المناسبة: وفاة الشيخ «عبد العزيز جاويش» في القاهرة عام 1929م
رأيت فقيدنا المرحوم الشيخ شاويش أول ما رأيته وأنا طالب في المعلمين العليا، فلم أنسه بعدها، وكان الوقت وقت الامتحان الشفوي، وكان هو عضوًا في لجنة الامتحان في اللغة العربية، وكان رئيسها المرحوم الشيخ حمزة فتح الله، فأسرَّ إليَّ أحد زملائي أن الشيخ حمزة يجعل المقام الأول للصرف والنحو ويدير أسئلته كلها عليهما، وسألني ما العمل؟ ولم نكن ندرس لا صرفًا ولا نحوًا إلا عرضًا ونحن ندرس أدب اللغة، فبدا لنا أن هذا ليس من العدل في شيء واتفقنا على الاعتراض إذا صح ما قيل، ودُعِيت فدخلت وقد وطَّنت نفسي على الرسوب وانتويت المشاكسة، وناولني الشيخ حمزة مقدمة ابن خلدون وقال: «اقرأ» ففعلت، ولم أَلْحَنْ، ورأيت سرور الشيخ فاطمأنت نفسي، وتعلق من ألفاظ العبارة بكلمة العدوان وعدا ويعدو، حتى وصلنا إلى «اعتدى» والجو رخاء و«اعتديا» بفتح الدال و«اعتديا» بكسرها للأمر، فسأل الشيخ: «لماذا تفتح في الأولى وتكسر في الثانية؟» فلم أدرِ كيف أجيب، فأعاد السؤال فقلت وقد قنطت من توقي المشادة: «هكذا نطق العرب بهما».
قال: «ولكن لماذا؟»
فأدرت عيني في أعضاء اللجنة معاتبًا ثم قلت: «إن اللغة وُجِدَت قبل أن يوجد النحو والصرف، هكذا نطق العرب، وأنا أنطق كما كانوا يفعلون، ولا أعني نفسي بلِمَ ولماذا وكيف كان ذلك».
فغضب الشيخ وألح، فلم أتزحزح عن موقفي وركبت رأسي، وإذا بالشيخ شاويش يُخرِج ساعته وينظر إليها ثم يلتفت ويقول للشيخ حمزة: «الصلاة يا أستاذ، كاد العصر يفوتك». فنهض الشيخ وهو يقول: «أي والله» وتركنا.
وقال الشيخ شاويش: «والآن يجب أن تكون أهدأ، ولننتقل إلى الأدب».
وقبل أن يعود الشيخ حمزة كنت قد فرغت من الامتحان وخرجت واثقًا من النجاح بفضل ما أبداه الشيخ شاويش من الكياسة والعطف، وفي العام التالي مات مصطفى كامل واستقال الشيخ شاويش وتولَّى تحرير اللواء فكانت لذلك ضجة.
وصرت مدرس ترجمة في المدرسة السعيدية الثانوية، فقادتني رجلاي يومًا إلى «اللواء»، واستأذنت على الشيخ شاويش وكان معه خلق كثير فمال إليَّ يسألني أن «نعم؟» فقلت: «الشأن خاص فبعد أن يخرجوا إذا سمحت»، فنهض ومضى بي إلى غرفة أخرى فأعربت له عن ضيق صدري بالتدريس ورغبتي في تركه وشوقي إلى الاشتغال بالصحافة، ورجوت منه أن يشير عليَّ بما يراه، فراح يسألني فعلم مني أني مكبٌّ على الأدب من عربي وغربي، فذهبنا نتذاكر حديث الكتب ثم فرك كفيه وقال: «يا سي عبد القادر لا تسئ إلى نفسك، اصرف عنها هذا السوء الذي تحدِّثك به، ولو كانت البلاد حرة كما نرجو أن تصير، ولو كانت أنفاسها خالصة وصدرها لا تجثم عليه كل هذه الكوابيس لما ترددت في تشجيعك، ولكنك لا تزال شابًّا لين العظام وعلى كتفيك حمل ثقيل، وأنا أخاف عليك من أعاصير هذه الحياة المضطربة».
