أو كما يقول الشاعر العربي: «كلَّما داويت جرحًا سال جرح» والحقيقة هي أنَّا كلَّما اعتدنا الهم الجديد الذي انضم إلى همومنا القديمة تراءى لنا خيالُ همٍّ غيره لم يكن في الحسبان، ومن هذا النوع الهمُّ غير المنتظر الذي حلَّ بي منذ أسبوع وهو هَمُّ الطرابيش!
قالت الجرائد: إن زكي باشا يتطربش في مكتبه بطربوش مغربي، واقترحت المحروسة على سعادته أن يحذف من الطربوش المغربي زِرَّه الضخم الثقيل، هذا اقتراح صحي فني اقتصادي في آنٍ واحد، ولكني لا أظن أحدًا ينظر إلى طربوش مغربي تَرَمَّل من زِرِّه إلا يأخذه الضحك، حتى وإن كان ذلك الطربوش طربوش عالِم وطربوش باشا، حتى وإن كان ذلك العالِم وذلك الباشا زكي باشا.
فما رأي سعادة الباشا في هذا الأمر؟ وهل يجاوبنا الجواب الذي يطمِّن الخواطر وينفي الهموم؟
النساء والنياشين:
أهدى رئيس جمهورية فرنسا مؤخرًا نيشان «ليجيون دونور» إلى الأخت جوليا شكرًا لها على خدماتها الطبية الكثيرة، وليست هذه الراهبة الأولى التي حازت لهذا الوسام العظيم، إن نابليون الأول موجد هذا الوسام لم يفكر قَطُّ في إعطائه لامرأة، غير أن لويس نابليون الثالث أهداه في عام ١٨٥١ إلى مدام برولون الممرضة في دار (الأنفاليد) التي لم تكن حياتها إلا سلسلة خدمات وأعمال تَشِفُّ عن هِمَّة عالية وشهامة تُضَاهِي شهامة أبطال الرجال، ومن ذلك الحين أخذ عدد الحائزات لهذا الوسام بالازدياد عامًا فعامًا، واللواتي أُهدِيَ لهنَّ في السنوات الأخيرات هنَّ: مدام ديولافوا العالمة التي تساعد زوجها الشهير في بحثه وتنقيبه وعمله، ومدام دانيال لوسيور الكاتبة الشهيرة التي تعد من أحسن كُتَّاب فرنسا في هذا العصر، ومنذ شهور أُعطِيَ لسارة برنار التي لا يجهلها أحد.
وفي عام ١٨٥٢ أُهدِيَ «اللجيون دونور» إلى الأخت روزالي التي اشتهرت بما اشتهرت به الأخت جوليا في هذه الأيام، أي بأعمالها الخيرية وتفانيها في إسعاف المحتاجين من فقراء وجرحى ومرضى، ومن مميزات الأخت روزالي أن فكتور هوجو وصفها في كتاب «البؤساء» تحت اسم «الأخت سامبليسيا»، وفي العام نفسه (١٨٥٢) أُهدِيَ الوسام إلى راهبات ثلاث غير الأخت روزالي، اسم إحداهن الأخت تريزا ولهذه نكتة جميلة.
يقال إن لويس نابليون كان قد سمع في أعمال هذه الراهبة مدحًا كثيرًا فأراد أن يحمل إليها الوسام بنفسه إلى (كوبياني) ويعلِّقه بيده على صدرها، وكانت تناهز الثمانين من حياة صرفتها في معالجة الجرحى وتعزية الحزانى، فلما جاء نابليون وأنبأها بسبب مجيئه من باريز، أجابته بغضبٍ وتَعَجُّبٍ:
أنا لا أطلب جزاء ولا إشارة رسمية تميزني عن سواي، إنني لم أقضِ إلا الواجب، وبعد أن هدأ روعها، تنفست الصعداء وأدارت نظرها في ما حولها، وأشارت بغتة إلى أحد مرضاها وهو شاب جريح، فقالت:
إن هذا الوسام أليق بصدر الجنود، فأعطه لهذا الفتى الذي خدم ست سنوات وشهد اثنتي عشرة معركة فقد في إحداها رجله وكسب في كل منها جروحًا موجعة، رغمًا عن شبابه الغَضِّ، أعطه الوسام فهو أهل له.
فأخذت الإمبراطورَ الحَيرَةُ، ونظر إلى الشاب المذكور قائلًا بخجلٍ وتَلَعْثُمٍ: إني لا أستطيع تقرير هذا الأمر بنفسي، يلزمني إرادة وزارة الحربية، فغضبت المرأة الصالحة وسألت: أين هو وزير حربيتك، يا مولاي؟
فأشار الإمبراطور بيده إلي الوزير، فأسرعت إليه الراهبة وانتصبت أمامه قائلة بشجاعة: إذًا أنت هو وزير الحربية؟ فاسمع يا وزيري العزيز، أنا أرى أن الوسام يليق بصدر هذا الفتى، والإمبراطور لا يعارضني في ذلك، فضحك الحضور لهذه الشجاعة والسذاجة وتوسل إليها الإمبراطور أن تتنازل وتقبل الوسام، فأجابت:
أقبله ولكن بعد هذا الفتى، فليعلَّق على صدره أولًا ثم أعلقه على صدري، ولم تمضِ ساعتان حتى جيء بوسام آخر، فعلَّقته الراهبة على صدر جريحها الذي كان يبكي تأثرًا وفرحًا، ونسي جراحه لمَّا ضمدتها علامة البسالة والشرف.