وقفت وأنا أنهج وملت إلى شجرة لَفَّاءَ وارفة الظل، وقلت بعد أن مسحت العرق المتصبب وانتظمت أنفاسي: «يا مجير، لقد كانت هذه مرحلة طويلة، وكانت الخطى فيها متداركة متلاحقة، وكنت أحسُّ من فرط الإسراع كأن وراءنا من يضربنا بالسياط ويستحثنا بوقع العُقَدِ التي في ألسنتها على جلودنا، وما أظنني كنت أتلفَّت أو أرى شيئًا حتى إذا كنت نظرت، فيحسن أن أحاول أن أرجع إلى ما طويت؛ لعل بعضه ينشر لي الآن بقدرة الله».
وأجلس وأرد عيني إلى الوراء وأديرها فيما كان، ولست أذكر أني كنت أنتظر، ولكني مع ذلك تبين أني رأيت أشياء غير قليلة، وكون المرء لا يَتَعَمَّدُ النظر أو لا يذكر أنه نظر إلى شيء، ليس معناه أن عينه لم تأخذ شيئًا؛ فإن صور الحياة تنطبع في النفس بلا حاجة إلى التعمُّد.
والنفس تتلقى هذه الصور بواسطة عدسات شتى بعضها أقوى من بعض وإن كان خيرها وأدقها العين، وهذه العدسات أبدًا مفتوحة والشريط الذي تنطبع عليه لا يحتاج إلى لف أو تغيير؛ فليس عجيبًا أن يجد الإنسان أنه رأى ما لم يكن يظن أنه رآه وما لا يذكر أنه عني بالنظر إليه.
والصور التي تتعاقب على عيني الآن وتبدو لي هذه الساعة — وأنا جالس تحت الشجرة أجيل عيني فيما كان وما هو كائن — مختلفة جدًّا، من ذلك أن المرأة الحديثة التي لا تقع العين إلا عليها ولا ترتاح إلا إليها في هذه الأيام، غير أختها أو أمها التي جاءت منها وإن كانت الأم والبنت لا تزالان في حالات كثيرة متعايشتين، وكانت الأم تحاول جهدها أن تساير بنتها في الطريق. كانت المرأة القديمة لا تخرج ولا تظهر إلا لبعلها، ولمن يأذن هو لها في لقائهم، وكانت ثيابها أوسع وأطول وأستر للجسم وأغلظ والتكلف في تفصيلها أشد، وكان الغرض منها الستر والزينة معًا فخفت الزينة وخلت من الأناقة والظرف. وكانت المرأة تطلب من الثوب أن يجعلها أجمل، فجماله شيء مستقل تضيفه المرأة إلى نصيبها من ذلك، والثياب الآن لها غاية أخرى فهي ليست جمالًا مضافًا وإنما هي أداة لإبراز الجمال الطبيعي للجسم الإنساني؛ فهي لهذا تُظهر الجسم وتبرز محاسنه وتؤكد مزاياه، وإذا كانت لا تزال تستر فإنما تستر لتكشف، وتغطي ما تغطي لتجعل فتنته أقوى ووقعه أعمق؛ فالجيل الحاضر من هذه الناحية أفطن لمعنى الجمال وأعرَف بوسائل إظهاره وأساليب الفتنة. ومن آيات ذلك أن المرأة القديمة وإن كان العهد بها قريبًا جدًّا كانت تستكثر من الحلي وتؤثِرُ منها الكبير الغليظ الثقيل، وقَلَّمَا تُعْنَى الفتاة الحديثة بحلية تلبسها إلا في المناسبات التي تستدعي ذلك، ويندر أن تبدو في العادة بأكثر من حلية صغيرة دقيقة لا تكاد العين تراها؛ لأنها تدرك أن للجمال العاطل فضله ومزيته أيضًا.
