منذ ربع قرن تقريبًا، زارني شاب في جريدة الأخبار وشكا إليَّ المرحوم شوقي الشاعر وقال: إنه ذهب إليه يستشيره فيما يحسن به أن يقرأ من الكتب العربية، فأشار شوقي عليه بدرس كتابين وجدهما الشاب من كتب النحو وفقه اللغة، فاعتقد أنه أضاع ماله، وأن شوقي أخطأه التوفيق. فقلت له: إن شوقي لم يخطئ؛ فإن النحو والصرف وما يجري هذا المجرى لا بد منه، ولا غنى عنه، ولكل لغة قواعدها وأصولها وأحكامها وفقهها، والإحاطة بهذا كله واجبة إذا كنت تريد أن تتخذ هذه اللغة أداة للكتابة، وإلا فكيف تكتبها وأنت لا تعرف قواعدها؟ وصحيح أن الكتب الغربية القديمة تحتاج إلى تيسير مطلبها، ولكن التيسير ليس معناه الإلغاء، فاعرف لغتك أولًا، وادرس أدبها، ثم عالج بعد ذلك ما شئت من فنون الكتابة، وأعلم أنه لا مطمع لأحد في بلوغ مرتبة ملحوظة من مراتب الأدب إلا بالاطِّلاع الوافي، ولمَّا كانت لغتنا العربية؛ فهي أداتنا التي لا أداة لنا سواها، ولا سبيل لنا إلى البيان إلا بها، فلا مهرب لنا إذن من تحصيل هذه اللغة والتوفر على درسها.
وقد حدثت شوقي — رحمه الله — بهذا، فقد كنا نلتقي في «الأخبار»، ونتذاكر على الرغم من رأيي المعروف في شعره، فقال لي: يا أخي قد كنت في بداية عهدي بالشعر — بعد أن عدت من أوربة — ألحن وأخطئ فيسلقني الناقدون بألسنة حديدة، فالآن أنصح للشبان المبتدئين أن يعرفوا لغتهم فيشكونني ويعيبونني بذلك!
وقد قلت أيضًا لذلك الشاب المتذمر: إني لا أرى الاقتصار على درس اللغة العربية وآدابها؛ فإنه لا يكفي طالب الأدب، بل لا بد من التوفر على درس الآداب الأخرى، ولا سيما الغربية منها. وحسب طالب الأدب لغة واحدة كالإنجليزية مثلًا، فإن يراعات الآداب الأخرى مترجمة إليها، وقد كان العرب حصيفين حين عُنُوا بنقل الفلسفة الإغريقية فاتسعت آفاقهم، ولسنا نستطيع في عصرنا هذا أن ننقل خارجيات الغرب في الأدب والفلسفة، فإنها شيء لا آخر له، ولكن في وسعنا أن نَطَّلِعَ عليها ونُلِم بها إلمامًا كافيًا بإحدى اللغات الغربية، ونحن نلقح الشجر ليثمر، ونطعمه ليؤتينا ما هو أطيب، ويجنينا ما هو أشهى، فلنلقح عقولنا ولنطعمها بما عند الغرب، ليعود أوفر إنتاجًا وأحلى جنًى، ونحن آدميون، والشجر نبات، ولكن سُنَّة الحياة واحدة، وقانونها لا يختلف، وهو واحد في كل مظاهر الحياة على السواء، وما يصير به النبات أقوى وأزكى، يصير بمثله الحيوان — ونحن منه — أقدر على معاناة الحياة وأصلح لها وأنجب، وليس مما يَصِحُّ في الأفهام أن نكون في القرن العشرين، ونقنع بأن نعيش بعقول القرون الخالية، وأخلق بهذا الكسل أن يحيلنا خلقًا متخلفًا من الأزمنة البائدة، وأن يجعلنا غير صالحين للزمان الذي خرجنا فيه.
وأنا أعرف أن في هذا مشقة عظيمة، ولكن الثواب على قدرها، والحياة نفسها لا متعة ولا نزهة، بل كَدٌّ ونضال وكفاح، وما يبلغ المرء في دنياه غاية أو يدرك شيئًا إلا بالكفاح وعرق الجبين المتفصِّد، فلماذا نستثني الأدب ونراه أهون شأنًا وأيسر مطلبًا من أن يحتاج إلى عناء؟
وليعذرني القراء الأفاضل إذا رأوني ألح على شبابنا أن يعكفوا على التحصيل ويجدوا فيه ويشقوا أيضًا، فقد رأيت شبانًا كثيرين في مصر أكبر ظني أن لهم أندادًا في غيرها يستثقلون الطلب، ويستطيلون مدته، ويستكثرون الجهد الذي يقتضيه، ويستخفون بالأمر كله ويحاولون أن يرقوا بغير سلم، وأن يبلغوا الغاية بدون أداة أو وسيلة، فلا يأتون إلا بأَغَثِّ الغثاثة وأسخف السخف، ثم يروحون يتذمرون ويجأرون بالشكوى ويزعمون أنهم مغبونون مغموطو الأقدار، وأن الشيوخ يأخذون عليهم متوجَّههم ويعترضون سبيلهم حسدًا، إلى آخر هذا الهراء. وتقول لهم: إن كل علم وفن مثل الطب والهندسة والتصوير والموسيقى، إلى آخر ذلك يحتاج إلى درس طويل وتحصيل وافٍ؛ فإن الملَكة وحدها لا تكفي، والاستعداد بمجرده لا غناء له، ما لم تؤازره المعرفة الصحيحة، فلماذا يعدون الأدب بدعًا يرونه مما يمكن الاستغناء فيه عن الآلة والأداة؟ فلا يقتنعون — أو على الأصح — لا يستطيعون أن يروضوا أنفسهم ويوطنوها على احتمال المشقة.
