ولقد كبر الإنسان — أعني أن عقله كبر — ورحب أفق نظره واهتدى إلى القواعد التي تقوم عليها المعرفة الصحيحة، ولكنه لا يزال كما كان إلى حد كبير — يؤمن بالخرافات ويتأثر بها في حياته، وإن كان تأثير الخرافة لا يبلغ ما كان لها في الأزمنة القديمة، لأن الإنسان — كما قلت — يحيا بغرائزه وعاداته وطباعه وأعصابه أكثر مما يحيا بالعقل. والذي أفاده من العلم غير كاف. وهبه كان كافيًا فليس من الخير للإنسان أن تخنق الغريزة وتقمع الطباع. نعم ينبغي الضبط والكبح أي وضع اللجم للغرائز، منعًا للفوضى، ورغبة في التنظيم، وطلبًا للاعتدال والقصد، ولكن الكبح ليس معناه الخنق. وخنق الغريزة — إذا فرضنا أن هذا ممكن — يخنق الإنسان نفسه ويقضي على شخصيته، ويسلبه الخصائص التي أتته القوة، ويسرت له المعرفة، ومكنته من تحويل قوى الطبيعة التي كان يرهبها ويعتقد أنها شر ووبال عليه إلى خدمته.
فالأمر لا ينفك كما كان في العصور الماضية، وسيظل كذلك ما دام الإنسان يعيش بأعصابه؛ كما يعيش بعقله، فنحن مثلًا نجري على طريقة الأقدمين في تأويل الأحلام، فإذا شم أحدنا في منامه رائحة كريهة ظن أنه سيلقى ما يكره، وإذا غسل يديه كان ذلك فألًا حسنًا، […] أو رأى أنه يخلع حذاءه، فهو مزمع سفرًا سيحول دونه حائل. وإذا بكى فهو سيسر ويفرح. وإذا سقطت له سن، فإنه سيفقد صديقًا أو قريبًا.
وإذا رأى إحدى أضلاعه تنزع فهو ستموت زوجته (ولعل أصل هذا أن الإنسان يعتقد أن المرأة مخلوقة من إحدى أضلاع الرجل) وإذا رأى نفسه يتزوج، كان معنى ذلك أن بعض أهله سيموت، وإذا رأى دجاجات كثيرة في مكان واحد فإن تفسير ذلك هو الخلاف والجدل والغيرة، وإذا رأى ثعبانًا يتبعه فليحذر فإنما له عدوًّا ويبغي به شرًّا، فإذا كانت حية فهي امرأة مرهوبة الأذى (وعسى أن يكون تفسير الحية بالمرأة راجعًا إلى قصة الحية التي أغرت حواء بالأكل من الشجرة المحرمة في الجنة) والموت في الحلم حياة — والسباحة في الماء خير ما دام رأس السابح فوق الماء. واجتياز الجسور والمعابر معناه الانتقال إلى ما هو أفضل.
وكثيرون من الناس — حتى المتعلمين المثقفين — تراهم بعد أن يشربوا القهوة يضعون خنصرهم في الفنجان ويحملون منه بعض ما تخلف فيه ويدهنون به ما وراء الأذن لاعتقادهم أن هذا يجلب الخير. وفي الأعراس يرش الملح أمام العروس ويصيح الصائح «حسوة في عين اللي ما يصلي على النبي» ظنًّا منهم أن الملح يمنع العين، ويدفع عن العروس الجميلة أذى النظرة الخبيثة والنفس الشريرة، التي تطل بما انطوت عليه من قوة الشر، من العينين.
