الاعتقاد بالمُقدَّر من أهم الاعتقادات التي أثَّرت في حياة البشر في الأعصر الغابرة، وهو لا يزال متملكًا على أفكار أبناء اليوم وإن اختلفت كيفية اعتقادهم باختلاف مذاهبهم وآرائهم في عواقب الإنسان، وتُقسَّم هذه المذاهب إلى ثلاثة أقسام: المادِّيُّون، والقائلون بمذهب جمع الكائنات (ألوهية العالم) (Pantheistes) والروحيون.
فالماديون يعتقدون أن الإنسان ليس إلا مجموع أجزاء كيماوية تنحلُّ بالموت ثم تتفرَّق دقائقها، وتنضم إلى أجرام أخرى فتصير لها ومنها، وعندهم أن لكل واحد من البشر أن ينتقي لحياته غاية ترمي إليها أغراضه، وتطمح للوصول إليها أفكاره، وتُوقَف عليها أتعابه وآماله، أما قيمة الحياة فمتعلِّقة بفضل صاحبها، وهي تقاس بما تجلبه على العالم من الخير أو الشر، ولا يُعبَّر عنها عند الماديين إلا باللذة والألم، العلم الوضعي يحسب كل ما يراه ظواهر طبيعية ونتائج حركات آلية تتشابه كلها في نظره، فلا تفرق ماهيتها إلا بواسطة الحس، فيسمي الماديون ما يسُرُّهم خيرًا، ويدعون ما يؤلمهم شرًّا، وهم مع ذلك يؤثرون — نظريًّا — خير المجموع على خير الفرد.
أما القائلون بألوهية العالم فيعتقدون أن كل جرم من أجرام الخليقة هو شكل بارز عن الجوهر الإلهي المنتشر في طبقات الكون، وأن الروح بعد انفصالها عن الجسد تعود إلى ذلك الجوهر العظيم كما يعود الجسد إلى المادة الكلية التي تَكوَّن منها، وكان فيثاغورس وأفلاطون وغيرهما من فلاسفة الماضي يعتقدون بالتقمُّص(Metempsycose) ولا يزال الهنود والدروز إلى أيامنا الحاضرة يعتقدون هذا الاعتقاد، سواء غرقت الروح في بحر الحياة الكلية أم سكنت جسدًا آخر، فإن الشخصية الحقيقة تنتهي عند عتبة القبر، فلهم — والحالة هذه — أن يعملوا في حياتهم كل ما يؤول إلى سرورهم وارتياحهم دون إفادة الغير، بَيْدَ أن ذوي الأخلاق الكريمة منهم يسعون في نفع الجمهور ما استطاعوا.
والروحيون يؤمنون بأن الروح أبدية لا تفنى، وأنها تحفظ بعد الموت ذاكرتها وسائر مميزات شخصيتها الجوهرية، هي لا تموت لأنها شعلة من روح مُبدعها العظيمة، فهي تعمل الحسنات وتسير في طريق الصلاح، وتفيد وتستفيد، وتُضحِّي من لذاتها وراحتها شيئًا كثيرًا بقصد الوصول إلى المصدر الإلهي السامي والتمتع بغِبطَةٍ لا نهاية لها.
مهما تعدَّدت المذاهب والمشارب فقد أجمع البشر على أن هناك قوة تدير حركة العالم، ولكنهم اختلفوا في تسميتها، يسميها بعضهم «عناية» أو «إرادة إلهية»، وينعتها آخرون بالـ (Determinisme Universal) وقد اصطلح الجميع على التعبير عنها بكلمة «قضاء» أو «قَدَر».
***
وضع الأقدمون «القدَر» فوق جميع الآلهة، وهو في علم أديانهم (Mythologie) ابن «العدم» و«الظلمة» وهما الإلهان الوحيدان اللذان لم يكن لهما ابتداء، ولكنهما انتهيا، إذ إنَّ «العدم» اضمحلَّ في الخليقة كما أن «الظلمة» تلاشت في النور، «المُقدَّر» يقبض بيده على حظوظ البشر، ويحكم فيهم كيفما شاء، وفي الخرافات القديمة أن أوامره منقوشة على صفحات من نُحَاس، ولا قوة أرضية تستطيع أن تمحوَها أو تغيِّر منها شيئًا، كانوا يصوِّرونه شيخًا طاعنًا في السن كفيف البصر، وتحت قدميه الكرة الأرضية وعلى رأسه إكليل من نجوم، دلالة على خضوع السماء له، يُسراه تمسك القارورة المحتوية على حظوظ البشر، ويُمناه تقبض على عصا من حديد إشارة إلى سطوته وقدرته المطلقة، وقساوته وصلابته في أحكامه.
وقد جاء في إلياذة هوميروس أن جوبيتير كان قد أراد إنقاذ هكتور من شرِّ آخيل، على أنه لما وزن حظَّيهما ورأى أن هكتور سيموت لا محالة تركه وشأنه، وكذا فعل «أپولُّون» الذي كان يرافقه في غدواته وروحاته ويمدُّه بالمساعدة، فإنه ابتعد عنه لعلمه أن القدر لا يُعانَد.