وأوثر أن أكون صريحًا فأقول: إن هذا تطرٍّ لا يعجبني، وكسل لا أراه بشيرًا بخير، فيحسن أن أورد طائفة من الأمثلة تبين أي مشقة احتملنا، وأي عناء صبرنا عليه، وأي جهد تكلفناه في حداثتنا وصدر حياتنا قبل أن نتطلع إلى منازل الأدباء.
وقبل ذلك أقول: إن ممَّا نفعني وأغراني برياضة نفسي على التشدد والتجلد كلمة قرأتها ومنظر رأيته، فأما الكلمة فقول كوبيت في كتابه «نصيحة إلى الشبان»: إن على الشاب إذا أراد أن يكون رجلًا كاملًا لا نصف رجل أن يحلق ذقنه كل صباح بالماء البارد في الشتاء، وجو إنجلترا من أقسى الأجواء. فقلت لنفسي: إن مصر جوها معتدل، فأنا أولى بهذه النصيحة وأقدر على العمل بها. وتوخيت بعد ذلك ألا أستعمل إلا الماء البارد في كل حال فنفعني هذا وقواني على احتمال المؤثرات الجوية وإن كان بدني خرعًا.
وأما المنظر، فكان شابًّا من العمال راقدًا على الحجارة في وقدة الظهر وشمس الصيف تضربه، وكنت يومئذٍ في السابعة عشرة من عمري، فقلت لنفسي: أنا أتململ لأن وسادتي ليست محشوة بريش النعام، وسجادتي ليست من صنعة العجم، وهذا الغلام ينام على الحجارة ولا يتأفف ولا يشكو ولا تمنعه خشونة المضجع أن ينام ملء جفنيه … أما والله لا اتخذت بعد اليوم شيئًا وثيرًا! وما زلت إلى اليوم أوثر الخشن على الرقيق، وليس في بيتي كرسي مريح أو فراش لين، لأني أخجل أن أكون مترفًا.
ورضت نفسي على الجلَد، فاتفق في أول عهدي بدرس الأدب أن وقعت في يدي نسخة من ديوان «الشريف الرضي» مطبوعة في الهند، ليس فيها بيت واحد يسلم من التحريف، فما استطعت أن أفهم شيئًا، وكدت أيأس، ولكني تشددت وأقبلت عليه أعالج تصحيحه، وقضيت في ذلك قرابة عامين وأنا أوفَّق قليلًا وأخفق كثيرًا، حتى هداني الله إلى ديوانه المطبوع في بيروت، وهو أصح وأسلم من الخطأ، وإن كان لا يخلو منه، فتشهدت واسترحت.
وحبب ابن الرومي إليَّ ما قرأته له مبعثرًا في كتب شتى، فطلبت ديوانه، فلم أجد إلا مخطوطًا — أعوذ بالله منه — في دار الكتب المصرية، وكان فيها مخطوطان آخران، ولكنى لم أُعْطَ إلا أسوأ الثلاثة وشرها، فاستنسخته وعكفت عليه سنوات طويلات المدد أحاول التصحيح والضبط، فلم أبلغ من ذلك ما أريد، ولكني بذلت غاية ما يدخل في الوسع.
وكان من أول ما اقتنيت: الأغاني طبع الساسي، وهي نسخة محشوة بالغلط، ففككت الأجزاء «ملازم»، وجعلت أحمل الملازم معي واحدة واحدة إلى دار الكتب في أوقات فراغي، وأراجع النصوص نصًّا نصًّا، وبيتًا بيتًا، وأدون التصحيح، أو التكملات على ورق أبيض أعددته لذلك، وصرت ألصق الورق المكتوب بين الصفحات المطبوعة، حتى إذا انتهيت من جزء جلدته وانتقلت إلى ما يليه، وهكذا حتى أتممت الكتاب كله، فصار ضِعفي حجمه الأصلي، وحدث لسوء حظي في أيام الحرب الماضية أن رقت حالي فجأة، واحتجت إلى مال، وأنا امرؤ ربَّتني أمي — رحمها الله — على الاعتماد على النفس والاستغناء عن الناس، وبغضت إليَّ الاستدانة وكل ضروب الاستعانة بالغير؛ فلم أجد لي حيلة إلا أن أبيع ما اقتنيت من كتب، ورأى بعضهم عندي نسخة الأغاني هذه، فألحف في طلبها، فأبيت أن أبيعها، فلم يَزَلْ يزيد في الثمن ويرتفع به حتى أغراني، وما كاد يخرج بها حتى طار عقلي وندمت أشد الندم؛ فإنها ثمرة تعبي سبع سنوات، ولكن أمي قامت بي إلى السكينة وقالت لي: «ألست قد قرأتها؟ انتهينا إذن ولا داعي للأسف!» فجعلت بعد ذلك أعزي نفسي بقولي: إن فائدة القراءة كفائدة الطعام، والمرء يأكل ليصح بدنه، ولو أني نسيت اليوم ما أكلت في أمسي، لما منع ذلك أن الفائدة قد حصلت، وأن جسمي انتفع بما طعمت. وكذلك العقل؛ يقرأ المرء ليستفيد علمًا ويقوي مداركه وينمي ملكاته، ولا يمنع حصول الفائدة أنه نسي ما قرأ أو أن الكتاب غير موجود.
وحسبي هذه الأمثلة القليلة، والحقيقة أننا أُعْطِينَا الحياة لنحياها، لا لننعم بها أو نسعد، ومعنى أن نحيا أن نعمل، ومؤدى العمل أن نكدح ونتعب، والأدب مطلب كسائر المطالب له وسائله، فلا معدى عن العناء في سبيله.