يمرُّ بنا ونمرُّ به، يُحيينا ونحييه، يلاشينا ونلاشيه، ولا نعرف ماهية كيانه، ويعبر جسر الحياة تاركًا بين جوانب الأحياء جروحًا، ناثرًا على سواد الشَّعر بياض القِدَم، طابعًا على الجباه الوضَّاحة تجعُّدات المجاهدة والملل، دون أن نحاول إرهابه أو الاقتصاص منه. الشيخوخة قُبلة الزمان للبشر، لكن ما هي الشيخوخة، وما هو الإرهاب، وماذا يعني العقاب؟
والزمان … ما هو الزمان؟
أراد لبنتز تحديده فقال فيه: إنه «تتابع الأشياء المتواردة»، وسواء كان هذا التحديد كافيًا أو غير كافٍ على الإطلاق، فهو دائمًا يعبِّر نوعًا عن أهم أحوالنا البسيكولوجية والفيسيولوجية؛ البسيكولوجية المنقسمة إلى ثلاثة ظروف هي سلسلة حياة الإنسان: الماضي والحاضر والمستقبل، ولكلٍّ من هذه الظروف علاقة كلية بالآخر يستحيل فيها الحذف والإلغاء؛ لأنها إن لم تكُن تَلاشَى الظرفان وتلاشَى الزمان، وهذا من ضروب المحال.
فالحاضر بمفهوميتنا هو ما يقع تحت إدراك الحواس اللمسيِّ أو المعنويِّ، في آنٍ كائن بين خطين وهميين كل منهما أكثر أو أقل وضوحًا: خط الذكرى وخط الأمل، أي خط الماضي وخط المستقبل؛ والحاضر مزيج من الاثنين، وفي الوقت نفسه لا هو هذا ولا هو ذاك، بيد أن العلم المجرَّد يكاد يلغي هذه الأزمنة الثلاثة، وليس الزمان في نظره إلا تتابع أشياء وأوقات لا بداية فيها ولا نهاية، كما أن الفضاء مسافة لا تُحَدُّ، ولا أعالي فيها ولا أداني، «وجميع أجزاء الوقت التي لا نعيها كساعات النوم وساعات الغيبوبة تمتزج بعضًا ببعض وتتيه في هاوية الزمان» (كَانتْ).
فالزمان — كالمسافة — كائن وإن لم تتوارد فيه أشياء متتابعة؛ لأن ما لا نراه نحن يراه غيرنا، وما لا يراه غيرنا يستمد من الطبيعة قوة، ويتبادل مع أنواع متشابهة متضادة حركته الحيوية الدائمة، وفروغ الزمان — كفروغ المسافة — كلمة لا تعني شيئًا، ويتعذَّر على الإنسان تصوُّر مسافة أو زمن خاوٍ خالٍ من كل ما يقع في دائرة الحواس، فهناك دائمًا هواء أو ظلام، وذرَّات صغيرة هي عالم بذاتها، ودقائق أثيرية إن هي إلا جراثيم الحياة.
أما قياس الزمان مجرَّدًا كما هو فأمرٌ مستحيل لأن إدراكنا متناهٍ والزمان غير متناهٍ، فضلًا عن أن القياس يستوجب مشابهة حجم إلى حجم من نوع ثانٍ، فكيف نقيس الماضي وهو قد انقضى ولم يبقَ منه إلا الذكر — أي أمانة في الحواس — بالمستقبل الذي لا نتلمس خياله إلا في دوائر الرموز والتقادير؟
على أنَّا وإن لم نقوَ على قياس الزمان طولًا وعرضًا فتأثيراتنا النفسانية ميزان بخله وكرمه، ولا قيمة إلا بما يورثه إلينا من السعد والشقاء، أرواحنا ملك مشيئته ولا ينفك جائلًا فيها حتى يرضى، وهل يعرف الزمان معنى الرضى؟
وهناك أَقْيِسَة علمية رياضية آلية تترتب عليها حركات الاجتماع وقد اصطلح البشر على استعمالها والسير بموجب قواعدها.
