قد أعرف لماذا أقرأ وما يستهويني من الكتب ويغريني بالاطلاع، فإن أقلَّ ما في ذلك أنه نَقْلَة إلى عالم غير دنيانا الحافلة بالمُنغِّصات المائجة بالمتعبات، ولكني والله لا أدري لماذا أكتب؟ ولست أراني أفدت شيئًا ولا لي أمل في شيء، وأحسبني بين الكُتَّاب الوحيد الذي يعيش بلا أمل جادٍّ أو طمع مستحث، بل لعلي الكاتب الوحيد الذي يعتقد أن الدنيا لا تخسر شيئًا — وقد تكسب — إذا خَلَتْ رقعتها من الأدباء والشعراء، واعتقادي هذا فرع من أصل أعم وأشمل، هو أن الدنيا لا تنقص إذا قضت «الحياة» نفسها نَحْبَها فلا إنسان ولا حياة ولا نبات، وقد غَيَّر زمنٌ كنت فيه مجنونًا كشيللي، فالآن صار جنوني بهوان الحياة وغرور الإنسان وعبث العيش كله، وما لقيت نعماء أو أصابتني ضراء إلا قلت كما قال سليمان بن داود: «باطل الأباطيل، الكل باطل» حتى لقد هممت أن أسمي كتابًا لي «باطل الأباطيل»، كما سميت آخر «قبض الريح»، وثالثًا «حصاد الهشيم»، فليس إيثاري لهذه الأسماء عن تواضع كما توهَّم البعض، بل عن نزوع إلى الاستخفاف حتى بالنفس، وعن شعور قوي بمرارة الهوان الذي أجده لهذه الحياة وكل مظاهرها.
وليس أبغض إليَّ من الكتابة، ولا أثقل على نفسي من تناول القلم، وما أعرفني كتبت شيئًا إلا بعد أن أَعْيَا بالتهرب وأعجز عن الإفلات، وليس هذا لكسل، فإني لا أطيق السكون، ومن أغرب ما يحدث أني أراني — كلما أردت الكتابة — أحاول قبل معاناتها أن أُعزِّي نفسي بأحلام اليقظة، فآوي إلى فراشي وأستلقي عليه وأغمض جفني وأذهب أحضر إلى ذهني صورًا شتَّى من الحياة كما أشتهي أن تكون، على قدر ما يستطيع خيالي أن يُلفِّق، ولا أزال كذلك حتى يغلبني النعاس أو ينهضني الشعور بالواجب، إذا كان الوقت أضيق من أن يتسع للأحلام، وفيما عدا ذلك لا أحب الأحلام ولا أؤثرها على الحقائق.
ولو كانت القدرة على اختيار الموضوع تسعفني لكنت حقيقًا — على الأرجح — أن أكون أنشط إلى الكتابة، ولكن اختيار الموضوع أشق عليَّ وأشد عذابًا من الكتابة نفسها على فرط مقتي لها واستثقالي لمعاناتها، وأنا أحسُّ — حين أعالج أن أهتدي إلى موضوع صالح للكتابة — كأن رأسي قد صار «قهوة برابرة» أعني مكانًا يكثر فيه اللغط وتشتد الضوضاء ولا يدري المرء كيف يفهم الناس بعضهم عن بعض،كذلك يكون رأسي، كل ما فيه ضجة عالية مرهقة تنتهي بالصداع والعدول عن الكتابة أو إرجائها إلى وقت آخر أحس فيه أني أصح وأكثر تهيُّئًا لها.
والواقع — عندي على الأقل — أن نفسي لا تكون متهيِّئة للكتابة في كل وقت أو كلما أردت، ويُخيَّل إليَّ أن هناك أُوَيْقاتٍ تحس فيها النفس مثل نشوة الخمر، وهذا هو الذي أعنيه بالتهيؤ، وقد كنت أُجرِّب ذلك أيام كنت أكتب وأنا في سراح ورواح؛ أعني لما كنت غير مطالب بالكتابة، أما الآن فقد صارت الكتابة صناعة، وعملًا أُؤَدِّيه وأنا كاره لتكرره يومًا بعد يوم بلا راحة أو استجمام، ولقد سألني بعضهم — في رسالة بعث بها إليَّ — لماذا لا أقول الشعر الآن، وليس لي من جواب عن ذلك سوى أن الصحافة هي التي قطعتني عنه، والصحافة تُكسِبُ الكاتب مرونة في الأسلوب وسرعة في الأداء، ولكنها تفسد عليه «فن» الكتابة، ولا سبيل إلى الاستغناء عن «الفن» في الشعر إذا أمكن الاستغناء عنه في كتابة الصحف — المصرية على الأقل — وأقول المصرية لأن الكاتب فيها مرهق، يضطلع بأكثر مما يجوِّد معه العمل، وهي في بلادنا تغني النفس وتقمع النشاط وتغري باليأس؛ لأن المرء يكون فيها كالذي يُضرب بالسياط، لا يحس الدنيا حوله، وإنما يحس العذاب الذي هو فيه.
أحسبني كففت عن الشعر أيضًا لأني أعلى به عينًا، أعني أني انتهيت إلى أنها إحدى اثنتين: فإمَّا أن يقول المرء شعرًا من أعلى طبقة وإما أن يريح نفسه ويريح الناس، فلا خير في غير الكلام الخالد على الدهر، وأنا أَعْرَفُ بنفسي من أن يداخلني الغرور في شأنها، ولقد نظرت فيما قرضت من الشعر فهززت رأسي وقلت «هذا كلام فارغ، وأولى بي أن أعرف قدر نفسي، فلأقلع» ورميت ديواني، حتى ما أعرف أين هو الآن إذا كان لا يزال باقيًا!
والشعر — على كونه إلهامًا — فن يسلس بالمرانة، وقد أهملته حتى صرت لا أستطيع أن أنظم شطرًا واحدًا، وحسنًا فعلت، فما ينقص الدنيا الكلام الوسط؛ فإنه فيها كثير بحمد الله ثم حمد الغرور الذي فُطِرَ عليه الإنسان.