الموت ثمرة الحياة التي لا يعرف الأحياء لها جنى سواه، ولكن النفوس لا تألفه إلفها هذا الهواء، ولا تزال ترى في قديمه المتكرر جديدًا يروع ويدهش ويفجع، وكل مألوف يفتر وقعه إلا هذا، وما من فرق في نظر الفكر بين حالة ميلاد وحالة ممات، وما يدرينا لعل الذين انتقلوا إلى ذلك العالم المجهول يفرحون بالذي يضمه القدر إليهم فرح الأحياء بالوليد الجديد، والأحياء يزعجهم ذكر الموت ووقعه، فما يدرينا كذلك؟! لعل الذين ماتوا يفزعهم أيضًا ذكر الحياة التي أريحوا منها، ولو خُيِّر الأحياء ما اختار منهم واحد أن يموت، فأكبر الظن أن لو خُيِّر الأموات ما اختار منهم واحد أن يرتد إلى الحياة، أو ما نسميه نحن الحياة، ورب مُعمِّرٍ ما عاش إلا ساعات، ورب صغير كان الدهر عمره، وليست العبرة بعدد السنين ولكنما هي بامتلائها وبما بذل المرء فيها من نفسه، وعلى قدر ما أعطى المرء الدنيا من نفسه يكون إحساسها به، والأنحاب تُقضَى كل يوم، ولكن الناس لا يهزهم إلا نحب الذي أيقظ نفوسهم ولو عليه، ونبَّه مشاعرهم ولو إليه، وعاش — فيما يحسون — لهم.
وقد عاش حافظ وكأنه كان يحسُّ الحياة بأعصاب عارية، وكان همه أن يتلقى — بهذه الأعصاب الحساسة — وقع الحياة ثم ينقلها إلى الناس مصوَّرة في شعر جزل رصين، سهل الورود على الأذن، سريع النفاذ إلى القلب، وكان يرسل نفسه على سجيتها بلا تكلف أو تعمل، فلا يذهب يتصيد النافر من المعاني، ولا يحاول الإغراب في لفظ أو فكرة، وإنما دأبه أن يخاطب القلوب من أقرب طريق، وكان إلى هذه البساطة التي امتاز بها في العرض مخلصًا صادق السريرة، والإخلاص مُعدٍ، والنفوس معايير حساسة لا يجوز عليها الزيف ولا يدخل عليها التصنُّع والغش ولا يخدعها التزويق والدجل، وحافظ بفضل الله كان من أبعد الناس عن ذلك، فلا تكلف ولا خداع ولا رياء ولا مأرب أيضًا غير الإفضاء بما يختلج في نفسه ويضطرب به صدره، فما عُرِفَ عنه أنه طلب مالًا أو عَبَأَ به إذا امتلأت به كفه، ولا بغى بشعره أملًا، غير أن يُحدِثَ شعره الأثر الذي ينشده ويحرك النفوس إلى ما حرك نفسه، ولم يخاتل قط ولا صانع أو مالق أو دارى، وأكرم نفسه فكرمت على الناس، ولم يهنها فأحلها الناس محلها من الإكبار والحب، ولم يحسد ولم يحقد ولم يشعر يومًا أن الدنيا تضيق بغيره معه، وكان أبدًا أخًا لكل أديب، وكان يعرف لكل امرئ قدره ويعترف به مخلصًا في المعرفة وفي الاعتراف، وقد نشط المذهب الجديد في الشعر وحافظ في عنفوان قوته وإبَّان شهرته، فلم يخاصمه ولم يناصبه، ولم يَكِد له، ولم يسلط عليه نفوذه الظاهر أو الخفي، ولم يحمل عليه بشهرته، بل حبذه وشهد له وصادق رجاله ومضى هو في طريقه وأفسح لهم طريقهم، عارفًا أن الحلبة تتسع له ولهم ولا تضيق بأحد منهم، وحسبك بهذا دليلًا على رحابة الأفق وطيب الشيم ومروءة النفس وكرمها، وقد اقترنت حياته الأدبية بالنهضة القومية، وفي وسعنا أن نقول — بلا مغالاة — إن شعره كان من أقوى العوامل في هذه النهضة، ومن أسبقها أيضًا وأحقها بالذكر، وقد عقد حافظ أخراه بأولاه فلم يكد يُطلَق من إسار الوظيفة حتى عاد يحتث النفوس ويحفزها ويستثير شعورها بالكرامة والغيرة، ولحافظ في هذا ميزة أيضًا يجب أن تُذكَر، فما كان قطُّ في حياته ساعيًا لفُرقة أو ماشيًا بوقيعة، وإنما كان أبدًا داعية للتآزر، إذ كان مفطورًا على الخير عَزوفًا عن الشر نَفورًا منه، ولقد اختلف المصريون ما اختلفوا في أحوال وظروف شتى فما دخل حافظ بينهم — حين بدا له أن يدخل — إلا ليؤلِّف بين القلوب، ويجمع الكلمة، ويوحد الصفوف، وأحسب أن طبيعة الخير والعطاء التي بُنِيَ عليها هي التي عدلت به عن السيف إلى القلم، وبغَّضت إليه حياة الجندية وأغرته بالأدب.