وكانت المرأة القديمة تتخذ الأصباغ والمساحيق لوجهها وأهدابها وحاجبيها، وكانت ربما أسرفت في ذلك، ولا تزال في عهدنا هذا نماذج من هذه المرأة، ولكنها كانت لا تتناول هذه الأصباغ والدهانات والمساحيق إلا في بيتها بل في حجرتها الخاصة المغلقة عليها، وكان من اليسير جدًّا أن يراها الرجل — وهو زوجها — وهي تعالج وجهها بهذه المزيفات، أما اليوم فإن الفتاة تجلس في الترام بين الرجال، أو في السينما، أو المسرح، أو على ساحل البحر، أو في الكازينو، أو غير ذلك، وحولها عشرات من الرجال بعضهم يُحدق فيها والبعض يخالسها النظر، فلا ترى بأسًا أن تفتح حقيبتها — أو منبذتها كما تسمى — وتخرج منها إصبع الأحمر والمرآة فتنظر في هذه وتقبل بذاك على شفتيها تصبغهما، ولا تستنكف أن تنفض الأبيض على خديها، أو تتناول الملقط فتسوي به حاجبيها وترققهما، أو تديرهما وتقوسهما، أو تصيرهما خطين مستقيمين إلى آخر ذلك. فالفرق كبير بين العهدين، وإن كان أحدهما لا يزال موصولًا بالآخر.
وقد خطر لي مرات أن من دواعي العجب أن يُقبل هذا من المرأة، ولا يقبل مثله — أو من هو في معناه — من الرجل، والرجل يتزين أيضًا وهو لهذا يعنى بأن يحلق ذقنه أو لحيته كل يوم مرة أو مرتين، ولكنه لا يجرؤ أن يفعل هذا إلا في دكان حلاق أو في بيته، ولو أنه كان في الترام أو السينما أو المسرح أو القهوة أو ما أشبه ذلك من المحلات العامة فأخرج موسى وفرشاة وصابونة ووعاء ومرآة، ثم شرع يحلق لحيته على أعين الملأ لحسبوه مجنونًا ولثاروا به، وربما ضربوه. ومن المحقق أن عمله هذا كان يعد مخلًّا بالآداب العامة ومنافيًا لواجبات اللياقة وحسن السلوك، ولكن المرأة تصنع هذا فلا يخطر ببال أحد من الرجال أو النساء أن عملها فيه أقل خروج عن اللياقة أو حسن الأدب؛ فيظهر أن المرأة سبقت الرجل في هذا الجيل، وكانت أجرأ منه على اقتحام أسوار التقاليد. وعندي أن المسألة ليست مسألة جرأة أو سبق وإنما هي أن الرجل يعرف أن الزينة من لوازم المرأة، وأنها لها أطلب وبها أكلف، فهو لا يستغرب أن يرى امرأة تتزين لأنه يعرف أنها تفعل ذلك، ولو كانت تعيش في صحراء لا تراها فيها عين رجل، وجمال المرأة مقرون عنده بحب الزينة لأنه ألف منها التعويل على الزينة حين تعرض محاسنها، والجمال هو سلاح المرأة الذي لا سلاح لها غيره، فهو يتسامح معها لعلمه أن هذا هو كل ما تملك من عُدَّةٍ في الحياة.
ولكن الرجل شيء آخر وليس معوله على الجمال، ولا هذا سلاحه في الحياة، وإن له لمهمة غير مهمة المرأة، وعملًا آخر خلاف عملها، وأسلحته في سعيه ونضاله ليس منها الجمال إذ كان قليل الغناء في هذه الميادين. فإذا رأى الرجل رجلًا يعنى بزينته إلى حد الاشتغال بها في المحالِّ العامة؛ فإنه بطبيعته لا يسعه إلا أن ينكر ذلك — حتى من غير أن يفكر في الأمر — وإلا أن يُلحقه بالنساء، ويسلكه معهن، ومن هنا غضبه وثورته، أو على الأقل استنكاره، لمحاكاة المرأة في أخص خصائصها.
وليس هذا لأن الرجل يرى المرأة أقلَّ منه؛ فإنها ليست دونه، وإنما هي مختلفة عنه، ومثل هذا يقال عن المرأة، فلو أن امرأة أبصرت فتاة تحاكي الرجال كأن تلبس الطربوش مثلًا بدلًا من البريه، أو تتخذ وتفعل غير ذلك ما يتخده ويفعله الرجال؛ لأنكرت ذلك عليها واستقبحته منها وكرهته لها، وليس الرجل دون المرأة في نظرها، وإنما لكل جنس خصائصه ومميزاته وما هو أنسب له وأليق به وأولى.
