اسمي المازني، كما أعتقد أنك تعرف، وهو كل ما أملك في هذه الدنيا الطويلة العريضة، أو لعل الأشبه بالواقع أن أقول إني أنا كل ما يُطلق عليه هذا الاسم، ولا أحتاج أن أقول إني لم أكتسبه وإنه لا ذنب لي فيه، وإنما انحدر إليَّ مع الحياة نفسها أو بعدها بقليل، وعلى ذكر ذلك أقول إني كثيرًا ما أفكر في اسمي ماذا عساه أن يكون في الآخرة، أعني بعد عمر طويل، فلست أحس أن هناك داعيًا إلى العجلة، فهل يعقبني هناك ويلصق بي ويلازمني؟ وإذا لم يفعل فكيف أعرف نفسي؟ على أن هذا مشكِل لا يستحق أن أعني نفسي به؛ فإن أوان الحاجة إلى حله لا يزال بعيدًا فيما أرجو وأحس.
وقد كان من الممكن أن أكون غيري، ولكن هذا لم يحدث لحسن الحظ، وقد أُغْمِضُ عيني أحيانًا وأذهب أعرض على نفسي صور الناس أو ما ارتسم في ذهني لهم من الصور، وأتساءل: أي هؤلاء كنت أوثر أن أكون لو كان لي الخيار، أو لو لم أكن أنا إياي؟ وأكرر ذلك مرة بعد مرة ولا أراني مع ذلك أهتدي أو أنتهي إلى رأي، وقد أتعبني هذا وأضجرتني الحيرة والتردد، فقلت لهذه الصور التي تلح عليَّ وتطاردنى: «إني آسف جدًّا، لقد أرهقتكن بكثرة النشر والطي والإقصاء والإدناء والتقليب والتفلية، ولكني إنسان ناقص، وما أرى نقائصي وعيوبي ورذائلي إلا أشهى إليَّ وأحب إلى نفسي من كل مزاياكن ومفاتنكن، بل هي — فيما أعرف — قوام شخصيتي، وأقوى ما يحببها إليَّ ويسحرني منها، ويرضيني عنها، ويدفعني إلى الضن بها، والحرص عليها، فمعذرة فلست أراني مستطيعًا أن أنضو عني هذا الثوب الذي ألبستنيه الحياة وإن كان مراقع».
ولا أدري لماذا كان أبي هو أبي؟ أعني زوج أمي، هذا سر دُفِنَ معه يوم دُفِنَ ولف عليهما في قبره كَفَنٌ. وقد يلج بي الشوق إلى استطلاع جانب منه فأقول لأمي، مع التحرز في العبارة: «هل كان أبي رجلًا … طيبًا؟ أعني أني أظن أن التصوير لم يكن في زمنه متقنًا» فتقول وهي ترفع يدها بالسبحة: «إنه الآن في وديعة الرحمن فأقصر».
فأحس أن لو كان أبي حيًّا لامْتَعَضَ، وأشعر كأن واجبي أن أذود عن كرامته، ولكني أعود فأذكر أنه خذلني في الحياة ومات عني وأنا طفل، فأدع الدفاع وأقول: «إنما أريد أن أعرف هل كنتما متحابين؟»
فيغضبها سؤالي — لا أدري لماذا — وتنظر إليَّ شزرًا وتهز رأسها وتتمتم بكلام غير مفهوم، وتحول وجهها عني، فيركبني عفريتي الخبيث وأحاول أن أستفزها فأقول: «يظهر — وإن كنت لا أعلم — أنه لم يكن بينكما حب، فقد كان مزواجًا».
فتثور بي تلعنني وتؤكد لي أن «خلفتى عار» وأؤكد لها بدوري أن المسئول عن «عار» هذه «الخلفة» غيري، وأن كل ما أرمي إليه من وراء هذه الأسئلة البريئة التي تغضبها هو أن أعرف أي ثمرة أنا؟ ثمرة الحب والتآلف، أم ثمرة الـ … وهنا تأخذ عيني صورتي في المرآة فينعقد لساني.
