لشارع عماد الدين صفة جديدة كنا نجهلها قبل مقالة الدكتور شميل المختفي وراء الضمير «هو»، كنا نعرف قبل الآن أن هذا الشارع — من شارع بولاق فأسفل — مركز سينماتوغراف وتلغراف وباربيه ودلمار وسنجر وبراين … إلخ، ومن شارع بولاق فأعلى، تلغراف أيضًا وسينماتوغراف وتياترات وكورسال ومساكن شاهقة البناء عصرية الهندسة والزخرفة، وفلوران ومصورين وبارات (شيك) وقهاوي (فينو) إلى غير ذلك من محطة قطار مصر الجديدة إلى مسرح بائعي الجرائد والأزهار والحلوى والدبابيس، أما الآن فنعرف أنه مهبط الوحي وموحى الهدى، فعلى من أراد درس فن أو علم كالموسيقى والتصوير أو الطب والحقوق والهندسة أو غيرها، أن يستأجر بيتًا في شارع عماد الدين فيضرب طائرين بحجر واحد، أي أنه يسكن البيت وينزل عليه الوحي دفعة واحدة، خذ على ذلك مثلًا من أعظم الأمثال، إن الدكتور شميل قضى عمره الكتابي متهكِّمًا على علم الحقوق الذي يسميه اللاهوت الاجتماعي وهو يعترف الآن بأنه برع بهذا العلم الفني، إنه يقول ذلك بتهكُّم أيضًا، ولكنه يقول ويعطي نفسه شهادة تغني عن كل شهادة.
فعام جديد، وبيت جديد، وعلم جديد، ليكن كل منها بركة عليك يا سيدي الدكتور! بيد أني على رغم رغبتي الشديدة في إرضائك، لا أَعِدُكَ بالإقلاع عن تهديدك بإنذار ومحضر كلما رأيتك معرضًا عن جيرانك؛ لأن مقالتك أمس برهنت أن للإنذارات حسنات أحيانًا، وإذا كتبت في السرير وعلى ورق قديم فهذا لا يزيد كتابتك إلا طلاوة لأنها تكون خليطًا من الحكمة والدعابة، على أني أتمنى أن تكتبها بعد اليوم من كرسي الراحة لا من سرير التعب!
أتريد دموعًا بدلًا من الإنذار؟ لئن كتبت فتاة مهددة ضاحكة، فكم من فتاة تبكي يائسة! ولئن هرق الرجال دماءهم وضحَّوا حياتهم في هذه الحرب الطاحنة، فإن النساء تضحي وتهرق أكثر من ذلك، إن نفوسهن تذوب لوعة ودموعًا ويأسًا.
البرابرة يحتجون:
ما خرجت يوم السبت الماضي من قاعة الدرس في الجامعة المصرية حتى وجدت خدم الجامعة في انتظاري في البهو الخارجي، فتقدم أحدهم وفي يده «المحروسة» وقال مشيرًا إلى عنوان «يوميات فتاة» وتحتها كلمة «بين العدم والعمران»: حضرتك كتبت ضدنا واحنا ما عملناش حاجة، قلت: أكتب ضدكم! ولماذا؟
أجاب: مش عارف.
قلت: ومن أنبأكم أن هذا قَدْحٌ لا مدح؟
أجاب: واحد شيخ، واحنا قلنا له لا مش كده، هو قال لا كده.
وقال آخر: ما عملناش حاجة، إحنا مؤدبين يا ست.
وقال الأول: إحنا نفهم يا ست.
قلت: بلا شبه شك! ولكني أردد قولي إن هذا مدح، والشيخ الذي أفهمكم غير ذلك أراد مداعبةً ليس إلَّا.
قال: إحنا قلنا له كده هو قال لا.
قلت: فإذا قرأتم وفهمتم فلماذا تهتمُّون بما يفهم الآخرون؟ أنا كتبت مدحًا، وأنتم فهمتموه كذلك، فانتهى الأمر.
وما عدت إلى البيت إلا وجدت أمامي العدد نفسه، وعلى هامش «المحروسة» احتجاج خطي وتاريخي، فعملًا بحرية الصحافة أنشره بحروفه: «لا ينبغي لك أيتها الكاتبة أن تذكري اسم البرابرة، بل النوبيين «لأن اسم البرابرة كانوا فراعنة-ب»».