منذ فجر الوجود كانت الحوادث الفلكية الطبيعية أساس تقسيم الزمان، وأهم هذه الحوادث لدينا هي دورة الشمس ودورة النجوم، والأوقات في علم الهيئة السماوية ثلاثة: يوم شمسي، ويوم متوسط، ويوم نجمي، وكلٌّ من هذه الأيام ينقسم إلى أربع وعشرين ساعة، وكل ساعة تتركب من ستين دقيقة كما أن كل دقيقة تتألف من ستين ثانية، فالوقت الشمسي يقاس بمرور الشمس تتابعًا في مكان غير ثابت وهو أطول من اليوم النجمي، وأطول يوم شمسي هو ٢٣ ديسمبر، وأقصر يومٍ يومُ ١٦ من الشهر نفسه.
والوقت المتوسط أوجده الفلكيُّون لإصلاح الوقت الشمسي، وذلك باختراع شمسين آليتين تدوران على محورهما، أولاهما تجتاز القوس السمتية بحركة متعادلة متوازنة، بنوع أنها تُصلِح حركة الشمس الحقيقية المتباطئة بسيرها من البعد الأدنى إلى البعد الأقصى، المتسرعة بسيرها من البعد الأقصى إلى البعد الأدنى، والشمس الثانية أو المتوسطة تجتاز خط الاستواء السرعة التي تجتاز بها الشمس الأولى القوس السمتية، فتمرَّان في آن واحد في خط معادلة الليل والنهار، وحركة هذه الشمس المتوسطة اليومية هي اليوم المتوسط وهو أصلح جميع الأيام الشمسية على تعدُّدها واختلافها.
والوقت النجمي يُقاس بمرور نجمة تتابعًا في مكان واحد في ساعة مُعيَّنة، والمسافة بين المرور والمرور هي اليوم النجمي وهو أقصر قليلًا من اليوم الشمسي؛ ذلك لأن بَيْنَا الأرض تدور دورة تامة على محورها تتبع الشمس في القوس السمتية انحناء ملائمًا لحركتها الخصوصية غير أنه نقيض حركة النجوم اليومية، وأعظم فَرْقٍ بين اليوم الشمسي واليوم النجمي هو في ٢٣ ديسمبر وقدره ثلاثون ثانية، وأقصر فَرْقٍ بينهما في ١٦ من الشهر نفسه وقدره ٢١ ثانية، واليوم النجمي أقصر قليلًا من اليوم المتوسط.
إن كانت حركة الفلك أساس قياس الزمان فالساعات والمقاييس (Chronomètres) تدوِّن تلك الحركة، وأول آلة كان يستخدمها الأقدمون هي بناية حجرية أو خشبية (Gnomon) تحدد الساعات وتقيس ارتفاع الشمس بموجب اتجاه الظل نحو الشرق والغرب، نحو الشمال والجنوب، ويقال إن الأهرام شُيِّدت لهذه الغاية أيضًا، ففي أهرام مصر إذًا درسٌ مهم من هذا القبيل.
وأعقبت الساعة الشمسية هذا النوع من قياس الوقت، وأقدم ساعة شمسية يذكرها التاريخ هي ساعة أشاز ملك أورشليم سنة ٧٤٠ قبل المسيح، وردَّد ذكر هذه الساعة صدى الأجيال ناقلًا خبر أعجوبة النبي أشعيا الذي أخَّر الظل في الساعة عشر درجات، أما الآن فلا نرى أعجوبة في مثل هذا الفعل لأنه يتجدد يوميًّا في ساعة تنعت بالرجعية من اختراع فلاماريون في مدينة جوڨي.
ووُجِدت أول ساعة ثمينة في آثينا في سنة ٤٣٣ قبل المسيح، وأول ساعة في رومية في سنة ٣٠٦ ق.م.