وكشعره — حياته — بساطة تنفر من التكلف، ووفاء للذين اتصلت أسبابه بأسبابهم، وكرم عريض يصدر فيه عن مروءة فطرية ولا ينشد من ورائه غاية، وأنس محضر، ورقة حاشية، وتواضع محبب، وصراحة في أدب جَمٍّ، وحلم وطيد، وإغضاء عن إساءة، وإيثار للصفاء، وكان — رحمه الله — مليح الفكاهة، سريع الخاطر، حلو الحديث فياضًا، وقد أعانه على ذلك أنه كان قويَّ الذاكرة، حافظًا للمختار في كل باب وكان إلى هذا حسن الإلقاء، ومن حسن إلقائه أنه كان يقطع الكلام على المعاني يبرزها ويؤكدها ولا يجريه على النظم وحده، يساعده على ذلك صوت قوي ونبرات موفقة، فالكلام جاريًا على لسانه له ضِعفُ مزاياه حين يسمعه المرء من سواه.
وقد عرفت حافظًا من ثلاث وعشرين سنة، فما أنكرت من سيرته أو خلقه شيئًا، وحببه إليَّ كل شيء: صدق وطنيته، وحرارة حماسه في صدر أيامه وشيخوخته على السواء، وعزمه المصمم الذي لم تحلِّله الأيام والحادثات ولم ينقض مِرَّته وما يرغب به أو يخوف ويهدد، وغيرة متقدة لم تفترها السن ولم يوهِها الضعف والمرض، ولم تكتمها الوظيفة، ولا أطفأتها مطالب العيش، ووفاء لحقوق أمته هو فوق ما عرفت حتى من الوفاء للنفس، وحماسة في الخير وقصور عن الشر، وكرم مكتوم شهدت بعض آياته بكرهه، واطلعت على ما كان يؤثر إخفاءه منه لو أن ذلك وسعه، وإنصاف للغير من النفس لا يستطيعه إلا الكبير القلب العظيم الروح، وحب واسع يفيضه على كل الناس، وتسامح هو دليل القوة والثقة بالنفس وعنوان الرجولة وإباء وكرامة في رقة حاشية، وتواضع لا يُشَجِّع متهجِّمًا ولا يُجرِّئ متوقحًا، وصبر هو من الإيمان العميق، وحلم هو من سعة العقل وكرم النفس، لا من الضعف أو الجبن، وخفة إلى المعروف، واتساع صدر للنقد وإقرار كريم بالحق.
لقد بدأ حافظ حياته جنديًّا، وانصرف عن الجندية وزهد في التقتيل والتذبيح ورغب عن حياة كل ما فيها يذكر بهما، ولكنه على هذا عاش ما عاش وأبرز مزاياه أنه جندي شهم جاهد في سبيل وطنه، وجاهد في سبيل لغته، وجاهد في سبيل الشرق كله، وجاهد في سبيل الخُلق الكريم، وكتب الله له التوفيق في كل ما جاهد فيه، فله على اللغة والأدب والوطن والشرق الفضل الذي لا يُجحَد، وعلى عدو واحد، وكل من في مصر والشرق له صديق يكبره ويحبه ويبكيه.