قال هوميروس شاعر اليونان القديم في وصف رحلة «مينيلاس» على لسانه: «وذهبت إلى ليبيا التي تنبت فيها الحملان قرونها عند الفطام وتلد فيها الماشية نتاجها ثلاث مرات في العام، والتي لا يجوع فيها سيد ولا راعٍ بما هنالك من وفرة الجبن واللحم واللبن الشهي المحلوب من ضروع لا تعرف الجفاف».
وليبيا هذه التي وصفها الشاعر العظيم بهذا الوفر وهذا الرغد وهذا الرخاء هي البلاد التي يزورها اليوم وفد جليل من كبار المسؤولين المصريين في رحلة مباركة … وهي تتناول القسم الغربي من سواحل مرسى مطروح على التخصيص؛ لأن اليونانيين الأقدمين كانوا يطلقون اسم «ليبيا» على هذه البلاد وما وراءها غربًا إلى برقة وتونس، وكانوا يحسبونها بداية القارة الإفريقية لاعتبارهم القطر المصري من القارة الآسيوية، وقد ظلوا على هذا التقسيم إلى عهد بطليموس الجغرافي الذي جعل الحدود بين آسيا وأفريقيا برزخ السويس.
والذي يقرأ عن هذه البلاد في تاريخها القديم يعجب لتشابه الأحوال بين الماضي البعيد والحاضر الماثل حتى الساعة للعيان … فسكان هذه البلاد هم سكانها من آلاف السنين، وطراقها من الإغريق والروم هم الذين يطرقونها ويشتغلون فيها بالتجارة بين البادية والجزر اليونانية، وصيد الإسفنج الذي كان صناعة الشاطئ يزاولها الغطاسون من اليونان والطليان بزوارقهم التاريخية المعهودة هو حتى اليوم صناعة أبناء الأمتين في تلك الزوارق التي بقيت كما كانت في مختلف العصور بغير تبديل محسوس، وطريقة الصيد هي طريقة الأقدمين بعينها كأنهم لم يسمعوا باختراعات العصر الحديث ولم يحفلوا بما فيها من تجديد، وكل ما تغير في الأمر هو استخدام الإسفنج بين العصرين الغابر والحاضر. فالأقدمون كانوا يطلبونه لتبطين الخوذات النحاسية أو الحديدية التي كانوا يلبسونها. ويحمون بها رؤوسهم من طعنات الخصوم، والمحدثون يطلبون الإسفنج لأغراض شتى لم يعرفها الأوائل ولا خلفاؤهم إلى عهد قريب، ومنها الاستحمام!
وكان اليونان والأوربيون الأولون يقسمون الأقاليم المشهورة الآن بالصحراء الغربية تقسيمًا يخالف تقسيمها المعروف الآن عند السكان أو في دواوين الحكومة المصرية، وهو الأصح الأقرب إلى وضع البلاد في حالتها الحاضرة وفاقًا للطوارئ الجغرافية والطوارئ السياسية والعوارض التي لم تكن ظاهرة في التاريخ القديم.
فالبدو يقسمون الصحراء الغربية من الشاطئ إلى جوف الصحراء المصرية أربعة أقسام: أولها «العشرية» وهي إلى جانب الشاطئ على مسافة أميال قليلة ويقصدون بها الأماكن الأنيسة أو التي فيها عشرة ومؤانسة وسكان مقيمون، وثانيها «الدفة» وهي المرتفع من الأرض أو الهضبة البارزة على خرائط هذا الإقليم، وثالثها «الدرا» أي المكان الهابط المتواري تحت الهضبة المرتفعة، ورابعها الواحات وما أحاط بها من خلاء.
وظاهر أن تغييرًا كبيرًا قد أصاب هذه الأقسام جميعًا في مدى العصور التي تحفظها التواريخ، ولكنه تغيير جوي طبيعي نشأن من شيوع الجفاف وندرة الأمطار واختلاف الأهواء، وربما استقر على هذا الحال أو على ما يقرب منه عند القرن الثاني للميلاد، وهو القرن الذي يرجح العالم الأثري «ماسبرو» أنه كان مبدأ اهتمام الرومان بحفر الآبار المنسوبة إليهم على الجانب المعروف «بالعشرية» بين أبناء البادية في هذه الأيام، وهي — ونعني الآبار الرومانية — تعد بالعشرات وأغلبها الآن مهجور يحتاج إلى عناية وترميم.
وكانت «مرسى مطروح» تُسمَّى عند الرومان «باريتونيوم» أو «أمونيا» وهو الاسم الأشهر بين الإغريق، إذ كانت هذه البلدة ميناء سيوة على شاطئ بحر الروم، حيث كان هيكل آمون الذي حج إليه الإسكندر وتوافد عليه المتبركون المستطلعون لأسرار الغيب من أفواه كهان المعبد وكاهناته، وله بقية شاخصة إلى اليوم في واحة سيوة؛ كانت على وشك الذهاب مع سائر الجدران المهدومة أو التي هدمت عمدًا لتقويم بعض الدور الحكومية في الواحة، وظن مأمور المركز الذي فعل الفعلة أنه استحق حسن الجزاء بهذا «القصد» والتدبير.