قلت: «إن للحرية ثمنها».
قال: «هذا صحيح، ولكني مع ذلك أنصح لك بالتريث».
قلت: «ألا تراني صالحًا لما أطلب، كفؤًا لما أنشد؟»
قال: «ليس هذا، ولكني أخشى أن تكون أشرف من أن تصلح لحياة كل ما فيها فاسد عفن».
ثم أرسل لحظه في الفضاء وقال كالذي يحدث نفسه: «إن الشباب عجيب، يعيش أبدًا في عالمه وحده، عالم غاص بالأشباح والخيالات، يريق عليه المجد الغرار ضوءه، وله أحلامه ومطامعه، ومن القسوة أن يُحرَم هذه الأحلام التي لا تتكرر، ولكن أقسى من ذلك أن تفتح العيون على الحقائق الأرضية دفعة واحدة». ثم التفت إليَّ وقال: «يا سي عبد القادر، ما أراك إلا فاعلًا ما بدا لك ولكنه ليس الآن، ابق مذخورًا لوقتك، أطعني فإنِّي أكبر منك وأخبر».
وقد كان، وبقيت مذخورًا لأسوأ وأروع من زمنه.
واتصلت أسبابي بعد ذلك بطائفة من مخالطيه فزدت به خبرًا، وعرفت أن أكثر ما تصل إليه يده يذهب في سبيل المعوزين، وأن دائرة جهاده لا يحدها القطر المصري، وليس من حقي أن أنشر ما طواه الموت معه مما عرفته منه بعد أن خلطتني به الأيام، وعلى أنه ماذا يزيد هذا في معرفة الناس به؟ إن الروح التي يسير بها الإنسان في الحياة هي التي ينبغي أن تكون بها عنايتنا، لا مجال العمل وميادينه التي تعرض له، فإن هذا مما تخلقه المصادفة، ولو ظهر شكسبير في مجاهل إفريقية لغنَّى ثم مات ولم يشعر به العالم، ولكنه كان يغني على كل حال، ولو نبت نابليون في الصين لجعل الخطر الأصفر على الغرب حقيقة لا وهمًا، ولكان زوبعة أيضًا ولكن في ناحية أخرى من العالم، فبحسب القُرَّاء أن يعلموا من أمر الشيخ شاويش أنه كان امرءًا لو شاء أن ينعم بالثراء ويقضي حياته في ترف لين لكان هذا من أيسر المطالب، ولقد كان في تركيا صاحب حول وطول وكانت له كلمة مسموعة ورأي مطاع، وكانت أمامه خزانة الدولة ينفق منها كيف شاء فيما يضطلع به من المهمات ويتولاه من المساعي، ومع ذلك رحل إلى ألمانيا وليس معه قرش واحد واضطر في جملة ما اضطر إليه أن يحتطب في الغابات ليكسب رزقه ويقتات كأجهل عامل فقير، وكان رجلًا لا تهده المتاعب ولا تويسه الدسائس، فكان في تركيا ينام على ظهر جواده بين الثلوج المتراكمة فلا يكل، وكان ربما نجحت الوشاية به فيضطر أن يختفي في «بدروم» بيت أيامًا عديدة لا يذوق فيها أكثر من اللبن، ولم تنتقل الأحوال برجل كما انتقلت به، كانت كلمته عند أنور باشا لا ترد، ثم دارت الأيام ففر من تركيا فقيرًا معدمًا لا يملك قوت يومه، وعاد إليها في عهدها الجديد فرُفِع مكانًا عاليًا حتى شاءت تركيا أن تنقلب دولة مدنية ففر منها أخرى، ولم ينجُ إلا بجلده وبثوب واحد على بدنه، وكان في مصر قبل أن يهاجر، لا يفتأ يتنقل بين السجن والبيت، فهذا وذاك له منزل، واحتفل به الشعب مرة وأهدى إليه «وسام الشعب» وجر مركبته بدلًا من الجياد، فلما آب من تركيا للمرة الأخيرة ورشح نفسه لمجلس النواب حَصَبَه العامة في الإسكندرية بالحجارة وألجأوه إلى المسجد العباسي، وما أهون ما يصيب المرء ممن لا يفهم، ولكن شر ما لقي وأوجع ما حز في نفسه أن يزعم من لا عذر لهم من جهل أو قلة فهم أنه عاد إلى مصر على طيارة إنجليزية، والله يعلم، وأنا أيضًا أعلم، وكثيرون غيري يعلمون، كيف جاء وماذا كابد في سبيل العود.