وفي أوربا كما في مصر خرافات من هذا القبيل، وعندهم هناك كما عندنا، نساء يقرأن الطوالع في الكف ومن أوراق اللعب، وعندنا ولا شك زيادة، هي معرفة الطوالع والحظوظ من آثار الأمثال […] أو أية خرقة يكون قد لمسها، ومن البقايا المختلفة من القهوة في الفنجان ومن الودع، ومن الرمل، إلى آخر ذلك، وأكثر العامة وأشباههم عندنا على أن الزواج في بعض الشهور — المحرم على الخصوص — مكروه، والمحرم يجيء مرة في الصيف وأخرى بعد سنوات في الشتاء ولكنه مع ذلك يظل مكروهًا فيه الزواج، ولعل لاسمه دخلًا في ذلك. على أن لأكثر الأمم شهورًا تكره فيها الزواج. وقد أشار الشاعر «أوفيد» في شعره إلى كراهة العامة للزواج في شهر مايو. كان هذا قبل ثمانية عشر قرنًا، ولكن الاعتقاد بأن الزواج في مايو نحس، ولا يزال شائعًا في إنجلترا إلى يومنا هذا. وهذا شاهد على أن العادة متى استقرت تصبح كالمجرى الذي يحتفره الماء لنفسه ويظل يتدفق فيه عصرًا بعد عصر. والعادة يسهل اتباعها وتشق مخالفتها.
وهناك عادة غريبة بقيت إلى الآن ولا سيما بيننا نحن معشر الشرقيين، وهي عادة التحية وشكر الله إذا عطس المرء — يعطس المرء فيقول «الحمد لله» ويقول له الحاضرون «يرحمكم الله» وحمد الله عند العطس أو غيره؛ والدعاء للمرء بالرحمة أمر حسن في ذاته، ولا بأس منه، ولكن كون العطس هو الذي اختصه الناس بهذه العبارات؛ هو محل المغزى وموضع النظر. والأصل فيه هو الاعتقاد بأن الروح تخرج وترجع إلى الجسم وأن أرواحًا أخرى غير روحه الخاصة تدخل الجسم أيضًا وتحدث لها الصحة أو المرض. فقبائل الزولو مثلًا تعتقد أن الأرواح من طيبة وشريرة تخفق حولهم؛ وتحسن إليهم أو تسيء؛ وتبدو لهم في أحلامهم، وتورثهم الأمراض، إذا كانت أرواح سوء، والعطس عندهم دليل على أن روح الجد قد حلت في الجسم، لتفيده الصحة والعافية والقوة والبأس، ولهذا يسرع الوحد منهم إلى الشكر على هذه البركة التي كان العطس آيتها، وإذا مرض أحدهم جاء عائدوه يسألون (ألم يعطس؟) فإذا قيل نعم، كان هذا بشيرًا بالشفاء؛ وإذا قيل لا كان هذا نذير السوء، وأظن أن عندنا في مصر أثرًا من الاعتقاد — على الأقل بين العامة — في دلالة العطس على وشك الشفاء. ولا أحب أن أطيل عليكم بذكر المأثور عن غير الزولو من الشعوب عند العطس فإنه كله متشابه، ومن شاء أن يتوسع في هذا الباب فليقرأ ما كتبه كل من الدكتور «كوللاوي» و«السير توماس براون».
ولكني أحب أن أقول أن عادة السرور بالعطس والتحية لمناسبته، ليست قاصرة على الشرق، فإن أوربا أيضًا تعرفها — عرفتها قديمًا وتعرفها حديثًا. والذين قرأوا قصة «تليماك» في «الأوديسى» يذكرون ولا شك عطسته المبروكة، هناك أيضًا عطسة الجندي والصيحة التي انطلقت بتمجيد الله من الجند وقد عدها «زينوفون» بشير خير. وهناك أيضًا قول أرسطاطاليس أن الناس يعدون العطس من الآلهة على خلاف السعال. وقد خلف الإغريق القدماء نكتة في هذا الباب فزعموا أن رجلًا كان طويل الأنف جدًّا فلما عطس لم يشكر الآلهة، لأنه بسبب طول أنفه لم يسمع عطسته! وكذلك عرف الرومان العطس والشكر عليه والدعاء لمناسبته، ومثل هذا يقال عن الفرنسيين والألمان والإنجليز. وقد وجدت الفقرة الآتية منقولة عن كتاب مطبوع في القرن السابع عشر في آداب السلوك بين الفرنسيين: «إذا عطس السيد فلا تصح «بارك الله فيك» بل اخلع قبعتك وانحنِ له وادعُ هذا الدعاء بصوت خافت».
