الكاتب: إبراهيم عبد القادر المازني
الناشر: جريدة الاتحاد
تاريخ النشر: 28 أكتوبر 1926
كم وقفت على ساحل البحر أخط اسمي على الرمال بطرف العصا، فيكر عليه لسان من الموج لا ينفك يمتد، ويمحوه! وكم قلت لنفسي، وأنا أفعل ذلك مرة بعد مرة، والموج يتعقب بالمحو ما أثبت:
«كاسمي هذا الذي يمسحه الموج، حياة الفرد، لا قيمة لها إلا في رأي نفسه، الطبيعة لا ترى فيه أكثر من قالب تصب فيه المادة لتتخذ لها شكلًا، والحياة لا تعد إلا محطة في طريقها الحافل بالنقل، وبعد أن يتم الصب يتحطم القالب، ويزايل الراكب المحطة فيعفِّي على ذكرها النسيان! وما أكثر من يخادعون أنفسهم ويوهمونها أنهم خالدون بأسمائهم وآثارهم، فأما آثارهم فقد تخلد إذا كانت تستحق أن تبقى على الزمن، وأما أسماؤهم فما أراهم يكتبونها إلا على مثل هذه الرمال، وهي لا محالة لاحقة على كر الأيام وتوالي الحقب بأسماء من اهتدوا إلى قدح النار واستنبات الأرض. فما كتب الفرد منا غير الفناء، إذا كتب للنوع طول البقاء، حتى ذرية الإنسان — وهي بعضه — تنتزع نفسها منه وتستقل عنه وتروح في غنى عن الاتصال به، على حين يذوي هو ويسقط عن دوحة الحياة كما يسقط النوار بعد أن تخرج منه الثمرة!»
وربما دار بنفسي خاطر كهذا: «هبني كنت بغير اسم!» فأنبت، ويعييني أن أتصور على أي نحو كنت أقضي حياتي، ولي العذر. فإن اسم الإنسان أهم ما فيه، وليس هو بعضه بل كل ما ينطوي عليه، هو رمز شخصيته وعنوان وجوده، بل الدليل المثبت لهذا الوجود، يباهي به ويعتز، أو يخزَى منه ويدركه من ناحيته الخجل، ويستوحيه ويستمد منه القدرة واليقين والجرأة، أو ينقبض له ويضعف به ويستوحش منه، وإذا دفع أحدنا الطماح فإن اسمه ما يبني، وإذا زلت به القدم أو أصاب جناية أو عرة دين فهو اسمه الذي يطارده به العائبون أو الشرطة أو الغرماء، وإذا سمعه التفت، وإذا نودي به أجاب، وإذا أخذته عينه في كتاب أو صحيفة هشَّ له وافتر السرور في وجهه، أو اغتم له وأخذه الحزن، وهو الذي يخرج بالإنسان من عمومية الاشتراك في الحياة إلى خصوصية التميز الفردي، وأحسب أن التسمي هو النتيجة المباشرة لنشوء الإحساس بالذات في نفس الإنسان. وما أكثر ما يتمنى المرء أن يكون اسمه كذا أو غير كذا رغبة في مثل المجد الذي ظفر به صاحب الاسم المُشتَهَى أو فرارًا من عار الاسم الذي ألصقه به أبواه، وإن كان المرء لو خُيِّر لما رضي بنفسه بديلًا، وما أظن بالجائي أو المتنكر لسبب ما، إلا أنه يحس حين يغير اسمه كأنما قد لبس في عيون الناس شخصية أخرى، أو كأنما صار إنسانين في جسد: واحدًا مزويًّا عن الأنظار، وآخر باديًا لها ماثلًا قبلها.
