المال هو الفضيلة والرذيلة، وهو الخير والشر، وهو كل ما في هذه الدنيا مما ترضى عنه وتتسخَّطه، وتُجلُّه وتحقره، وتفرح به وتحزن له، والناس بالمال، والرجل بلا مال لا رجل ولا شيء له حساب أو قدر، ومن كان يرتاب في أن الأمر كذلك أو لا يصدقه فما عليه إلا أن يتصور الدنيا — إذا استطاع — وقد خلت من المال، فكيف يراها تكون؟ وإلى أي حال يرتد الناس؟ وعلى أي قاعدة من الأخلاق أو سواها تقوم العلاقات بينهم؟ وعلى أنه لا حاجة بأحد إلى إرهاق النفس وتكليفها أن تتصور هذا الذي يستعصي على الخيال، وبحسب من شاء أن يُفكِّر في أية خُلَّة من خلال الخير أو الشر وفي ارتباط المال بها وأثره فيها، فإنه حقيق أن ينتهي به التأمل إلى الإيقان بأن الذي اخترع النقود يوشك أن يكون هو الذي أتاح للفضائل والرذائل ولخلال الخير والشر فرصة «التسمي» وأعانها على البروز بعد أن هيَّأ لها أن تُعرَف بأسمائها، ولا شك أن المال لم يخلق في النفس الإنسانية نزعاتها وعواطفها، ولكنه هو الذي أكَّدها وأظهر الكامن منها، وأقام المعالم، ورسم الحدود، وأحوج الإنسان إلى النظام والتشريع.
وأذكر على سبيل التمثيل أن أحد المشترعين من الأغارقة الأقدمين فطن إلى فعل المال وأثره في الحياة وفعله في عادات الناس ونفوسهم وعلاقاتهم فعمد إلى الذهب والفضة فنفاهما وأمر ألَّا تسك من هذين المعدنين الساحرين نقود، وأن تُتَّخذ العملة من الحديد، وجعل القيم خسيسة، فكانت القطعة الضخمة التي يعيا بحمل ثلاث أو أربع منها الرجلُ القوي، لا تساوي شيئًا يستحق الذكر، فكان أن كف الناس عن ادخار المال لأن الكوم من هذا الحديد لم يكن يعدل قطع صغيرة من الذهب، وانصرفوا عن البذخ والترف في معيشتهم إذ كان الحديد لا يشتري شيئًا، ولم يبق هناك ما يستحق أن يُسرَق، فبطل التلصص وانقطع السطو وما إليه، وزال التحاسد لأن الغنى والفقر صارا اسمين لا حقيقة لهما ولا فرق بينهما إذا اعتبرت الواقع، ووقفت التجارة في حدود البلاد ومع ما وراءها، وعلى القارئ أن يتم الصورة ويلونها إذا وسعه أن يهتدي إلى ألوانها.
وقد اتُّخِذَت النقود أو ما إليها في أول الأمر وسيلةً لتسهيل المبادلة والمقايضة ولا تزال كذلك إلى يومنا هذا، ولكنها صارت تُطلَب لذاتها وتُجمَع وتُدَّخَر رغبةً فيما تفيده من الاقتدار والشعور بالاطمئنان والكرامة والجاه والسطوة، فتسابق الناس إليها وتهالكوا عليها وانقلبت غرضًا يُطلَب ويُسعَى له وإن كانت قد ظلت مع ذلك «وسيلة» إلى ما وراءها مما تعين عليه، وهذا التهالك العنيف على المال واقتنائه هو الذي أظهر الكامن في النفس الإنسانية، وكشف عن المستور، ودفع به إلى السطح، وأطفاه على اللُّجَّةِ، والمرء في سكونه غيره حين يهتاجه شيء، كالبحر لا ترى منه وهو ساكن غير صفحته المصقولة، حتى إذا جاش وأزبد قذف بما في جوفه من طيب وخبيث.
فالمال داء الإنسانية وليس له مع الأسف دواء ولا منه شفاء، وأحس ما يكون المرء بذلك حين تصفر كفه وتسد الآفاق في وجهه.