هذه كانت أقيسة النهار، وكانوا في الليل يستعملون ساعة الماء أو الساعة الرملية، وهذه الساعة عبارة عن حوض صغير وفي قعره ثقب يسيل منه الماء — أو الرمل — نقطة فنقطة في أنبوب ذي درجات محصاة تَدُلُّ المَلآنَة والفارغة منها على عدد الساعات، وكانت هذه المقاييس مصطلحًا عليها بين جميع فلكيِّي الشرق من كلدان وصينيين ويونان، وقد أهدى هارون الرشيد إلى شارلمان ساعة ماء قيل إنها أجمل ساعات ذلك العصر، وكان ذلك بمناسبة اتفاقهما ضد يونان الأستانة ومسلمي إسبانيا.
وأول من أوجد حركة ساعاتنا الحالية راهبٌ عاش في القرن العاشر يُدعَى الأب جربر وقد صار بعد ذلك بابا رومية وسُمِّي سلفسترس الثاني.
واشتغلت الشعوب على اختلافها في تحسين آلات الساعة وضبط حركتها الدقيقة، وبرع في ذلك ألمانيا وفرنسا فأوصلتا قياس الزمان إلى حدٍّ قَصِيٍّ من الدقة الصناعية والإتقان الذي لا إتقان بعده، أما أشهر ساعة أوروبية فهي ساعة ستراسبورج وقد استمر أساتذة الصناعة على الاشتغال بها مدة جيلين ونَيِّف ولا تزال باقية إلى أيامنا هذه، غير أن حكومة ستراسبورج اضطرت إلى تغيير بعض عقاربها وتبديل بعض آلاتها في القرن الماضي.
لم يكتفِ زعماء التقدم الآلي بقياس الزمان بل أرادوا قياس الارتقاء في الكون بواسطة الآلات، فما أكثر دعوى الإنسان! فقد اخترع هاينرتش شميد تلميذ هيكل ساعة لا تَعُدُّ الساعات بل الأجيال، وتدل عقاربها إلي الدرجة التي وصلتها الإنسانية في سلم الارتقاء، كل ساعة في هذه الآلة التاريخية عبارة عن عشرين ألف عام، وكل دقيقة تمثل ثلاثة أجيال، وكل ثانية تعني خمس سنوات، فليس ما يذكر في النهار الإنساني قبل الساعة العاشرة صباحًا، أي العصور الميثولوجية، وقبل الظهر بعشرين دقيقة تدل العقارب على ظهور آثار الارتقاء الأولى في مصر وبابل، ومنذ سبع دقائق — بالنسبة إلينا — تجلَّت شمس الفلسفة اليونانية وانتشرت مبادئ العلوم، ولم يمضِ بعدُ أكثر من نصف دقيقة على ظهور الآلات البخارية، كذا ولم تنتبه غيبوبة الجهل إلى عالم المعرفة إلا منذ دقيقة وبعض الثواني.
هذه فكاهة علمية فلسفية، لكنها كجميع الفكاهات تُضمِر تهكُّمًا ودعوى، وتُكِنُّ في أعماق معانيها مرارةً في رغبة المعرفة، وألمًا في استكشاف ما أُغمِض عن العقول في ضمير الوجود.
فيا ليت شعري لماذا كانت الأيام ولماذا كنا؟! أَلِندوِّن حركات النجوم بعقارب معدنية، أم لنقابل نبضات القلب في الصدر بحفيف الأفلاك في الأثير؟ أَلِنرى الزمان تائهًا في دوائره الأبدية التي لا مجال للمدارك فيها، أم لنشعر بأقدام خياله دائسة على الأرواح فتطبع عليها ما شاءت من آثار حاسة مجهولة بذاتها، نسميها ألمًا أو سرورًا بحسب ما تُسِرُّ به إلى أعصابنا من الاهتزازات المريحة أو المضنية …؟