يشكو بعضهم إليَّ — في رسائلهم — من عُقَدٍ نفسية شتى، ولست بطبيب نفساني أو شبهه، وحسبي ما أعانيه أنا من العقد التي أورثتنيها الحياة في مراحلها المختلفة. على أني — على جهلي — أستطيع أن أقول وأنا مطمئن: إن هذه العقد التي يذكرونها لا ينبغي أن تكربهم أو تزعجهم، فما من أحد يخلو من عقدة، لا العظماء، ولا الأوساط العاديون، ولا السفلة والأوشاب. وكثيرًا ما تكون هذه العقد راجعة إلى عهد الحداثة؛ ومن هنا تخفى على غير المدقق البصير، على أن مما يدعو إلى الاطمئنان أن يفطن المرء إلى أن بنفسه عقدةً فإن هذه هي الخطوة الأولى في إصلاح الحال وعلاج الأمر.
وهذا لا يكفي، ومن السهل أن يدرك المرء أن به سقامًا، وقد لا يسعه إلا أن يدرك، فلا ينفعه علمه هذا، إلا من حيث إنه يدفعه إلى الطبيب ليتبين ما به ويصف له الدواء الذي يُرَجِّي أن يشفيه مما به، وكذلك العقد النفسية؛ فإن معرفة المرء على وجه العموم أن في نفسه شيئًا منها، لا غناء لها إلا على اعتبار أن الشعور بذلك يغري بنشدان المعرفة الصحيحة، فالعلاج الكفيل بتخفيف الوطأة أو حل العقدة إذا تيسر ذلك. وهذه مهمة الطبيب النفساني، كما أن الأمراض البدنية يتولاها أطباؤها الإخصائيون، فليس في وسع مثلي أن يشير بشيء له جدوى فيما يجاوز التجارب العامة، غير أني أستطيع أن أقول — وأنا مطمئن أيضًا — أنه ما من طب يُجدي إلا إذا كان المرء في عون نفسه، فما يملك أي طبيب مهما بلغ من العلم والحذق والأستاذية إلا أن يتبين ويشير ويصف، والباقي — والأهم — على المريض نفسه، وما حيلة الطبيب في مريض لا يطيعه أو لا يحرص على اتباع ما أشار به الحرص اللازم؟
وفي مصر أطباء نفسانيون والحمد لله، فليذهب إليهم من به عقدة نفسية يفتقر حلها إلى طبهم وعلمهم، غير أنه ليس كل عقدة تحتاج إلى طبيب؛ فإن في وسع المرء أن يغوص إلى بعض ما في قرارة نفسه، وأن يكر راجعًا بذاكرته إلى ماضيه وما كان فيه، وأن يحاول أن يتذكر ما وقع له، وكان له أثر في توجيهه وتكوين عاداته، وتعيين أساليب تفكيره، ونوع تلقيه للحياة، واستجابته لدواعيها؛ فإنه خليق إذا فعل ذلك أن يهتدي إلى علة بعض العقد — على الأقل اليسيرة منها — وقد يعينه هذا الكشف على تَوَخِّي ما يلطفها أو يمحوها. وهذا البحث لازم على كل حال سواء اكتفى المرء بنفسه واعتمد عليها وحدها أم رأى الحاجة تدعو إلى استشارة طبيب خبير؛ فإنه يستنبئه قبل أن يبدي رأيًا.
وقد لاحظت أن بعض العقد يرجع إلى سلوك الناس ووقعه في نفس الإنسان؛ أي إن الوسط كثيرًا ما يجني على المرء ويورثه حالة نفسية خاصة، وأضرب مثالًا لذلك مما وقع لي: فقد هيضت ساقي في صدر الشباب ولم يكن هذا ذنبي، ولا أردت أن أكسرها، ولا فعلت شيئًا كان خليقًا أو معقولًا أن يؤدي إلى كسرها، وإنما أصابني شيء هين لا أدري ما هو على وجه التحقيق، فدعوا لي برجل قالوا إن في يده «الردة» أي إنه يرد العظام إلى مكانها ويجبر وهيها أو كسرها، فكان كما يقول المثل «جاء يكحلها فأعماها!» ثم جئنا بمن هو أدرى منه — فما كان في مصر يومئذٍ أطباء للعظام على ما أعلم — فأصلح ما فسد على قدر الإمكان، وقصرت الساق فصرت أعرج، ولا شيء في هذا، ولا هو مما يُعاب به إنسان، وما ينبغي أن يكون محل ملاحظة أو كلام، ولكني احتجت أن أزيد كعب الحذاء في الرجل التي قصرت ساقها؛ لأن العرج كان يتعبني، فصار عليَّ في كل مكان من حدق نطاق كما يقول الشاعر، فما ركبت الترام مرة، أو قعدت في مقهى أو دخلت مطعمًا أو مشربًا أو دكانًا إلا رأيت الناس يشيرون إليَّ إشارة بينة، ويتهامسون، بل يتبادلون الرأي بصوت مسموع يسك الأذن يؤذي السمع — سمعي أنا على الأقل — فلم أعبا بذلك أول الأمر، ولم أجعل بالي إليه، ولكنهم ألحوا عليَّ بهذا الفضول الثقيل حتى أتلفوا أعصابي فعجزت عن الاحتمال، فكان من جراء ذلك أن اشتريت سيارة حتى أكون فيها بحيث لا يراني الناس، وإن أبيت إلا أن أكون أنا سائقها تمردًا مني على العجز أو العاهة، وإن زهدت في المجتمعات والحفلات واتقيت كل مكان يكثر فيه الناس، ثم اتفق أن كنت ضيفًا على سيدة كريمة ذكية فلاحظت نفوري وإيثاري العزلة، فسألتني فصارحتها بالأمر، فلم تزل بي حتى هَوَّنَت عليَّ هذا الفضل الذي أستثقله، وقوَّت قلبي، وشجعتني على المقاومة، فصرت بعد ذلك لا أبالي من نظر أو لم ينظر إلى ساقي، ومن قال أو لم يقل فيها شيئًا. غير أن حب العزلة ظل مع ذلك مستوليًا على نفسي وأعان على ذلك كثرة العمل ووهن البدن، وقلة المتعة أو الفائدة من لقاء الناس.
وهذا مثال لأثر البيئة، وجنايتها على الإنسان، ولو شئت لسقت أمثلة عدة من حياتي وتجاربي وحدها، ولكن في هذا المثل الكفاية ومن السهل القياس عليه.