وتنقضي أيام وهي غضبى وأنا أعالج أن أفيء بها إلى الرضى.
وقد سُرِقْتُ من طفولتي — سُرقت بصيغة البناء للمفعول أي بضم السين الهملة وكسر الراء … إلخ إلخ — سرقتني جارية سوداء لامعة كالفحم «الكوك»، وكنت ألعب أمام البيت، فاحتملتني ومضت بي، ولم يفزعني وجهها الأسود فأرحت رأسي على كتفها ونمت، وقد استردني أهلي على ما يزعمون، ومن أدراني أنهم لم يغلطوا؟ من أين لي أن أعلم أني أنا ذلك الطفل الذي خطفته الجارية بعينه، لا طفل آخر شبيه به، ففي حقيقتي شك كما ترى كما في كل الحقائق الأخرى. وليتني أهتدي إلى هذه الجارية الطيبة القلب التي رأت أني جدير بأن أُخطَف! إذًا لقبلتها بين عينيها وأسندت رأسي إلى صدرها وبكيت شكرًا لها وإعجابًا بذوقها، ولكن هذا لا سبيل إليه حتى لو أنها لا تزال على ظهر الأرض أو قيد الحياة كما يقولون، غير أن ما لا يُدرَك كله لا يُترَك كله، أريد أن أقول: إنه إذا كان قد فاتني أن أفضي إلى هذه الجارية بما يجن صدري لها، فقد وجدت أنها عاطفة قابلة للتحويل، ومن أجل ذلك لا أضن على أية جارية بما هو من حق تلك التي لا سبيل إليها، وقد أذهب أتفلسف أحيانًا، وأحاول أن أرد هذه النزعة إلى سبب أعمق وأبعد من حادثة اختطافي فأقول: إن ذلك بعض مظاهر الوراثة، فقد كان أبي يحب «الجواري البيضاء»، يظهر أنه لم يكن يعرف ذلك من نفسه حين تزوج أمي؛ ولذلك دأب بعد ذلك على أن يقصد كل بضعة أعوام إلى تركيا ليعود منها في كل مرة بزوجة تمكث معه ما شاء الله ثم يسرحها ويكر إلى الآستانة أو لا أدري أين غيرها، فغيرُ عجيب أن تتخذ الوراثة عندي مظهر الإيثار للجواري السوداء؛ فإن للوراثة مثل هذه الأعاجيب.
وقد غلطت مرة فشرحت هذه النزعة لزوجتي بأوفى ما يدخل في طوقي من البيان، فكان تعليقها بعد أن أصغت إليَّ إصغاءً محمودًا أكبرتُه وشكرتُه: «كان يجب إذًا أن تتزوج جارية! ومع ذلك لم تَضِعِ الفرصة فلا يزال هذا في وسعك». وتركتني وحدي في الغرفة، فذهلت ولم أفهم، وعجبت لقدرة المرأة على تصور المسائل مقلوبة، وإدراكها معكوسة. ويتفق أحيانًا أن نرى — أعني زوجتي وأنا — جارية فيجيش صدري وأحس كأن عواطفي المكتومة تكاد تنفجر أو تخنقني، غير أني أضبط نفسي وأكبحها؛ فإن إلى جانبي عينين محملقتين تنظران إليَّ، والكبح تعذيب. وقد ضاق صدري مرة فقلت لزوجتي: «إنك مخطئة. مخطئة جدًّا. وكل ما في رأسك الصغير هذا أوهامٌ في أوهام، ولو أنك كنت خطفتِني وأنا طفل لحفظت لكِ هذا الجميل، ولبقيت طول حياتي شاكرًا لكِ هذه اليد بدلًا من هذه الجارية التي أبحث عنها فلا أجدها، والتي أحس أني أراها في كل جارية أخرى».
فتجهم وجهها وقالت: «وماذا أيضًا؟»
قلت: «لا شيء، إنها عاطفة شكر طبيعية لا ضير منها على أحد».
قالت: «لو كنت خطفتك وأنت طفل؟! طبعًا! فإني في عمر جدتك أليس كذلك؟ لا بأس».