ومن العادات الخرافية التي بقيت آثارها إلى زمننا، عادة وضع أشياء تحت حجر الأساس أو قواعد البناء. وفي اسكتلندا اعتقاد بأن الأقدميين كانوا يريقون الدم الآدمي تحت القواعد. وتقول الأساطير أن مثل ذلك كان يحدث في ألمانيا وسواها. وهناك أسطورة بأنه في سنة ١٤٦٣ احتاج سد «نوجات» إلى الإصلاح والترميم، فنصح بعضهم الفلاحين بأن يلقوا تحت البناء رجلًا حيًّا، فسقوا أحد الفقراء المتسولين خمرًا، ودفنوه تحت الحجارة — أي وأدوه. وتقول الأساطير عن «ثورنجيا» أن طفلًا اشتُري بمال كثير من أمه ورصت حوله حجارة البناء في قصر «ليبنشتين» ليصبح القصر حصنًا منيعًا. تقول الأسطورة أنه صاح بأمه بينما كان البناؤون يصفون الحجارة حوله: «لا أزال أراكِ يا أمي». ثم قال وقد ارتفعت الحجارة من حوله: «لا أزال أرى شيئًا منكِ يا أمي». ولما وضعوا آخر حجر قال: «الآن لا أراك يا أمي». وفي بعض الأساطير أن سور «كوبنهاجن» كان يغوص في الأرض كلما فرغ الناس من إقامته، فجيء بفتاة صغيرة وأجلست على كرسي ووضعت أمامها منضدة عليها بعض الألعاب وشيء من المأكل، ويينما كانت تأكل وتلعب كان اثنا عشر من البنائين المهرة، يبنون قبوًا عليها وحولها ثم أقيم السور ورفع، على أصوات الموسيقى فلم يغص ولم يتهدم بعد ذلك أبدًا. وفي أساطير الصرب أن أخوة ثلاثة عملوا معًا في بناء قلعة «إشقودرة» ولكن الشياطين كانت تهدم بالليل ما يقيمه البناءون بالنهار، فوجب إرضاؤها وصرفها عن الهدم، بضحية بشرية، هي أول من تجيء بالطعام من زوجات الإخوة الثلاث، وقد أقسم الإخوة أن يكتموا هذا عن زوجاتهم، ولكن الكبيرين حذرا زوجتيهما فجاءت زوجة الأصغر، فبنوا عليها، ولكنها توسلت إليهم أن يدعوا هناك فرجة ترضع منها ولدها، فظلت كذلك اثني عشر شهرًا. وإلى اليوم تزور النساء المتزوجات مكان هذه الأم الصالحة.
ويطول بنا الكلام إلى غير نهاية إذا ذهبت أورد كل ما ذكرته الأساطير في هذا الباب فحسبي ما قلت. ولسنا ندفن أحدًا تحت حجارة الأساس أو القواعد من الأحياء أو من الأموات، ولكن بقي أثر هو وضع نقود تحت الحجر الأساسي أو حجر العقبة. وقد نضع حجابًا أي ورقة يكتبها أويخطط فيها رجل طيب. والدافع هو الاعتقاد بأن هذا يجعل البيت مباركًا ومتينًا، وهذا من ذاك وإن خلا من وحشية الوأد.
وقد يتاح لي في وقت آخر أن أواصل الحديث في هذا الموضوع الذي لا ينتهي وحسبي الآن ما قلت وإذا كان غير كافٍ أو وافٍ، فما أردت إلا أن أجعله كالفهرس، للكتاب أي إشارات إلى الموضوع ليس إلا.