سمعت بعض الخطباء في الحفلة (هي الحفلة التي أقامها زميلنا الأستاذ محمد أفندي علي الطاهر صاحب جريدة الشورى في ٢ يناير) التي أقيمت لتكريم الأستاذ عبد العزيز الثعالبي الزعيم التونسي المعروف، يقول بلا احتياط أو تحرُّز إن مصر لا تحتاج إلى جيش يحميها ولا إلى أسطول يذود عن حياضها ولا إلى غير ذلك من أسباب القوة المادية، وإنما حاجتها كلها إلى الأخلاق، ثم انطلق الخطيب يورد الصفات التي تنقص المصريين، ولا داعي لسردها هنا فإنها كل الخلال الحميدة.
وعندي أن هذه نظرية مقلوبة، وأن الأخذ بها خطر، ولست أعرف شيئًا هو أضر بأمة من الأمم من أن يظل خطباؤها يقومون في المحافل ويؤكدون أن شعبهم ينقصه كذا وكذا من الصفات التي تجعل الناس أَكْفَاء للحياة ومطالبها؛ فإن هذا مآله أن يتقرر الاعتقاد في النفوس أن الأمر كما يصف هؤلاء الخطباء وأن الحقيقة هي ما ذكروا، وخليق بالناس إذ يسمعون ويقرءون كل يوم أن الأمة ضعيفة الأخلاق مفتقرة إلى الشجاعة والنزاهة وغير ذلك مما يبدئون فيه ويعيدون — أن يقتنعوا على الأيام بأنهم كذلك، ولهذا الاعتقاد أثره الطبيعي الذي لا مفر منه، وهو أن يجيء سلوكهم بعد ذلك مطابقًا لما شاع في نفوسهم الإيمان به؛ وليس في هذا مبالغة، فإنَّ فعلَ الإيحاء معروفٌ، وما نتَّهم الخطباء بأنهم يقصدون إلى الإيحاء، ولكنما نتهم الذين ينسجون على هذا المنوال بما هو شر من تعمد الإيحاء، ونعني به الجهل، ومن أمثلة فعل الإيحاء ما يحدث في التنويم المغناطيسي؛ إذ يوحي المنوِّمُ إلى النائم الفكرة فيتخذ كل مظاهرها، كأن يقول له: «إنك جندي» فيعتدل النائم ويقف كالرمح ويخطو خطوة الجندي، أو يقدم له ماء ويقول له اشرب هذا النبيذ، فيجد له طعمه ويحس إسكاره، بل يحدث ما هو أبعث على الدهشة من ذلك؛ إذ يوحي المنوم إلى صاحبه النائم أنه امرأة، فيلين وتصدر عنه حركات الأنثى، ويروح يُرقِّق صوته إلى آخر ذلك.
وتأثير الإيحاء في النائم سريع، وهو في الأمم بطيء ولكنه مُحقَّق، والنتيجة واحدة، لأن المهم والذي عليه المعول هو أن يشيع في النفس ويتقرر فيها الاعتقاد بأمر أو حالة ما، ويقيني أن الذي يؤمن في أعمق أعماق نفسه بأن عمره طويل يكتسب من المناعة والقدرة على مغالبة أسباب الضعف ما يمتد به أجله، والعكس بالعكس. وأذكر أني قرأت في معنى ذلك قصة قصيرة لا أذكر اسمها ولا اسم كاتبها، ومحورها أن رجلًا يعيش في أفريقيا الشمالية وأن الشائع أن له من العمر مئات من السنوات، والكاتب يقول — تَخَيُّلًا — أنه قصد إليه ليراه وكان قد جف وذوى ورنقت فوقه المنية، وقد علل طول عمره باستقرار إيمانه بذلك فيما وراء الوعي. والقصة متخيلة، ولكن النظرية التي تقوم عليها صحيحة ليس في الوسع المكابرة فيها، وليس معنى هذا أن في وسع الناس أن يطيلوا أعمارهم وإنما معناه أن الإيمان الراسخ — حتمًا من غير أن يفطن المرء إليه — يعين على الحياة ويمد الإنسان بأسباب القوة والجَلَدِ، وهذا هو المهم.
