الكاتب: إبراهيم عبد القادر المازني
الناشر: جريدة السياسة الأسبوعية
تاريخ النشر: 20 ديسمبر 1930
المناسبة: خلاصة وجيزة لمحاضرة ألقيت بدار جمعية أصدقاء الكتاب المقدس.
اتفق لي مرة — مذ أعوام لا أذكر عددها — أن لقيت في دار الكتب المصرية الشاعر حافظ بك إبراهيم، فجرى بيننا ذكر ابن الرومي — وكنت يومئذٍ أنسخ ديوانه — فقال حافظ بك على عادته في التواضع: إنه يعجب لهذا الشاعر كيف وسعه أن ينظم ثلاثمائة بيت في مولود ليس له في الدنيا شأن ولا عمل ولا أثر، على حين لا يستطيع هو — حافظ بك — إلا بالجهد الشديد أن ينظم بضع عشرات من الأبيات في إنسان تام الرجولة مكتمل الحياة.
فعابثته اعتمادًا مني على سعة صدره وحلمه وقلت له: إن هذا بعض الفرق بينه وبين ابن الرومي، ثم عدلت بالكلام إلى وجهه، فقلت: إني لا أرى في هذا ما يدعو إلى العجب، وإن العكس هو الذي كان حقيقًا أن يكون مستغربًا؛ لأن الطفولة كلها استعداد، وهي حافلة بالاحتمالات، فمجال القول فيها ذو سعة، ومضطرب الكلام رحيب، أما الرجل الذي اكتملت حياته فمحدود بالدائرة التي كانت فيها مساعيه؛ فالشاعر محصور في مجال معين ظاهر المعالم واضح الخطوط. وضربت له مثلًا فقلت إن الرقعة من الأرض الفضاء يسهل أن يتصور المرء مائة بيت مختلفة الطراز والهندسة، قائمة عليها، مشيدة فوقها، ولكنك لا تستطيع أن تركض خيالك على هذا النحو أمام البيت المبني؛ لأن البناء التام الذي يواجهك يصد خيالك ويأخذ عليه مذهبه.
وهذا فرق ما بين الطفل والرجل الناضج؛ فالطفولة كلها استعداد كامن ولا آخر لما تنطوى عليه من الاحتمالات، والرجل على العكس محدود بما صار إليه وما كان منه، وبما استبان من مبلغ قدرته واستعداده، والظاهر أبدًا أقل روعة من الخفي المستور، ومجال الخيال مع المُغَيَّبِ أوسع منه مع البادي المكشوف، ويخطئ جدًّا من يتوهم أن المرء في سريرة نفسه يُلقي على الطفولة نظرة عطف، وقد يكون عطف المرء على نفسه لا على ما يجري في وهمه من ضعف الطفولة وعجزها وجهلها، وأعني بعطف المرء على نفسه ما لا بد أن يحسه حين يفكر فيما انتهى هو إليه من التحديد، بالقياس إلى حرية الطفولة وما تنطوي عليه من الاستعداد الكامن، أو حين يفكر فيما يستدبره من حياته بإزاء ما لا تزال الطفولة تستقبله.
والحياة قوامها عاملان: عامل النزوع إلى الحرية المطلقة في الابتكار، وعامل الوراثة الكابح من جماح هذه الحرية لردها إلى حدودها المعقولة، ولو أن الحياة كانت تخرج صورًا معادة يطابق لاحقها سابقها ويتكرر أولها في آخرها لكان استمرارها عبثًا لا طائل تحته، وإسرافًا وسفهًا يستوجبان الحجر عليها، ولو أن كل صورة تخرجها الحياة كانت تجيء جديدة من كل وجه لا تتصل بالصورة التي سبقتها من أَيَّةِ ناحية ولا تلتقي معها في نقطة؛ لفسد الأمر وصار فوضى. ولهذا كانت الصور التي تخرجها الحياة أشبه بأن تكون توليدًا منها بأن تكون تجديدًا محضًا، فكل صورة مستحدثة لها نسب عريق في الصور السابقة، وكل طفل يخرج إلى الدنيا يتمثل فيه هذان العاملان اللذان أشرنا إليهما، فلو أن الحياة كانت مُخلى بينها وبين ما تنزع إليه من الحرية المطلقة في الابتكار لجاء شيئًا جديدًا صرفًا لا يمت بأية صلة إلى آبائه، ولكن عامل الوراثة يقيد هذه الحرية ويكبح جمحتها فيصبح الطفل وهو ليس إلا خطوة أو بعض الخطوة في سبيل التجديد، وهكذا في كل شيء.
