الكاتب: مي زيادة
الناشر: جريدة المحروسة
تاريخ النشر: 20 أكتوبر 1914
سَلْ كلَّ مَنْ له جيران يكثرون من العزف على البيانو رأيه فيهم، تسمع منه الجواب المألوف: «لا أراك الله أمثالهم»، إنهم يكسرون دماغي! ونحن لنا مثل هؤلاء الجيران، على أنَّ ما أقوله عنهم يختلف عن هذا القول بعض الاختلاف.
الجماعة التي أعني تسكن في المنزل المقابل لنافذتي الشرقية، وتدل هيئتها ولغتها وارتفاع أصوات أفرادها على أنها يونانية، تتألَّف من رجل وزوجته، أما الرجل فهو قصير القامة، نحيف الجسم، يناهز الخمسين، ونظَّارته تلمع على عينيه في كل حين، ثم إن نظَّارته هذه وارتفاع صوته ارتفاعًا فنيًّا خاصًّا، وعباراته المزركشات وإشارات يده المستديرات تنبئني بأنه محامٍ، وأمَّا زوجته فلا جمال ولا قباحة، ولا ثقل ولا خفَّة، ذات عينين تنظران بلا اهتمام ولا رغبة، لها وجه يُحزِن المُفكِّر لأنه يشعر بأن وراء تلك الملامح تختفي نفسٌ ملساء كجدران منازل الإيجار. ليس في تلك الملامح ما يدل على معنى أدبي أو نفسي خاصٍّ. كأن هذه المرأة لم تَذُقْ في عمرها ثورة العواطف التي تُكسِبُ الابتسامةَ — مهما كانت عاديَّة — شيئًا من جمال الحزن ولذَّة المرارة، وكأنها لم تعانِ قَطُّ مشقةَ التأمُّل ولم تشعر بثقل الفكر الذي تنحني تحته الجباه وتبيضُّ لمروره المفارق! كل غدٍ يجدها كما كانت بالأمس، هي من النوع النسائي الكثير في العالم، النوع الذي يَدْعُون كلَّ واحدة من أفراده بهذا الاسم المبهم «ست طيِّبة».
أرى أحيانًا باب الشُّرفة مفتوحًا عند جيراني فألقي بنظري إلى داخل منزلهم ولا أرى أولادًا ولا أسمع صوت أطفال، ولا أدري لماذا أذكر حينئذٍ هذه الكلمة لكارمن سلفا ملكة رومانيا المترملة منذ أيام قلائل، وهي: البيت بلا ولد كناقوس بلا ضارب، فما أجمل الأنغام النائمة لو وُجِدَ من ينبِّهُهَا من سباتها!
من مميزات جيراننا أنَّ كيفهم الموسيقي لا يبدأ إلا حوالي نصف الليل، مع أنه مصطلح بين الناس على إقفال البيانو في تلك الساعة التي يطلب فيها الكثيرون راحة وسكينة، ما لم يكونوا من الراقصين أو اللاعبين أو المتنزهين.
وضع البيانو في الغرفة المقابلة لنافذتي والرجل يضرب عليه طويلًا بقوة متناهية الإتقان، إنه ليعزف ألحانًا من أجمل الألحان وأشدها صعوبة وأبعدها إتقانًا، ألحانًا مأخوذة من موسيقى عظماء الملحنين من الألمان! بيتهوفن وفاكنر ومندلسهن وغيرهم ممن يضحى لسماعهم كل رقاد. غير أني لاحظت يومًا أن يدي الرجل تظلان جامدتين، فرَقَبْتُ حركاته فإذا به لا يعزف بل يحرك برجليه آلة أُلحِقَت بالبيانو، وهي معروفة لدى العموم باسم «بيانولا» وهذه تردد أنغامًا وَقَّعها لأول مرة بعض كبار الموسيقيين فخلد نصَّابو التجارة ذلك الإتقان فيها طمعًا بالربح، فما كان أحقر ذلك الإتقان الأمي التجاري عندي، لما علمت أنه إتقان كاذب! وما كان ألذه في نفسي يوم كنت أعتقد بأنه إتقان جادت به روح متعطِّشة إلى الانفراد والجمال فجاءت تحيا ساعة بعيدة عن صغائر الحياة اليومية، سابحة على أمواج الفنون!
ومنذ ذلك الحين شعرت بأن جيراني يكسرون دماغي إذ يملأون سكوت الظلام المهيب بصرير آلاتهم الحديدية التي تحدث ضجيجًا يشبه ضجيج الهالكين في النار الأبدية! وأما الأمر الذي لا أسامحهم عليه أن موسيقاهم ألمانية، فإني منذ إشهار الحرب أتحاشى كل ما هو ألماني من مؤلَّفات وموسيقى وفنون، إن ألمانيا التي تدوس حقوق الضعفاء، وتتبختر غرورًا على الأقوياء، وتفتك بالأطهار والأبرياء، ألمانيا الضخمة التي تحاول هدم مدنية شيدتها مدنيات، لا تستحق أن تُكرَّم الآن بأفرادها، مهما كان أولئك الأفراد عظماءً وأبرارًا!
… ولما يشمل الكون ظلام وسكون، وتنفتح زهرات الليل في أعالي الأفق، يُخيَّل لي أن النجوم التي نراها تلمع بشدة ثم تمر سراعًا، ليست إلا دموع المفكرين والمصلحين الذين أوقفوا حياتهم وقواهم على بناء ما تحطمه اليوم بروسيا المتعجرفة!
فابكي يا عيون الموتى، إنَّ أصواتكِ الزمنية قد تلاشت في أرضنا، فلا تتعالَي إلا في فضاء الأبدية التي نجهلها، ابكي، إن البكاء لا يموت! ابكي ليلًا في وحدة الآفاق لعلَّ عبراتكِ النيرات التي لا يستجوبها هادمو الآثار ومخرِّبو الأمصار وناهبو الأعمار، لعل عبراتكِ لا تفوت نظرات نفس تحبكِ وتفهمكِ وتستغفركِ!