اشترى صديق لي قطعة من الأثاث — وأعني أنه صديقي لا أنه اشتراها لي، فما أقل ما يتهادى الأصدقاء بعد أن ترسخ قواعد الود، وأكثر ما يكون الإيثار وكرم النفس حين يكون الود مخطوبًا، هكذا الإنسان — ودعاني صديقي أن أرى هذه القنية الثمينة، وفي مرجوه ولا شك أن أُسمِعه من الثناء عليها ما يُشعِره أنها حقيقة بما بذل فيها من مال، فلما أبصرتها لم أُكْبِرها، ولم أرتح إلى منظرها، واستسخفت ما فيها من الصنعة، وجعلت أدله على عيوبها، وهو يحملق في وجهي ويعجب لي، ويرثي لبلاهتي، ويزعمني جاهلًا، ويؤكد لي أنها قديمة وأنها كنز نفيس، وأن لها في هذه الدنيا لا أقل من خمسمائة عام.
فأما جهلي فلا شك فيه ولا حيلة أيضًا، وأما قدمها أو حداثتها، فمسألة أخرى لا أراها تُحِيلُ القبحَ جمالًا ولا التشويهَ مَزِيَّةً، وليست المسألة أني جاهل وإنما هي أن منظر القطعة في رأي العين غير رائق، وسواء لديَّ بعد ذلك أكانت مصنوعة منذ ألف عام أم نَفَضَ الصانع منها يديه منذ بضعة أيام، ولكن صاحبي تعلق بطول عمرها وأغضى من أجل ذلك عن شيء كثير.
وخرجت وأنا أقول لنفسي إن من السخافة أن يعتقد المرء أن كل ما صُنِعَ في سنة ١٥٦٠ مثلًا لا بد أن يكون جميلًا أو رائعًا، وأن كل ما يخرج من أيدي الناس في عامنا الحاضر تنقصه — لا محالة — عناصر الجمال أو الروعة، فليست العبرة بالزمن ومقدار ما مرَّ منه ولكنما العبرة بما في الشيء من مزية، ولو أن الزمن هو مكسب المزايا ومفيض الروعة على الأشياء … ولكنه ليس به، وتمنيت لو أن الأيام تستطيع أن تخلع على مقالي هذا جلالها الموهوم، إذن لما حفلت نفسي ماذا أكتب، ولَوَثِقتُ أن ما أُخلِّفه ورائي سيقرؤه الناس في سنة ٣١٦٥ ويجدون فيه من الروعة ما لا يحسُّونه من أنبغ نوابغهم في زمانهم، ولكن هيهات …!
ومن هذا القبيل ولع البعض بالمخطوطات القديمة ولو كانت هراء، والغريب أنها لو طُبِعَت ونُشِرَت لما عَبَأَ بها أحد شيئًا؛ لأنها لا قيمة لها في ذاتها، وإنما كل قيمتها راجعة إلى قِدَمها، وأغرب من ذلك أن تطير للمولعين بجمعها سمعة وأن يكون ذلك داعيًا إلى أن يلهج الناس بعلمهم وإن كانت لا تفيد علمًا ولا أدبًا، ولا شك أن القِدَم يصقل الشيء، ولكن الصقل غير متعذر مع الحداثة، وأحسب أن الاعتزاز بالقديم فيه من الغرور معانٍ، وكأني بالذي يقع على قديم ويفرح به ويضن، يستكثر في أعمق أعماق نفسه أن يكون الإنسان في صدر الزمان قد وسعه أن يجيء بشيء كهذا، وكأني به أيضًا لا تخفى عليه عيوبه ولا تغيب عنه مواضع الضعف أو السذاجة فيه، ولكنه يغتفر ذلك ويجنح إلى التسامح لأنه يعتقد أن الإنسان في ذلك الزمن السابق حَسْبُه مبلغ ما وُفِّقَ إليه، وشبيه بذلك فرح الرجل بآثار ابنه الطفل، فقد يتفق أن يصنع لعبة أو يَخُطُّ كلمة أو يفعل غير، ذلك فيدخرها أبوه ويحتفظ بها ولا يزال كلما رجع إليها يجد منها روحًا وإيناسًا ويفيد سرورًا واغتباطًا.
ومعنى آخر ينطوي عليه إكبار القديم؛ ذلك أن قدم الشيء يفيد معنى المتانة والثبات، والبقاء شيء محبب في عالم كل ما فيه زائل متحول، وتراخي الحقب على الأثر يوقع في الروع أنه ما بقي إلا لمزايا فيه أرضت الأجيال عنه، فكأنه يسير مع الزمن في حاشية حاشدة من الرضى العام حتى إذا انحدر إلى الأحياء راعهم منه ما يحف به من قوة هذا الرضى الزاخر، ومن هنا كلمة المعري المشهورة، فروعة القديم أكثر ما تكون للحواشي لا للأصل، وللمعاني العالقة بالشيء لا لمزاياه الذاتية، وهذا ما يجب التحرُّز من الخلط فيه إذا أريد التقدير الصحيح.
أراني صاحبٌ لي خاتمًا أو دبوسًا — لا أذكر — فيه حجر فرعوني منقوش وسألني: أقديم أم جديد؟ فقلت: وما سؤالك هذا؟ قال: «لأنه لا يستحق شيئًا إذا كان جديدًا؟» فقلت: ولكن إذا كانت الصنعة دقيقة ومطابقة للأصل فماذا يكون الفرق؟ تصوَّرْه قديمًا وادفنه بخيالك في التراب أدهارًا تَفُزْ بالشعور الذي تبغيه، وعلى أنك لن تستطيع أن تتخذ من القديم حلية حتى تنفض عنه التراب وتغسله وتصوغه، كما ترى هذا الذي في إصبعك، فهز رأسه وسكت، وأحسبه لا ينظر إلى الفن من حيث هو، ولا يقدره لذاته، وإنما باله كله أو أكثره إلى شعور الزهو بالظفر بقديم يعز مثله ويندر نظيره، وإلى إحساس المباهاة بالتفرد أو ما هو في حكمه، أي قلة المشاركة، وهو إحساس طبيعي، والإنسان يسره بلا مراء أن يَقِلَّ مشاركوه في صفاته أو مزاياه أو مقتنياته.