وقريب من هذا الإحساس بازدواج الشخصية ما كان يخالجني لأول عهدي بالكتابة، ذلك أني في صدر أيامي قلَّ ما كنت أحفل بلقبي أو أُعنَى بإثباته في ذيل اسمي، فلما شرعت أنشر ما أكتب بدا في أن أوقع بلقبي وحده، أو به مع الرمز لبقية اسمي بأوائل حروفه هكذا (ا.ع.ا. المازني) كان باعثي — أو ما أقنعت نفسي بأنه باعثي — أني بهذه الحيلة أضمن مقدارًا من التنكر وأستطيع الوقوف على القيمةالحقيقية لما أكتب في رأي الناس، ولكنها حيلة لا شك في أنها كانت تنبئ عن فَرَق وإشفاق من سوء رأي القُرَّاء، ومن أجل هذا لم أكد أشعر بأن كتابتي فازت بحظ من القبول حتى أثبت اسمي كله بحروفه جميعًا ضنًّا بهذا القبول أن يحرمه شخصي واستعجالًا لمتعة الشعور بالتوفيق، وإني الآن بعد عشرين عامًا من الكتابة والنشر وبعد أن أصبت من الشهرة حظًّا وذهب سمعي فيما وراء بلادي، أقول إني بعد ذلك أسير في الطرقات وبين الناس فلا يلتفت إليَّ أحد ولا يعبأ بي ديَّار ولا أراني أحفل أن يجعل الناس بالَهُم إليَّ أو لا يجعلوه، ولكني كنت لأول عهدي بالكتابة يُخيَّل إليَّ كأن العيون تبحث عن صاحب مقالاتي، والنفوس تشتاق أن تتملى بمرآتي! وربما خالجني من فرط الغرور شيء من العطف عليهم والمرثية لهم! وقد أنظر في أعطاف نفسي فإذا بي أهم أن أستوقف كل عابر سبيل وأقول له: «يا هذا لا تتعب نفسك ولا تعنيها بطول البحث، هأنذا أريحك وأعرفك أني أنا فلان الفلاني كاتب مقالات كيت وكيت» ولولا خوفي أن يكون أميًّا.
ولشد ما زهاني الكبر وذهب بي التيه يوم قرأت لأول مرة في ديوان الحماسة قول ذلك المستضعف يذم قومه ويمدح بني مازن:
لو كنت من مازنٍ لم تستبح إبلي
|
بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
|
وجعلت أقول لنفسي: ياما أطيبها جرثومة وأخلصها أرومة، وأعتقه نجارًا وأعرقه فخارًا! وزاد خيلائي ما قرأت عن النضر بن شميل المازني كأنما كنت قد وثقت قبل ذلك أني فرع من الأيكة التي خرج منها هو وأضرابه! وحدثتني النفس أن أستقصي أخبار السادات والأدباء والشعراء من بني مازن، وليتني ما فعلت ولا فكرت، فقد أطاروا نعرتي قبحهم الله ونزعوها عن أنفي، وما ظنك بقوم لا يكون شاعرهم إلا قاطع طريق وفاتكًا؟؟ ماذا عسى أن يكون فخر المرء بهم؟ وبمن منهم يدل ويباهى؟ مالك بن الريب بن حوط المازني كان لصًّا فاتكًا وكان هو ورفقاء له يقطعون الطريق ويسومون الناس الشر؛ فطلبه عمال الخليفة؛ فقضى أكثر أيامه هاربًا مع هذه الثلة من أصحابه حتى بلغ فارس، ويسأله سعيد بن عثمان بن عفان والي خراسان لمعاوية: «ما لك ويحك تفسد نفسك بقطع الطريق؟ ما يدعوك إلى ما يبلغني عنك من العبث والفساد وفيك هذا الفضل؟»
فيقول: «يدعوني إليه العجز عن المعالي، ومساوات ذوي المروءات، ومكافأة الإخوان».
ولا يكف عن ركوب الناس بالأذى، حتى يجري عليه سعيد هذا مبلغًا شهريًّا، وكأنما لا يوافقه إلاحياة العبث والتشرد فيموت بعد الكف بقليل في خراسان.
ومسعود بن خرشة المازني كان أيضًا من لصوص البدو سرَّاق الإبل وقَطَّاع الطريق، وهلال بن الأسعر المازني كان رجلًا شديدًا عظيم الخلق، ولم يكن يحسن إلا شيئين الأكل والحرب، حتى قطري بن الفجاءة المازني كان زعيمًا للخوارج وأميرًا لمؤمنيهم، ولا نطيل فإن التمرد صفة مشتركة وسمة عامة، ولو أن أصحابنا هؤلاء ظهروا في الجاهلية لما كان غريبًا أن يكونوا جميعًا كذلك، ولكنهم من الإسلاميين، ومنهم من أدرك الدولة العباسية.