ولازمنا في «الأخبار» بعد أوبته، وجاهد عبثًا أن يبدلها من الضيق سعة، وأن يقيلها من عثرتها المالية فلم يوفَّق لأكثر من سبب واحد، وكان هذا الرجل المحنك الذي ترك في كل وادٍ أثرًا من الإصلاح، وربما كتب المقال ودفع به إليَّ، أنا الذي لا يعد نفسه إلا في مرتبة أبنائه، قبل أن يبعث به إلى المرحوم أمين بك الرافعي، فيبدو لي وجه اعتراض أفضي به إليه، فيبتسم ويقول: «صدقت، إنَّ عذري أني كالغريب». ويمزق الورقات غير آسف ولا مستنكف، وكنت أراه يهم بأن يكتب فأشير عليه بالعدول لسبب أبسطه له، فيلقي بالقلم ويرفع كفيه داعيًا أن يرفع الله الغمة وينيم الفتنة، وكان تواضعه هذا يروعني ويسحرني لأنه أدل على سمو النفس وبساطتها وسعة الروح وسماحتها، ولو غيره ممن له مثل علمه وفضله وسابقته وتجاربه وسنه لأبى واستكبر.
وكان يدهشني منه أن عقله لا يكف عن التفكير في عمل صالح من مثل مدرسة يريد أن ينشئها على أسلوب طريف يجمع بين العلم والعمل، أو معهد أو جمعية خيرية، ولم يكن يصرفه عن مداومة التفكير في هذا وما إليه أنه هو لا يكاد يجد القوت إلا كفافًا، وأنه عائش لا يدري كيف، وكم جرَّني معه فرُحْنَا نزور البيوت الخالية لنرى أتصلح أم لا تصلح أن تكون مدارس — مدارس بصيغة الجمع لا مدرسة واحدة — وكنت أسأل عن المال اللازم من أين يظن أن في وسعه أن يجيء به فيقول: «لا تثبِّطني، المال نفكر فيه في آن الحاجة إليه، وعلى أن حاجتنا منه إلى القليل، ولن نعدم وسيلة». فأهز رأسي فيقول: «أيائس أنت من الناس إلى هذا الحد؟» ثم يشرع يشرح في مشروعاته وقلة تكاليفها فأسكت وأحس أن من الجناية أن ألقي ترابًا على هذه النار، وإني لأعلم أنها تأكله، غير أني أعلم مع ذلك أن إطعامها نفسه هو كل عزائه.
وتغديت معه مرة في الإسكندرية، فلما قمنا عن الطعام مال إليَّ وقال: «أتدري يا سيد عبد القادر أني أكلت من هذه الدجاجة الصغيرة وأنا متألم؟»
فقلت «ألا يوافقك الدجاج؟»
قال: «ليس هذا ما أعني، إنما يؤلمني أن تختصر حياة هذه الدجاجة قبل أن تستوفي حظَّها من الحياة، قبل أن تأخذ نصيبها من الشمس والحرية».