قلت: «ليس هذا ما أعني! إنما أفترض حالة لأساعدك على تصورها».
قالت: «سامحك الله» ومضت عني.
هذا والأمر لم يَعدُ الكلام، فكيف لو أنه اتفق أن أتيح لي أن أقبض على إحدى الجواري مما أطوي عليه أضالعي لجنسها! إن مجرد التفكير في هذا يرعبني!
ومما هو جدير بالذكر أن لي أخًا «كان» أصغر مني، فصار يدَّعي الآن أني أنا الأصغر! والأمر لا يستحق خلافًا، وأحسبه يعني أنه يبدو في رأي العين أكبر مني، وقديمًا كان الحسد بين الإخوة، فلندعْ هذا ولنعُد إلى أيام الطفولة البريئة، أيام لم يكن هناك شك في إرباء سني على سنه، وكان لأبي مكتب في البيت، فكنا إذا عدنا من «الكُتَّاب» وشرعنا نلعب مع الأطفال مثلنا أمام البيت، يمر بائع «دندرمة» ويقف بيننا يخايلنا ويغرينا حتى يجري ريقنا، ولما كنت يومئذٍ أنا الأكبر، بلا نزاع، فقد كنت أنا الذي يجترئ على الدخول على أبي، وهناك — إلى جانب المكتب — أظل واقفًا أهمس بأخفت صوت: «أبويا. أبويا. هات إرش».
وهو مُكِبٌّ على أوراقه لا يسمع، أو لعله كان يتظاهر بذلك، وأنا صابر مثابر وواقف كأني بعض ما في الغرفة — أو المنظرة كما كانت تسمى — من أثاث سوى أن لساني لا يمل ترديد العبارة المألوفة، حتى يؤذن الله بالفرج، فيرفع وجهه ويمد يده ليتناول فنجان القهوة، فأتقدم خطوة وأبرز من وراء الكرسي فيلمحني ولا تعود بي حاجة إلى الكلام، فيدفع يده في جيب الصديري ويخرج القرش ويناولنيه، فأعود متسللًا إلى جانب الجدران، حتى إذا جاوزت المنظرة اندفعت أعدو وأتوثب حتى أصير إلى عربة الدندرمة فأدس القرش في يد الرجل فيناول كلًّا منا كوبًا أو كوبين، فقد كان يصدُقنا حينًا ويغالطنا أحيانًا.
وكان أخي في الرابعة من عمره في ذلك الوقت، وكنت أنا في الثامنة، فما أسرع ما أدركني وفاتني أيضًا! فاتفق يومًا أن كنت مريضًا، ومر بائع الدندرمة على عادته، ولم يجرؤ أخي أن يدخل على أبيه، وأُنصفه — أعني أخي وإن كانت دعواه قد طالت وعرضت — فأقول إن الخادم لم يكن يدعه يدخل قط؛ مخافة أن يحسده الغرباء من عملاء المكتب، فقد كان حلوًا سمينًا، وكانت فيه لثغة محببة، على أن العبرة بالخواتيم، فوقف يبلع من الدندرمة حتى اكتظ ثم طالَبَه الرجل بالثمن فقال: «مفيس».
ونفض كفيه، فألح الرجل عليه، فلم يعبأ به الأخ الفاضل، وهَمَّ أن يمضي عنه، ولكن البائع كان أحرص على ماله من أن يدعه ينصرف بهذه السهولة فأمسك بجلبابه، فحار المسكين ماذا يصنع، ثم فتح الله عليه بما يحل الإشكال، فرفع يده وخلع طربوشه وناوله إياه وقال: «خد طلبوسي ويبقى خلاص».
ونظر الرجل إلى الطربوش فألفاه جديدًا، وإلى سعته فوجدها عظيمة، وإلى رأس الطفل فرآه شيئًا ضخمًا، فخلع الطاقية وجرب الطربوش فإذا هو كأنه مصنوع له، فألقى إلى الباب نظرة فلم يَرَ الخادم فمضى بالعربة يعدو.