ونعود إلى ما استطردنا عنه فنقول: إننا لا نعرف أمة — لا المصرية ولا غيرها — ينقصها شيء من الخلال التي تتحلى بها الأمم القوية العزيزة الجانب، وإنما الذي ينقص مصر وأمثالها هو الأسباب أو الظروف التي تبرز الصفات والمزايا التي يتوهم البعض أنها معدومة أو ضعيفة، ولو أننا فتحنا غدًا عيوننا فإذا بمصر قد صار لها جيش قوي قادر على صد الغارات وحماية الذِّمار، لراعنا التغيُّر الذي يطرأ على نفوسنا وسلوكنا ولأذهلنا أننا قد صرنا أمة أخرى، نريد نقول: إن ما عليه الأمة كدولة من قوة أو ضعف هو الذي يبدي أفرادها على النحو الملائم لهذه الحالة، وليتصور القارئ أنه يمشي في الليل في طريق مقفر غير مطروق، وأنه أعزل من كل سلاح يصلح للمقاومة؛ فكيف يكون حاله؟ إنه لا شك يكون وجلًا ويمشي متلفِّتًا، مُؤْثِرًا للانزواء، أو كما يقول الشاعر «إذا رأى غير شيءٍ ظنَّه رجلًا»، بل ظنه قاطع طريق أو فاتكًا من الفُتَّاك، وليس هذا من الجبن ولكنه من الشعور بالضعف. والآن فتصوَّر هذا الرجل نفسه، في هذا الطريق الموحش بعينه، ولكن معه في هذه المرة مسدس محشو فكيف تظن مشيته تكون؟ لا خوف على التحقيق ولا إيثار للانزواء، وإذا تلفت فإنما يكون هذا منه تلفُّتَ الحَذِرِ الذي يريد ألا يؤخذ على غرة، لا تلفُّت المُوجِس من غير شيء، المتوقِّع لكل سوء؛ لأن معه سلاحًا يدفع به عن نفسه أو يرهب به من يتعرض له، وقد لا يكون هذا من الشجاعة، ولكنه على التحقيق من الشعور بالقوة.
كذلك المفلس مثلًا تراه متهضم الوجه غائر العين شارد النظرة أو حائرًا أو مكتئبًا، وإذا طال عهده بالإفلاس فقد تتجه خواطره إلى المحظورات، ولا يستغرب أن يجره الفقر إلى شتى المهاوي، وعلى خلاف ذلك ترى الغنيَّ الواثق من قدرته المالية، فإن علمه بأن المال معه أو قريب منه أو في متناوله على كل حال، يكسبه اعتزازًا بالنفس وجرأة في الجنان وسرعة في العمل، ويقوِّي على العموم في نفسه العناصر التي تعين على النجاح في الحياة. والمال قوة، والفقر ذلة، وما نحسب القراء قد نسوا قصة الجرذ الذي حكى صاحب «كيلة ودمنة» أنه فقد ما كان قد ادَّخره من مال فأصبح كسيحًا عاجزًا عن الحركة، وما به من مرض ولكن الذي به هو الشعور بالضعف الذي يجيء مع الفقر.
فليست حاجة مصر أو سواها من نظائرها إلى الأخلاق، ولكنما حاجة هذه الأمم إلى أسباب القوة؛ فإن مجرد شعور الأمة بأنها تملك من هذه الأسباب الكفاية، كفيل بإبراز الصفات المنشودة وتأكيد المزايا المندوبة.
ثم إن حاجتنا شديدة إلى أن يكف أمثال هؤلاء الخطباء عن الهراء البحت الذي يُهضِبُون به في المحافل، وليته كان هراء فحسب، إذًا لدخل من أذن وخرج من أذن، ولكنه ينقلب في آخر الأمر إلى إيحاء سيِّئ الأثر في حياة الأمة، ويصبح عونًا للزمان عليها.