والإنسان في شبابه لا يكاد يُعنى بالطفولة أو يكترث لها أو ينثني بالخاطر إليها؛ لأن حيويته لا تزال متدفقة وعبابها ما انفك زاخرًا، فليست به حاجة إلى التلفُّت إلى الوراء أو رد الفكر إلى صدر الأيام، وهو أشبه بالمصعد في جبل كل همه أن يبلغ قمته ويتوقل إلى ذروته، وبحسبه ما هو فيه من مشاغل الإصعاد وملهيات التوقل، حتى إذا انتهى إلى الذروة، وأشرف من فوقها على الانحدار الذي يتراءى له بعد أن أوفى على القمة، وتمثل له المصير الذي لا محيد عنه ولا مهرب منه، وارتسم في ذهنه الآخر الذي سيهبط إليه من الناحية الأخرى التي كانت محجوبة عنه وهو مصعد في الجبل؛ تلفتت عينه إلى الوراء، وتلبثت على معاهد شبابه وأيام فتوته، ثم تؤذنه الأيام بالانحدار فيهبط متلكئًا متلفتًا بقلبه بعد أن غاب عن عينه طريق شبابه، ولم يبقَ منه إلا صوره المرتسمة في ذهنه. ومن هنا كان الشاب قَلَّ أن يخطر الموت على باله؛ لأن حيويته الزاخرة لا تُعِينُهُ على حسن تصوُّر الموت الذي يمثل نضوب الحيوية، ومن هنا تلك الرجة التي تحسها نفس الشباب حين تصادف منظر الموت. ولكن الحيوية تفتر على الأيام ومع ارتفاع السن، ويجيء الكلال مع طول السعي ومشقة الإصعاد في جبل الحياة، حتى إذا واجه المرء في كهولته — وبعد الذي أصابه من النضوب والوني — مصيره الذي لا مفر منه، لم يستهوله كما يستهوله الشاب، والعادة تبليد، وأخلق بالمرء بعد أن يلازمه خاطر الموت الذي هو ملاقيه لا محالة، أن يأنس إليه ولا يعود يجد له تلك الفزعة القديمة.
وما أقسى ما تردنا الحياة إليها وتقسرنا على السكون إلى سنتها، وتروضنا على الارتياح إلى ما نكره منها والرضى بما تتسخطه؛ فإن الشاب لَيكون مفتونًا بآماله مسحورًا بمساعيه مُمْعِنًا في لجاجته فيما يخلق لنفسه من غايات، وإذا بالحياة تعنف به وتدير له وجهه وتقيد عينه إلى ما طال انصرافه عنه، فيكاد يجمد الدم في عروقه.
وقد كنت في شبابي — كأكثر المسحورين — لا أكاد أنثني بخاطري إلى الطفولة أو أدرك معنى الأبوة؛ لأني كنت مفتونًا بالأدب الذي تبنيته ذاهلًا به عن البنوة والأبوة جميعًا، ولم أكن أطيق أن أرى ابني أو ألاعبه أو أسمع صوته، وكنت أحس أن وجوده معي أو وقوع عيني عليه أو سماعي صوته، يسرق مجهود ذهني ويغتصب منه ما لا حق له فيه. وإن لي الآن لَطفلًا صغيرًا كما كان لي قبل عشرين عامًا، ولكن المازني الشاب قد ذهب وجاء غيره، كما قلت من قصيدة — أيام كنت لا أزال أقول الشعر من فرط غروري:
إني أراني قد حلت، وانتسخت
|
مع الصبى، سورة من السورِ
|
وصرت غيري، فليس يعرفني
|
— إِذا رآني — صباي ذو الطررِ
|
ولو بدا لي، لبِتُّ أنكره
|
كأنني لم أكنه، في عمري
|
كأننا اثنان ليس يجمعنا
|
في العيش، إلا تشبث الذِّكرِ
|
مات الفتى المازني، ثم أتى
|
من مازنٍ غيره على الأثرِ
|
وقد يكون الكتاب أو القلم في يدي، فأرى ابني مقبلًا عليَّ؛ فأدع ما أنا فيه غير متردد ولا آسِف، وأمد له ذراعي وأفتح له صدري، وبودي لو استطعت أن أشق قلبي لأُبَوِّئَهُ حَبَّتَه، ولشد ما يحز في نفسي الألم إذا جنح إلى المعابثة وانصرف عن ذراعي الممدودتين أو آثر أمه أو أخاه بالعناق! والأدب الآن هو الذي يسرق مجهودي الذي ينبغي أن يكون وقفًا على ولديَّ، وإني لأكره أن أصبح على غير وجهيهما أو أن أنام قبل أن أملأ ناظري منهما، وقد يكون أحدهما نائمًا وأنا أقرأ أو أكتب، فلا أزال كل بضع دقائق أنهض إليه لأُقَبِّلَهُ ثم أعود إلى عملي مغتبطًا منشرح الصدر.