ومن الآثار التي تشاهد في يومنا هذا بمرسى مطروح بقايا حمام كليوباتره وأطلال دار أنيقة كانت تأوي إليها في أشهر الصيف والخريف، وكانت نزهتها المعهودة — ولا تزال — من الممل ما يتنزه به عشاق المناظر الطبيعية في هذا المكان، وهي سهرة على الخليج في زورق صغير، ولا يوجد مكان على شواطئنا المصرية تجمل فيه ألوان الماء والضياء ورمال الصحراء كما تجمل في خليج مرسى مطروح ليالي القمراء …
أما الجانب الشرقي من إقليم الصحراء الغربية فتاريخ الطبيعة والإنسان فيه لا يقل عن جيرته من أنحاء مرسى مطروح …
أشاد بأعنابه وكرومه فرجيل وهوراس، وذكرها شكسبير حيث قال على لسان كليوباتره: «هاتوا طيلساني وتاجي … إن بنفسي أشواقًا سرمدية ولن تبلل أعناب مصر بعد اليوم هاتين الشفتين».
وهو يعني أعناب مريوط التي اشتهرت في العهد القديم وأشاد بها المؤرخون والشعراء من اللاتين، ويطمع بعض ذوي الأموال في تجديد تلك الثروة الغزيرة بشيء من الجهد وعلاج الأرض وفصائل الثمرات، ولا نحسبه طمعًا بعيد التحقيق.
كانت مريوط هذه تمون القطر بمئات الألوف من رؤوس الضأن والماشية ومئات الألوف من حقائب الغلال، وكانت بيدر الشرق كله إلى ما قبل العصر المسيحي بقليل، وكانت بحيرتها مترعة بالماء العذب مرصعة بالجزائر الزمردية هنا وهناك، معمورة بالأكواخ الجميلة والبيوت الصغيرة التي يقتنيها السراة من سكان الإسكندرية والأقاليم الشمالية، وظلت موردًا عذبًا للشاربين والزارعين إلى أيام الحملة الفرنسية منذ نيف ومائة عام. ثم أطلق عليها القائد الإنجليزي لسانًا من ماء البحر فتغير ماؤها دفعة واحدة بعد ذلك الحين، وشاء الله ألا يكون هذا التغيير ضررًا محضًا كما أريد بذلك التدبير العسكري في حينه، فأصبح الملح موردًا من موارد البحيرة، واستفاد به بعض أبناء البلاد.
ولقد ران الإهمال على مريوط أجيالًا بعد أجيال، وزارها الرحالون في منتصف القرن التاسع عشر فوصفوها بالجدب الشديد وندرة النبات والحيوان، إلا ما كان من إبل يملكها البدو المقيمون في تلك الجهات ويعتمدون عليها في الرحلة والمعاش.
ثم التفت لها سعيد باشا والي مصر فأنشأ فيها البلدة المشهورة الآن باسم العامرية وسماها «برنجي مريوط» أي مريوط الأولى، وكان اسمها قبل ذلك الغيط أو القارة، ثم أطلق عليها اسم العامرية في عهد الخديوي عباس الثاني، ومزارع الخاصة الملكية فيها اليوم ومزارع الحكومة في برج العرب هي مفتاح الأمل في استصلاح الإقليم كله وإعداده شيئًا فشيئًا لغرس الفاكهة ومختلف الثمار.
ويكاد المسافر لا يعبر ميلًا في قسم مريوط أو في قسم مرسى مطروح أو في قسم سيوة إلا استوقفته آثار عبادة من العبادات التي دان بها الناس وامتزجت بالعقائد والأفكار في شتى العصور … فعند برج العرب يسمع اسم «أبو صير» وما هو إلا أوزيريس العريق، وعلى مقربة من الإسكندرية عبادة الزهرة وكيوبيد، وفي مطروح وسيوة عبادة جوبيتر وآمون، وعند وادي النطرون أديرة الرهبان، وعلى مدى الشاطئ والصحراء مشاهد الإسلام ومساجد الصلاة والزيارة وعبادة الفرد الصمد التي خلفت جميع هذه العبادات.
تاريخ جليل حافل بالذكريات حافز للآمال.
تاريخ مخلد على الزمان.
تاريخ تُرجَى له الحياة من طوالع هذه الزيارة المباركة، التي تعني فيما تعنيه: خيرًا شاملًا لجميع المصريين، وخيرًا خاصًّا يسعد به أبناء الإقليم الشقيق …