أوصاني أبي وأبوه وكل جَدٍّ لي إلى الشيخ آدم أنْ أكنز المال، قالوا: والمال عصب الحياة، بل هو الحياة، ولا قيمة لشيء في الدنيا بغيره، وليس بحيٍّ مَنْ ليس له مال، وغاية حظه أنه موجود في الدنيا ومحسوب في الأحياء على التسامح، قالوا: ولا حرية لفقير، ولا حق لمُعْدَم، ولا كرامة لمفلس، وإذا لم يكن للإنسان مُدَّخر حين يمد اليد حتى إلى الأجر الذي عملتْ به، فقد خضعت رقبته لمُعطِيه حقَّه، وهان عليه أمره.
قالوا: وكن مَن شئت أو ما شئت أدبًا أو علمًا أو خُلقًا، فليس بمُجدِيك هذا فتيلًا ولا رافعك كثيرًا أو قليلًا، إذا كنت فقيرًا، وأحر حينئذٍ بالأدب أن يكون من ذنوبك التي تُحصَى عليك، وبعلمك أن يكون مدعاة لكرهك أو استثقال ظِلِّك، وبالخلق الذي أنت عليه أن يَجُرَّ عليك الهضيمة والغمط والاستخفاف، ثم كن من شئت فراغًا أو جهلًا أو سوء خلق، فلن يضيرك هذا إذا كان لك مال، فإنه شفيع لا يخيب، وستر لا يُكشَف، ودرع سميكة تقيك وترد عنك النصال مكسرة، ولا تصدق أن في دنياك عدلًا، أو أن القوانين تكفل لك حقًّا، أو أن كونك إنسانًا يجعلك مساويًا لأي إنسان سواك، إنما العدل هو المال، والحق هو المال، والمساواة هي المال، وعلى قدر مالك تكون الرغبة في إنصافك، والاجتهاد في إعطائك حقَّك وتقديمك أو تأخيرك، ورفعك أو حطِّك، بل نظرة الإنسان إلى الإنسان تَرِقُّ أو تجفو، وتدعو أو تَطْرد، وتكرم أو تهين، وترحب أو تغضي، ويلمع فيها نور البشر أو يفترها الملال أو يسودها النفور، تبعًا لمالَيْهِمَا، والمال يقلب المذامَّ محامد، والفقر يعكس الآية ويقلب القضية.
قالوا: ولا ديمقراطية ما دام أن في الدنيا شيئًا اسمه المال؛ لأن المال يقسم الناس فريقين: غنيًّا، أي ليست به حاجة، وفقيرًا، أي به حاجة؛ ولا يستوي مستغنٍ ومحتاج، وكل ما يحاوله الإنسان من تنظيم حياة الخلق على قواعد الاشتراكية أو الشيوعية أو غيرهما مما يمكن أن يخطر له، عبث وباطل ومحال، فاعرف هذا واجعل وَكْدَكَ جمع المال وتكديسه فإنه أجدى عليك من كل تعبك تحت الشمس.
قالوا: وقد كان اليونان الأقدمون يزعمون في بعض أساطيرهم أن المرء بعد الموت ينحدر إلى وادي الأشباح، وهناك يتلقَّى «أتروب» الموتى ويحصيهم، ويسلمهم إلى «شارون» النوتي لينقلهم على زورقه ويعبر بهم نهر «ستيكس» — أو نهر النسيان إذا شئت — إلى حيث يحاسبون، والنقل على الزورق بأجر، ولا بد أن يؤدي الميت هذا الأجر إلى شارون النوتي، وإلا امتنع عن نقله، وتركه معلقًا بين الدنيا والآخرة!
فحتى الآخرة فيما تصف هذه الأساطير الإغريقية يلقَى فيها ذو المال التيسير ويشقى فيها الفقير، فاعرف هذا ولا تنسه.