وقد أردت أن أعزي نفسي عن خيبة أملي فيهم فقلت: إن الرجل الذي ينشأ في مجتمع منظم لا يكون له معدى عن إحدى اثنتين إلا إذا آثر العزلة التامة: أن يكون حاكمًا أو محكومًا، فإذا كانت حيويته متدفقة وشخصيته قوية لم يطق أن يحني عنقه لنير سواه أو يتطامن لمشيئة غيره، وأحس بالحاجة الملحة إلى الحرية وإلى استشعار الارتياح الذي يحدثه إرسال النفس على سجيتها، والقدرة على إطاعة الميول، وإرضاء الأهواء، لأن الإحساس بأن غيره يزحمه ويدفع في صدره ويسد في وجهه الفجاج، هذا الإحساس ينغص عليه الحياة، ويفسد متعها، ويكدر صفوها، وشبيه بذلك شعور المرء إذ ألقى نفسه في مكان ضيق إذا وقف فيه اصطدم رأسه بسقفه، أو نام لم يستطع أن يمد رجليه، كذلك أصحاب هذه النفوس الفياضة بالحيوية لا يقدرون أن ينقبضوا ليسعهم الجحر الذي يتركه لهم الحظ في بناء المجتمع، فإذا أعياهم أن يكون لهم الأمر تمردوا وخرج منهم الثوار والفتاك وقطاع الطريق واللصوص والمرتزقة من الجنود ورواد الآفاق والضاربون في المجاهل وأهل الخطار من كل نوع وطبقة، وقد لا يكون ذلك لأنهم أهل طماح، وأنهم رفيعو الأهواء، بعيدو الهمة، نزَّاعون إلى المراتب السامية، بل لأنهم بطبيعتهم لا يحتملون القيود ولا يطيقون أن يبذلوا القياد أو أن يعيشوا في دائرة محدودة؛ فليست طِلبتهم أن يتولوا أمرًا بل أن يكونوا هم أحرارًا فيما يفعلون ويُترَكون، وقديمًا قال يوليوس قيصر كلمته المأثورة التي ليس أكشف منها عن هذه الروح: «لأن أكون أول رجل في قرية صغيرة أفضل عندي من أن أكون ثاني رجل في رومية». ومعنى ذلك أنه يريد أن لا يشعر إلا بنفسه وبشخصيته وإرادته.
بهذا وأمثاله عزَّيت نفسي، ولا بد للمرء من خدعة يتعلل بها ليحتمل الحياة ويطيق العيش، وإلا جُنَّ أو مات كمدًا، وماذا يصنع الإنسان بنفسه إذا لم تكن له في الحياة علالة؟ كيف يقضي أيامه بلا أهل أو ذكرى، أو عقيدة أو نجوى، أو غير ذلك مما يغالط النفس فيه؟ ومن هذا الباب إقبال الناس على الأشربة وما يفعل فعلها من المخدرات سواها، والشراب أو ما هو في معناه، داء لم تحدثه المدنية ولم يصب به الإنسان مع الترف، وإنما رافقه من أقدم عصوره قبل أن يتهذب ويصقل، ولا شك أن الإنسان عرفه عفوًا، ولكنه بعد أن عرفه لم يزل يطلبه على نحو ما، كلما فتر عن الحياة وأحس الخور يستولي على جسمه أو عقله أو نفسه، وليس يستغني عنه إلا من يعمر صدره إيمان أو تزخر نفسه بأكثر من نصيب الفرد العادي من الحيوية والنشاط.
وبعد فمالي أنا ومازن وهوازن وبكر ووائل؟ أين منِّي مازن وأين أنا منها؟ إنه لا شأن لي بها، وما أعرف إلى هذه الساعة من أين جاء أبي أو أبوه أو جده باسمه هذا، ولكني على ذلك كلما أخذت عيني هذه الحروف رقَّ لها قلبي، وأقبل عليها لُبِّي، وهب على نفسي من ناحيتها نسيم، وذكرت قول العقاد من قصيدته المرقصة «كأس على ذكرى»:
أترى الأحرف فيه
|
غيرها في الكلمات؟
|
أحرف من رقية الكها
|
ن أو شدو الصلاة
|
أحرف من نفحة الور
|
د ومن روح السبات
|
تنكر السحر وهذا
|
بعض أسرار اللغات؟
|
نعم هو ضرب من السحر من شاء غيري فليعلِّله، أما أنا فلا أحب أن أغثي نفسي وأفسد إحساسها بوقعه، بالتعليل والتأويل.