كذلك تردنا الحياة إليها.
وعندي أن شعور الأب نحو ابنته حقيق أن يكون أصفى من شعوره نحو ابنه، وأقول إنه حقيق أن يكون كذلك؛ لأني لست على يقين منه إذ كنت لم أجربه، فقد أبت المقادير أن تكون لي بنت أتملى بها وأنعم، ولكن هذا فيما يبدو لي هو وجه الصواب؛ فإن الابن هو خليفة أبيه، فلا يسع الأب إلا أن يحس في أعمق أعماق نفسه أن عليه في الوقت المناسب أن يُخَلِّي مكانه لابنه وأن يتنحى له عنه، وفي هذا غضاضة لا تخفى وإن خفي الشعور نفسه عن أكثر الناس أو ندر الالتفات إليه، ولكن البنت لا يمكن أن تثير في النفس مثل هذا الإحساس، فعاطفةُ الأب نحوها جديرة بأن تكون أصفى، وحَرِيَّةٌ بأن تظل غير مشوبة بما يكدرها من ناحية هذا الخاطر، مهما بلغ من ضآلته أو فتوره أو احتجابه أو قلة وروده على الذهن.
ولا ينقص الطفل من الكبار العطف، ولكنما ينقصه منهم أن يفهموه؛ فإن العطف مكفول أو هو في حكم المكفول، وقَلَّ من يفهم طبيعة الطفولة وحاجاتها وما تحتاج إليه من المعاونة. سألني ابنى الكبير مرة قبل أن يكبر: «يا بابا، هل أنت بابا؟» فزجرتْه جدته وعدَّت ذلك منه قلة أدب، وخالفتها وصرفتها من متابعة الزجر؛ لأن هذا الطفل لا يفهم من لفظ «بابا» معنى الأبوة الذي ندركه نحن الكبار، وإنما هو لفظ عوَّدوه أن يطلقه على شخص معين وأن يدعوه به، ولو عوَّدوه أن يسميه: «ماما» لفعل غير متحرج أو مدرِك للخطأ.
وسألني مرة أمام بعض الكبار من أقربائه: «أليس الله قادرًا على كل شيء؟»
قلت: «نعم».
فقال: «فهل يستطيع أن يخلق حجرًا لا يقدر أن يحمله؟»
فثار به أقرباؤه وكفَّروه ودعوه أن يستغفر الله ويتوب إليه، وخالفتهم أيضًا وأنكرت منهم ثورتهم به؛ لأنه لم يصنع أكثر من أنه مَرَّ بهذا السؤال أو سمعه من أحد أنداده في المدرسة فجاء يلقيه عليَّ مستفسرًا باحثًا عن الحقيقة، أو على شر الاحتمالين، معابِثًا لي مريغًا مني العجز عن الجواب. فبينت له وجه المغالطة في السؤال وطريقة اللعب بالألفاظ، وأفهمته الخطأ الذي يقع فيه من يتصور أن الله شيء مادي، فاقتنع فما سمعت منه بعد ذلك ما يشي بعدم الاقتناع … إلخ إلخ.