والمال هو الخير والشر، والفضيلة والرذيلة، والشرف والضعة والكرامة والمهانة، والقوة والضعف، والقدرة والعجز، ولا تصدق من يقول لك غير ذلك، جرِّد الدنيا من المال تمحُ كل هذا، وتترك الحياة باهتة مسيحة لا لون لها ولا طعم، ولا طماح فيها ولا سعي، ولا شيء من المغريات بهما. وقد أضنى الفلاسفة عقولهم في البحث عن أصل الخير والشر وغير ذلك، والأصل تحت أعينهم، وهل ثَمَّ أصل غير المال؟ ومن كان يرتاب في أن الأمر كذلك فما عليه إلا أن يتصور الدنيا — إذا وسعه ذلك — وقد خلت من المال، فكيف يراها تكون؟ وإلى أي حال يرتد الناس؟ وعلى أية قاعدة من الأخلاق أو سواها تقوم العلاقات بينهم، وعلى أنه لا حاجة بأحد أنه يرهق نفسه ويكلفها أن تتصور هذا الذي يكاد يستعصي على الخيال، وبحسب مَن شاء أن يفكر في أية خلة من خلال الخير أو الشر وفي ارتباط المال بها وأثره فيها، فإن التأمل حقيق أن ينتهي به إلى الإيقان بأن المال — كائنة من كانت صورته — يوشك أن يكون هو الذي أتاح للفضائل والرذائل ولخلال الخير والشر فرصة «التسمي»، وأعانها على البروز بعد أن هيَّأ لها أن تُعرَف بأسمائها. ولا شك أن المال لم يخلق في النفس الإنسانية نزعاتها وعواطفها، ولكنه هو الذي أكَّدها وأظهر الكامن فيها، وأقام المعالم ورسم الحدود وأحوج الإنسان إلى النظام والتشريع.
وأذكر على سبيل التمثيل أن «ليكرج» المشترع الأسبرطي فطن إلى فعل المال وأثره في الحياة وفي عادات الناس ونفوسهم وعلاقاتهم، فعمد إلى الذهب والفضة فنفاهما وأمر أن لا تُسكَّ من هذين المعدنين الساحرين نقود، وأن تُتَّخذ العملة من الحديد، وجعل القيم خسيسة، فكانت القطعة الضخمة التي يعيا بحمل ثلاث أو أربع منها الرجلُ القوي، لا تساوي شيئًا يستحق الذكر، فكان أن كفَّ الناس عن ادخار المال؛ لأن الكوم من هذا الحديد لم يكن يعدل قطعة صغيرة من الذهب، وانصرفوا عن البذخ والترف في معيشتهم، إذ كان الحديد لا يُقتنَى ولا هو يشتري شيئًا، ولم يبق هناك ما يستحق أن يُسرَق، فبطل التلصص وانقطع السطو وامتنعت الخيانة وما إلى ذلك، وزال التحاسد لأن الغنى والفقر صارا اسمين لا حقيقة لهما ولا فرق بينهما إذا اعتبرت الواقع، ووقفت التجارة في حدود البلاد ومع ما وراءها، وعلى القارئ أن يتم الصورة ويلونها إذا وسعه أن يهتدي إلى ألوانها.
وقد اتخذت النقود دومًا إليها في أول الأمر وسيلة لتسهيل المبادلة والمقايضة، ولا تزال كذلك إلى يومنا هذا، ولكنها صارت تُطلَب لذاتها وتُجمَع وتُدَّخر رغبةً فيما تفيده من الاقتدار والشعور بالاطمئنان والكرامة والجاه والسطوة؛ فتسابق الناس إليها، وتهالكوا عليها، وانقلبت غرضًا يُطلَب ويُسعَى له، وإن كانت قد ظلت مع ذلك وسيلة إلى ما وراءها مما تُعِين عليه، وهذا التهالك العنيف على المال واقتنائه هو الذي أظهر الكامن في النفس الإنسانية، وكشف عن المستور، ودفع به إلى السطح وأطفاه على اللُّجَّةِ، كالبحر لا ترى منه وهو ساكن غير صفحته المصقولة حتى إذا جاش وأزبد قذف بما في جوفه من طيِّب وخبيث.
قالوا: وليس أقوى من المال إلا القدرة على الاستغناء عنه، فمن كره أن يحشد المال ويشد به أزره ويقوي به ساعده، فلينفض منه يده، ولما كان المال هو كل ما في هذه الدنيا مما ترضى عنه وتتسخطه، وتُجِلُّه وتحقره، وتفرح به وتحزن له، فنفضُ اليد منه معناه ومُؤدَّاه نفض اليد من الدنيا نفسها، وإذا كان المال قوة، فإن أقوى القوة أن تستغني عن القوة، والزاهد الذي يصفِّي نفسه ويخنق شهواتها ويقتل أهواءها ويروضها على الاستغناء عن كل ما يطلبه الناس ويسعون له — هذا يخلق من روحه قوة تربى على قوة المال ولا تباليها.
قالوا: فإما أن تغنَى أو تزهد، وإلا عشت محتاجًا إلى الناس، والناس من تَعرِف، كذلك أوصاني أبي وأبوه وأجدادي إلى آدم.