لعلَّ القارئ يظنني عازمة — بعد هذا العنوان — أنْ أسرد له باختصار تاريخ العالم؟ كلا ثم كلا، أنا في قاعة الدروس الفرنساوية في الجامعة المصرية، وتبرهن لي المقاعد الخالية والمنبر النظيف من كافَّة الأشباح، أنْ ليس في القاعة أحد غيري وأنَّ الدرس لم يبتدئ، نعم، أراني مرغمة على الاعتقاد بذلك، مع أن ساعتي أشارت بعقربيها الصغير والكبير أن الساعة ٥ بالضبط، وعلى كل حال، فإن الساعةالمذكورة آتية لا محالة فلَأنْتَظِرَنَّها بلا ضجر ولا ملل، وليس بوسعي إلا أن أحسب القاعة في خلوها عدمًا سيصبح عما قليل عمرانًا، وبين العدم والعمران نُقِيمُ أنا وقلمي (قلم رصاص أعوج يكاد ينكسر — لا سمح الله بذلك قبل الدرس!) وورقة بيضاء نظيفة تَسْودُّ قليلًا كلما جرى فيها قلمي المكسور، ولسنا (أنا وقلمي وورقتي) من الضخامة في شيء كي يحسبنا العدم والعمران صلة متينة بينهما، ولكنا صلة لازمة على رغم كليهما، وإن كُنَّا لا نملأ بكرامة الفراغَ الدائم بين الطرفين فسنملأ بسرور عامود ينفي «محروسة» الغد، اللهم جزاك الحمد والشكر.
أهلًا! هذا عنوان الحضور. جاءت سيدات ثلاث في غاية الأناقة وفي غاية الطول خصوصًا، ومَرْآهُنَّ يذكرني بأغنية صبيانية كنا ننشدها في المدرسة، تبتدئ هكذا «كنا ثلاثة سوا، مثل عامود الهوا» وأعترف بأني لا أفهم كثيرًا معنى «عامود الهوا» ولكن صه! لا يجب أن أذكر الهواء لئلا تنطفئ الشعلة التي يستعملها الخادم لإنارة المصابيح، إنه ينير ويبتسم، وأقسم بأعمدة الهواء الموجودة وغير الموجودة جميعًا أن هذه البسمة موجهة إليَّ، ولديَّ براهينُ حسية على ذلك، وهي أن البسمة أُتْبِعَت بانحناء وتحية، فليناقشني الآن المناقشون، إنَّ خدم الجامعة يعرفونني لكثرة ما رأوني مارَّة أمامهم أقصد قاعات الدرس، فصار سلامهم عليَّ سلام معارف تقابلوا في مجلس ذي أهمية وشأن، ويسرني ذلك منهم، لأنهم يختلفون عن خدم المنازل، وعن جميع الخدم، فإذا حقَّقتَ النظر فيهم رأيتَ على جبهتهم علامةً تود أن تكون مهيبة، وفي أعماق عيونهم نورًا بارقًا كنور العلم الذي يمر أمامهم من غير أن يدركوه أو كنور الكلمات اللاذعة للفكر والذكاء، كلمات ما زال صداها متموجًا على جدران يصرفون أوقاتهم بينها أو في ظلِّها، وإن ضحك الضاحكون من كلامي هذا فليذكروا المثل العامي القائل: «كلب الشيخ شيخ» وعلى هذا القياس أقرر بأن بربري العلم بربري عالم والعصمة لله وحده.
ما شاء الله! ما شاء الله! لقد كثر الجمع وأنا غارقة في الدفاع عن البرابرة، فلا أنا قادرة على إحصاء أخواتي في التلمذة للجامعة ولا البرابرة للجميل حافظون، وفوق ذلك فقد انكسر رصاص قلمي وطفحت صفحات ورقتي، والطاولة ترقص لأن الجالس أمامي مُسنِدٌ ظهره لها. الحمد لله على كل حال، وجميع المصائب تهون إذا كان قلم المطبوعات راضيًا.
انفتح الباب، ومر منه طربوش على وجه أبيض وتحت الطربوش والوجه بمسافة يد تحمل أوراقًا، ثم مرت نسمة سرية على الحضور وخشب المنبر يقرقع بلطف وأدب كمن يقول: بونجور بنسوار، فهذا الأستاذ كليمان بلا شك، وحانت ساعة الدرس، فانتقلنا من العدم إلى العمران فأهلًا وسهلًا، والسلام عليكم.