فقلت: «إنك يا أستاذ تغالي بالشباب، أنت مثلًا شاب وإن كنت قد جزت الخمسين — أعني شاب النفس — وقد تجد — حين تبلغ الثمانين — الدنيا كلها أمامك محتاجة إلى مثل يدك المُصْلِحة وقلبك العطوف وروحك المتأججة، وقد يسمعك الناس تقول حين تحس — وأنت في التسعين — بدنو الأجل أن أمامك عملًا كثيرًا وأن الطريق قد أُخِذ عليك كهذه الدجاجة التي ترثي لها».
فابتسم وقال: «وأنت؟»
قلت: «لقد هَرِمَت نفسي قبل أن أبلغ العشرين».
وقرأ لي في «حصاد الهشيم» مقالًا عن النجاح فقال إنك «مر النفس»، ورحنا مع ذلك نتحدث عن الخلائق التي تُعِين على النجاح المادي فسألته:
«هل تعرف كم قرشًا في جيبك؟»
فضحك وقال: «لا والله».
قلت: «جرِّب التخمين لترى».
قال وهو يبتسم: «لا تفضحني».
فقلت: «لست خيرًا منك» وأمسكت.
وحذرته يومًا من رجل سوء رأيته يطمئن إليه ويأتمنه فلم يحذر؛ لأن الاسترابة بالناس لم تكن من خلائقه، فقلت له مشفقًا من عواقب هذه البساطة: «إنك سريع التصديق وأطيب قلبًا مما ينبغي، وعندك أن في نفس كل إنسان عنصرًا ملائكيًّا، وإن العطف والثقة تظهرانه، فاسمح لي أن أقول لك أنك تجلس على أعلى ربوة من الوهم وستنهار الربوة يومًا فتقع وتؤذي نفسك».
فلم يزد على أن قال: «إنك سيء الظن بالناس فلا أسمع لك».
وكان — رحمه الله — بطبيعته رجلًا حالمًا، وبإرادته رجل عمل، وكان تعادل هاتين القوتين هو الذي يبقيه متزنًا، وقد تغلب إرادته أحلامه فيعمل بسرعة وبإحكام، وقد تظفر طبيعته بإرادته فتراه انقلب أشبه شيء بالشاعر يفكر في عطف وحنو في كل ما في الدنيا من شقاء لا يقوى وحده على محوه أو تخفيف وطأته، وقد عاش عمره هكذا، موزعًا بين طبيعته وإرادته، يعمل طورًا ويحلم تارة، ولم تكن أعماله — على جلالتها وبعد مداها — بأعظم من أحلامه، ولو أني سُئِلت «في أيهما كان أعظم؟» لكان جوابي أن أحلامه كانت عندي أبهر وأجل، فقد كانت أحلام نفس شفافة حساسة تعرف الدنيا وتزهد فيها ولا ترى الفرد إلا في الجماعة، وكانت أحلامه من القوة بحيث كانت تريه كل ما يحلم به واقعًا، ومن هنا لم تكن إرادته تحفل بالعوائق أو تكترث بالمصاعب، فلولا أحلامه الواسعة ما كانت إرادته وأعماله.
وقد اشتهر بين الناس بقوة عاطفته الدينية، وعلة ذلك أن هذه الناحية أبرز للخلق من سواها، غير أن الذين عرفوه عن كَثَبٍ يعرفون أن كل عواطفه كانت قوية مشبوبة على السواء، فلم يكن أقل تحمُّسًا للتعليم منه للدين، ولا عطفه على المساكين بأضعف من غيرته على دينه، ولكن نشأته الأولى وظروف حياته أبرزت منه جانب الدين كما لم تبرز غيره، ومن المصيبة أن يكون المرء كبيرًا ظاهرًا، ذلك أن ناحية منه لا تلبث أن تخرج إلى النور فتتعلق بها العيون ولا تعود ترى سواها.