنهم يتقاتلون في فرنسا وبلجيكا وروسيا والنمسا، أمَّا في باقي الممالك والجمهوريات، فإنهم يكتبون، يكتبون في البلاد الملازمة خُطَّة الحياد، ويكتبون في البلاد المتحاربة أكثر من ذلك، إنهم يكتبون، ثم يكتبون، ثم يكتبون. الوزراء والنواب والأمراء والسياسيون والمؤرخون والشعراء والجنود، كلهم يكتب بلغته، ويُعبِّر عن فكره بأسلوبه، ويبدي ما يَعِنُّ له من طرق الإصلاح وأساليب المنفعة. كل منهم يقدم فكره قربانًا على هيكل المصلحة الوطنية، والكلمات التي تخُطُّها أقلامهم تهز وتلذع كأنها شرارات متطايرات من بركان نفوس كثيرة الغليان. نعم، يكتبون في كل مكان إلا في مصر. لا أعني أنه ليس عندنا حبر كثير على ورق كثير، فنحن بذلك أغنياء والحمد لله! ولكن الكتابة التي هي نتيجة تفكير واقتناع وإخلاص ومعرفة، فهي قليلة جدًّا، فإن أكثر الجرائد عندنا تكتفي بنشر الأخبار والأفكار وإبداء الآراء بأسلوب الإنشاء المعروف «بالتقريري» وهو يصلح لكتابة المواد القانونية وتقارير مجلس النظار والبلاغات الرسمية ولكنه لا يتفق مع حالة الأفكار في هذه الأيام، أو ينقلون المقالات الطويلة عن الجرائد الأجنبية، وهذه يمكن الاطلاع عليها في الأصل إذ لا يفيدنا من الأقوال إلا ما ينطبق على حالتنا أو ما تهمنا معرفته بسرعة، فإذا ما قرأ الواحد منا يومًا كلمة بغير هذه النغمة (التي لا شيء فيها من الأنغام) واطلع على رأي شخصي وفِكْرٍ مناسب في أحوالنا الاقتصادية أو السياسية أو الوطنية؛ تناوله بلهفة كأنما هو أُرسِل إليه من أعالي السماء.
وأما حضرات النواب فلا يكتبون، ولا يخطبون! لا، بل أنا مخطئة، مخطئة جدًّا. إن عبد العزيز بك فهمي كتب مخاطبًا الحكومة بشأن القطن الذي تتوقف عليه في مصر ثروة الأفراد والمجموع، غير أنه، بعد مقالين، استدعى طبيبه واستقال من مخاطبة الحكومة ومن مناقشات الجمعية دفعة واحدة، واستراح من جميع أعماله! وتتبع آثارَه أحدُ زملائه باستدعاء الطبيب والاستقالة، أما زعيمهم سعد باشا زغلول فإنه ساكت سكوت الرياضيين أمام مسائل الجبر التي لا تحل ولا تربط، وإذا قابله أحد محرري الجرائد وسأله أسئلة تتعلق بالشؤون العمومية، يجيب عليها بابتسامة سرية كابتسامة موناليزا جوكوندا، قد تعني كثيرًا وربما ما أرادت أن تعني شيئًا، وأما لطفي بك السيد الذي اعتاد الجمهور تتبع أفكاره والتطلع إلى آرائه في الظروف الصعبة والمواضيع الهامة إذ يَرَى فيه حكيمًا على المقاصد، عالي الهمة، فإنه ما اشتهرت الحرب إلا انسحب خفية (على المودة الإنجليزية) بلا سلام ولا كلام، وأما الدكتور شميل شيخ الدكاترة طبيًّا وعلميًّا وفلسفيًّا فقد سبق كعادته وكتب في أول الحرب عن إمبراطور الألمان مقالة جميلة يحق أن يلبسها كبير عائلة هوهنزلرن بدلة بعد سقوطه، ودار بها على الجرائد فخافت هذه أن تنشرها، ثم مضت أيام فصارت تلك الجرائد تضرب على النغمة التي لم تَحْلُ لها في بادئ الأمر، والدكتور شميل لا يكتب على ما أظن، لأنه يريد أن يستطعم بلذة الثأر وهو ساكت، ماذا جرى؟
أين كُتَّابنا وساستنا؟ وأنتم أيها الشعراء، أي القصائد تنظِمون؟