نزعت ورقة الأمس عن تقويمي فوجدت على صفحة اليوم هذه العبارة الجميلة لشكسبير: «إنَّنا خُلِقْنا لنصنع خيرًا»، أجل، إنها لعبارة جميلة تستحوذ على القلب دفعة واحدة لأنها بسيطة، وتدبُّ فيه حب الخير ورغبة العمل، أميل بنظري إلى ما هو حولي، فأرى هذا المعنى منطبقًا على جميع الأشياء والكائنات، فالكتب الصامتة التي تملأ غرفتي تنتظر إشارة من يدي لتُبْرِز لي كنوزها، الأدوات المبعثرة أمامي، والأشياء الجامدة مما أرى وما لا أرى، لها عمل خاصٌّ بها لا يُتوَقَّع أن يقوم به نوع من غير نوعها، الغيوم التي تُطِلُّ عليَّ من أعالي الجو، والأشجار التي تتمايل أمام نافذتي، والأطيار التي تسبح في الفضاء مغرِّدة، جميعها تخدم أرضنا خدمات جميلات، والأشباح السائرة في الشارع نساءً ورجالًا يخدمون الجمعية كلٌّ بحسب قواه وطبيعته ومركزه، فلماذا أكون أنا في هذه الأيام الصعبة رقمًا مهملًا يُجْمَع ويُطْرَح ويُضْرَب في قوائم الإحصاء وكشوف المحافظة فقط؟ لماذا لا أجتهد أن أكون رقمًا نافعًا؟
أدرت طرفي حينًا في الجو ذي الزُّرقة العذبة المزركشة هنا وهناك بغيوم بيضاء صغيرة يلمح فيها انعكاس الأشعة الشمسية وأنا أفكر في عبارة شكسبير، ثم انتقلت منها إلى عبارة أخرى تقربها، وقد قرأتها في «كلمات» قاسم أمين، وهذه هي: «لا يُطلَب الكمال من المرء وإنما يُطلب منه أن يكون كل يوم أحسن منه في اليوم الذي مضى».
أجل، إذا عرف المرء أنه لم يُخْلَق إلا ليعمل خيرًا وأن عليه أن يُرَقِّيَ نفسه كل يوم، فقد عرف أجمل قواعد الحياة، وهذا آنٌ قد اتَّسع فيه ميدان العمل، الخير ينمو بنموِّ الشر، فكلما زاد الشقاء زاد الاحتياج إلى العطف وزادت إمكانية فعل الخير … وما أقرب فعل الخير من قلبٍ انفتحت فيه زهرة الحنان!
هناك حرب دموية هائلة، وبيننا حرب اقتصادية مؤلمة، إننا نفكِّر بالجنود الجرحى الباسلة، وحسنًا نفعل! ولكنَّا نهمل جرحانا الأشقياء، جرحى الجوع والذل والفاقة، نكتتب للمظلومين الشجعان الذين يستحقون إعجابنا ومساعدتنا، وننسى الآخرين الذين هم أشد احتياجًا إلى مساعدتنا وعطفنا، نَحِنُّ على إخواننا بالإنسانية، ونترك إخواننا باللغة والجنسية والوطنية! مع أنَّ ذوي القُربى أولى بالإحسان.
العمال العاطلون، الأطفال الجياع، النساء البائسات، لماذا لا يَعْمَل في انتشالهم من هوَّة الفاقة كلٌّ منا على قدر استطاعته؟ لا يكفي أن يعمل الأفراد، الواجب يطلب عمل الجمهور بكُلِّيَّته، فإلى العمل! إلى العمل!
بعد أن ألقيت على مسامع نفسي هذا الإرشاد الصغير وأنا أحسبني واقفة على منبر عالٍ، صمَّمت النيَّة على مخاطبة بعض صديقاتي (صديقات على المودة!) في أمر تشكيل لجنة نسائية تكون فرعًا من جمعية الرجال لمساعدة العاطلين، أو تكون لجنة منفردة حرَّة، فناديت صديقة بالتلفون، وأطلعتها على فكري، فبعد أن كان صوتهًا مرحًا، ضاحكًا، راقصًا، وبعد أن أكَّدت لي أن حالها «على ما يرام»، وأن العائلة وأذيالها «بخير والحمد لله» عادت فقالت لي بصوتِ جبانٍ حُكِمَ عليه بالإعدام، إنها منشغلة البال بسبب مرض اثنين من أولادها الثلاثة، وإنها حزينة ومريضة، وتنهدت …
قلت: يعني أنك لا تريدين.
قالت: ما قلتش كدا، يا حبيبتي …
حبيبتها أنا؟ أعوذ بالله!
ناديت أخرى: نهارك سعيد يا مدام، بونجور يا حبيبتي، أنا حبيبة هذه أيضًا!
قلت: جئت أطلب منك خدمة صغيرة.
قالت: من عيني!
استحضرت إلى ذاكرتي عينَي السيدة المتكلمة فوجدتهما كبيرتين جميلتين فاستبشرت بهما خيرًا وقلت في نفسي: لنر ماذا توازي الخدمة الخارجة من هاتين العينين، وأخبرتها برغبتي، فأجابت فورًا بلهجةِ أُمٍّ مُحِبَّة: يا ابنتي ما لكِ ولهذا التعب؟ إنَّ في مصر كثيرًا من الرجال الذين يستطيعون تأليف اللجان ومساعدة المحتاجين، لنكتفِ بزياراتنا واستقبالاتنا ولا نهتم بالأشياء العمومية! وهذا كل ما أخرجته عيناها، يا أخواتي! إن دواتي الجافة منذ سنوات ثلاث تقوى على أكثر من هذا …
كم وكم فكَّرت بهذه اللجنة وتلك المساعدة لكن عزيمتي قد انحطَّت وإن كانت رغبتي حية، أعرف أن كثيرات من السيدات المصريات ذكيات، طيبات، كريمات، ولكني لا أعرف أين أجدهن! وها أنا أتنهد ناظرة إلى تقويمي أقرأ عليه كلمة شكسبير وأردِّد: كيف نصنع خيرًا؟ كيف نصنع خيرًا؟