توالتِ القرون وسبحتِ الأفكار في فضاء واسع من الحرية العلمية فتناول الفلاسفة هذا الموضوع ودرسوه درسًا مدققًا فنفَوْا وجود آلهة عمياء تلقي على البشر صواعق غضبها ونِقْمَتها بحسب أهوائها، ونسبوا «القدَر» إلى نواميس ثابتة وعِلَّات رياضية تأتي بالنتائج التي ندعوها «قضاءً وقدرًا»، وقال «أرسطو» إن الأقدار ناجمة عن قوتين: قوة خارجية، وقوة داخلية، أي آتية من نفس الإنسان، وكان جميع المفكرين الذين سبقوا ديكارت يقولون بوجود سلسلة علَّات آلية هي أساس النظام الكلي، ثم جاء ذلك الفيلسوف الفرنساوي وثبَّت هذه القاعدة، وأخرجها من دائرة المعقولات وأدخلها في دائرة الفلسفة الرياضية إذ شرحها شرحًا رياضيًّا، وأسندها إلى قواعد علمية رأسها القاعدة التي تستند إليها جميع العلوم الطبيعية، وهي أن لا شيء يموت بكل معنى الكلمة، ولا شيء يحيا، بل إن الموت كالحياة ليس إلا تقلُّب المادة من حال إلى حال بحكم النواميس الأبدية التي تديرها، وأنه لا بداية للكون ولا نهاية له، بل إن كل حركة نراها إنْ هي إلَّا نتيجة حركة أخرى سبقت وهي تابعة لحركة أو لحركات تقدَّمتها، وفي العلوم الوضعية أن كل ما في الكون حركات متتابعة متوالية، وأن كل حركة «فسيولوجية» تعقبها فينا نتيجة «بسيكولوجية» أو «فسيولوجية»، فالهضم مثلًا نتيجة الأكل، والغذاء نتيجة الهضم، والدورة الدموية نتيجة الغذاء، وانتظام الدماغ نتيجة الدورة الدموية، والفكر نتيجة انتظام الدماغ، فلو لم تنتظم الدورة الدموية في أجسام «روجر بايكن» و«ألبرت كريسي» و«شورتز» ما عرفت أوروبا البارود ولا قُتِل به ألوف الجنود وملايين المحاربين، ولو لم تنتظم حركة القلب عند مخترع التلغراف اللاسلكي لما خلَّصت الباخرة «كرباثيا» النفوسَ التي انتشلتها من الباخرة «تيتانيك»، كما أنه لو أصاب مخترعي السفن مرضٌ ما، لما سارتِ السفن في البحار ولا غرقت الملايين فيها، وقِسْ على ذلك، لا شيء يستطيع الخروج من دائرة النظام العلمي، وهذا النظام هو قدر الأقدمين الفلسفي بعينه.
***
أجل، إنَّ النواميس تظل ثابتة لا تتغير، الأجرام الكبيرة تسقط إلى الأرض بقوة الجاذبية، ولا تقدر أن تسبح في الجو ما لم يكن هناك من المواد الكيماوية ما يساعدها على معادلة ميزانيتها الطبيعية، شجرة التفاح لا تستطيع أن تحمل عناقيد العنب، كما أن الدوالي لا تثمر موزًا، وكل ما في الكون مرتب محدود، يقول فولتير: «قُدِّر على الإنسان أن يكون له عددٌ محدود من الأسنان والشَّعر والأفكار، وقُدِّر عليه أن يأتي يومٌ به تسقط أسنانه، ويقع شعره، وتتلاشى أفكاره».
ثم يتابع كلامه قائلًا: بعض البلهاء يقول: «إن طبيبي البارع قد شفى عمَّتي من مرضها الخطر، وزاد في حياتها عشر سنوات».
«تقول: أيها الأبْلَه، إن طبيبك شفى عمتك من مرضها، ولكنه بفعله هذا لم يغلب إرادة الطبيعة ولم يعاكسها بل اتَّبَعها، قُدِّر على عمتك أن تولد في هذه البلدة، وأن تمرض في يوم كذا بمرض كذا، وقُدِّر على الطبيب أن يسكن في هذه البلدة، وأن تدعوه عمتك إليها، وأن يلبي طلبها، وأن يعطيها العلاج الذي شفاها، هكذا شاءت الظروف الجارية بأحكام الناموس الأبدي».
«الفلَّاح الجاهل يظن أن الجو أمطر حقله اتفاقًا، ولكن الفيلسوف يعلم أن الصدفة اسم بلا مُسمَّى، وأن التراكيب الجوية أوجبت وقوع المطر على تلك البقعة في ذلك اليوم».
«من الناس من تخيفهم هذه الحقائق فيقولون إن بعض ما في الكون ضروري، والبعض الآخر ليس إلا حوادث وعوارض، وأنا أجيبهم أنه لمن المضحك أن يكون نصف الكون مرتبًا وتابعًا لنواميس ونظامات، وأن يكون النصف الآخر مهملًا، عندما يتأمل المفكر ويبحث في دقائق هذا الموضوع يرى أن كل مبدأ يخالف الإقرار بالمقدر لهو مبدأ مُستَهجَن».
«لكنْ حُكِم على بعض الناس أن يفهموا قليلًا، وعلى آخرين أن لا يفهموا مطلقًا، وعلى غيرهم أن ينتقدوا الذين يفهمون وأن يضطهدوهم».