أعتقد أن رأيي أن الفضائل والرذائل مرجعها في الأغلب والأعم إلى الظروف والعادة، وأقول «أعتقد» لأنه كثيرًا ما يتبين المرء أنه يجهل نفسه، ولا يعرف حقيقة ما تنطوي عليه من الآراء، وقد يعن للإنسان رأي عارض فيتوهم لحظة أن هذا هو الذي انتهى إليه تفكيره الهادئ، ثم يتضح أنه ليس سوى نتيجة صدمة أو رد فعل لحالة نفسية طارئة غير باقية.
وأذكر أني مرة — منذ عشرين سنة — عثرت على محفظة فيها ثلاثون جنيهًا، وكان ذلك في أول الشهر وكان معي صاحب لي، ولا أكتم القارئ أني ترددت فيما يجب علي أن أصنعه، فملت إلى صاحبي أسأله عن رأيه؟ فقال مازحًا: «خذها ولا تخف» ولكني خفت ولم آخذها، ذلك أني كنت في أول الشهر وكان مرتبي لا يزال معي فكان في وسعي أن أتزهد وأن أقنع، ولم أشعر بإلحاح الحاجة، ولا شك أن وجود هذا الصاحب كان عاملًا كبيرًا في حملي على التعفف، ولا يغضب صديقي إذا قرأ قولي الآن أني أسأت به الظن وأشفقت أن يذهب يثرثر إلى إخوانه وأن لا يستطيع ضبط لسانه، وأصارح القراء فأعترف بأنه خطر لي أن صاحبي ربما كان يشتهي أن يقاسمني هذه اللقية وأنه خليق إذا ضننت عليه بنصيب منها أن يشنع علي ويفضحني بين الناس. يضاف إلى ذلك أن هذه كانت أول مرة وجدت فيها مالًا في طريقي.
والآن فلنفرض أني كنت قد وجدت ثلاثة آلاف جنيه أو ثلاثين ألفًا لا ثلاثين فقط، وأني كنت وحدي وأنه ما من إنسان يراني وأنا أنحني على الأرض وأمد كفي وأتناولها ثم أدسها في جيبي، ولنفرض إلى جانب ذلك أني كنت في شدة أو ضيق، فماذا كنت خليقًا أن أصنع؟ ليكن رأي القراء ما يشاءون، فإن رأيي أنا أني كنت حقيقًا أن أفرح وأن أحتفظ بما وجدت وأن أعده حقًّا لي.
ولست أعبأ شيئًا بما يقوله المتفلسفون والمتحذلقون، وكل ما أعرفه أن الإنسان إنسان وأن الواقع في الحياة غير المسطور في الكتب، ولست شريرًا ولا امرؤ سوء، وما سرقت في حياتي مرة، ولا مددت يدي إلى مال أحد من خلق الله، ولا نازعتني نفسي أن أخطف أو أغصب شيئًا لغيري، غير أني مع ذلك أعلم من نفسي أني كثيرًا ما تمنيت أن أجد في طريقي مالًا ملقى، ولو أني وجدت حينئذ ذاك الذي أتمناه لما كان هناك شك في أني مستولٍ عليه لا محالة. ولقد حاول غير واحد أن يرشوني، ولكنهم كانوا يعرضون عليَّ مقادير تافهة لا أحس بها إغراءً ولا أشعر لها بفتنة، وما خمسة جنيهات أوعشرة أو عشرون؟ أي رجل له كرامة ومنزلة يرضى أن يبيع ذمته بمثل هذه المقادير؟ إن مبلغًا كهذا لا يكفي للتغلب على جبن العادة، ولا يكفي ثمنًا للجهد الذي يبذله المرء لإقناع نفسه بأن ما يقبله ليس رشوة بل هدية أو جزاء يستحقه ولا مؤاخذة عليه، ولو كان المبلغ ألفًا أو آلافًا كافية لانقلب الجبن شجاعة، ولاجترأ القلب، ولحضرت الحجج التي يقنع بها الإنسان عقله أو يغالط بها نفسه.
والحقيقة هي أن لكل ذمة ثمنها، فهناك ذمم لا تساوي أكثر من قروش، وثم أخرى غالية جدًّا، لأن نشأة أصحابها وظروفهم لا تسمح بالزهيد من القيمة، وليست العبرة بالغنى أو الفقر، فيا رب غني يسبح في المال هو أرخص ذمة من الفقير المعدم، وما من إنسان إلا وهو يُرشى، فواحد يُرشى بالمال، وثانٍ يُرشى بالمدح والتملق، وثالث بالمعروف يصنعه صاحبه وهكذا، والمهم هو أن تكون الرشوة موافقة لمكان الحاجة إليها، ومن النوع الذي يلمس موضع الضعف في الإنسان، فإذا توفر هذان الشرطان فقد انتهى الأمر.
ولا يقل أحد أن الإنسان خيِّر بطبعه، فإنه لا خيِّر ولا شرير، وإنما هو مخلوق لا حيلة له في نفسه، وقد جيء به إلى الدنيا على غير إرادته أو مشورته، وحُمِّل بالوراثة ما لا سبيل إلى الفكاك منه، فهو بدأ يمشي في الحياة وعلى ظهره ما حَمَّله أبواه وأجداده، وليت حمله يكون على ظهره، إذًا لهان، أو أمكن أن يطرحه، ولكنه في دمه وفي كل ذرة من تكوينه، ثم هو يربى وينشأ على نحو لا رأي له فيه، وتكتنفه ظروف ليست مما أثار هو أو جلب أو جر أو كان السبب فيه.
ولا يحسب أحد أن الفضيلة وحدها هي التي تتطلب الشجاعة، فإن الرذيلة تحتاج إلى جرأة، ويكفي أن يفكر فيما ينقصه من الجرأة اللازمة للكذب أو السرقة أو العدوان أو غير ذلك، ثم يصبح الأمر عادة بالمران والممارسة، وعلى أن كون الفضيلة تحتاج إلى شجاعة معناه ماذا؟ ما معنى أن يعف المرء عن فسوق أو كذب أو سطو أو ما شابه ذلك؟ أليس واضحًا أن المراد هو مغالبة النفس ومقاومة نزعاتها وردها عما تشتهي؟ وبعبارة أخرى أليس واضحًا أن المرء حين يصدف عما يغريه إنما يقاوم نزعة لها أصلها في نفسه؟ مثال ذلك أن اشتهاء الرجل للمرأة والمرأة للرجل عاطفة جنسية فطر عليها الرجل والمرأة لغاية معينة هي حفظ النوع في الأصل، ولكنه لو ترك كل رجل نفسه وأرسلها على سجيتها لفسد الأمر واضطرب الحال وفشت الفوضى في […]1أو عدم ملائمة الظروف لمطاوعة الهوى أو غير ذلك من الأسباب. والمهم على كل حال، والذي يعنينا هنا، هو أن كون المرء — رجلًا كان أو امرأة — قد كبح نفسه وبدا للناس ولصاحبه أو صاحبته عفيفًا نزيهًا متجافيًا عن التنزي إلى المقابح — أو ما يعد من المقابح — ليس معناه أن نفسه لم تنازعه ولم تلج بها الرغبة فيما رد نفسه عنه والإشهاء له، وليست العبرة بالظاهر الخادع وإنما هي بالباطن المزوي عن العيون.
وبعد فما معنى هذا؟
معناه أننا من طينة الأرض يا سيدي! «وأين عن طينتنا نعدى؟» كما يقول ابن الرومي؟
1سقط في الأصل، وهو تقريبًا سطر في عمود صحفي، ويمكن أن يكون السقط هكذا: [المجتمع، وإنما يمنعه عن هذا الخوف] (المحرر).