وكان قوام الفضائل الجنسية في العهد السابق هو الحجاب؛ فهي فضائل كانت في أمانة الحيطان الأربعة والبراقع والملاءات والحبرات، وما إلى ذلك ممَّا يجري مجراه، أعني بذلك أن عماد الفضيلة كان البعد عن المغريات واجتناب التَّعَرُّضِ لها، وإذا كانت المرأة لا تبرز للرجال والرجال لا يختلطون بالنساء في الحياة العامة، فليس هناك ميدان مشترك، ومعنى هذا أنه لم تكن ثَمَّ فرصة — بالمعنى الصحيح — لاختبار الفضائل الجنسية ومبلغ قوتها وقدرتها على مقارنة الإغراء وثباتها على الامتحان.
وقد عصفت الأيام بهذا الحجاب فهدمت الحيطان، ونزعت البراقع، ونضت عن الأجسام هذه الملاءات وأشباهها ممَّا كانت المرأة تلف منه في مثل أكياس القطن، وبذلك تغير وجه الأمر، ولم يعد من الممكن أن تقاس الفضائل الجنسية في هذا الزمان بما كانت تقاس به في الأيام الخالية؛ لأن الحيطان الحاجزة لم تعد موجودة، والبراقع الساترة قد زالت، ولم تتغير الثياب وحدها — ولو أن هذا كل ما هناك لما أحدث كبير فرق — وإنما تغيرت العلاقة بين الرجل والمرأة؛ فصار هناك ميدان مشترك تتسع حلبته شيئًا فشيئًا على الأيام، ويتقارف فيه الجنسان ويتعارفان ويتناوشان ويتصاولان ويتجاولان ويتحاوران، وقد جاء هذا الانتقال فجأة حتى ليمكن أن يقال إنه كان طفرة أو أشبه شيء بالطفرة، وأعانت على السرعة فيه الفورة الشديدة التي حدثت في حياة مصر وتناولت أعماقها كما تناولت سطوحها ووجودها، فكان هذا الانقلاب التام — أو الذي يكاد يكون تامًّا — في أوجز زمن، وما بضع سنوات في حياة الجماعة إذا كانت شيئًا في حياة الفرد. ولم يسبق هذا التحول تمهيد من التعليم الصحيح، والتدريب اللازم، والفهم السليم، والتنظيم الواجب. وعلى أن التمهيد عسير، ومطلب غير هين، والقول به سهل، ولكنَّ إخراجه إلى العمل شيء شاقٌّ جدًّا، ولا سيما إذا جاء الانقلاب في أعقاب رجة شديدة زلزلت حياة البلاد ونقلتها من السكينة التي يكون التفكير فيها هادئًا — وإن كان الهدوء لا يستلزم السداد، ولا تكون الحركة إلا بطيئة وانية — إلى الاضطراب والنشاط والرغبة الجامحة في تغيير وجه الحياة كلها؛ لأن وجهها صار كريهًا لا سبيل إلى احتماله والصبر عليه، وهكذا تغيرت حياة الجنسين — الرجل والمرأة — وعلاقاتهما دفعة واحدة بلا تمهيد، ومن قبل أن يحصل الفهم الصحيح لما ينبغي أن تكون عليه هذه الحياة وتلك العلاقات؛ ولهذا ترى هذه الحياة الجديدة مضطربة حائرة غير مستقرة على حال، ولا معتمدة في ثباتها واستقرارها على تقاليد وعادات تقررت على الزمن ووافقت مزاج الأمة ونزعاتها وعقائدها. وإلى هذا الاضطراب، وتلك الحيرة، وذلك البعد عن الاستقرار في حياة الجنسين على حدود المزاج العام للأمة أو العقائد الراسخة، إلى هذا كله يرجع ما يشكوه الناس من التفكيك والانحلال والإسراف والجماح؛ فليست الفتاة الحديثة أسوأ ولا أقل فضيلة من المرأة السابقة، ولكن الفتاة الحديثة تمتحن امتحانًا قاسيًا مباغتًا لم تكن مستعدَّة له، ولا كانت تحلم بأنها سيقذف بها في أتونه، وقد كانت سجينة فأُطْلِقَتْ، ومقيدة فتصدعت عنها الأصفاد، ومقودة فألقي إليها بالزمام، وقالت لها الأيام هذه هي الدنيا كلها أمامك فاخرجي واسعي واصنعي ما بدا لكِ وأرينا ما تقدرين عليه، وهي لا تجربة لها ولا دربة ولا خبرة بشيء من أحوال هذا العالم الجديد؛ فلا عجب إذا حارت وضلت وتعثرت، ولا غرابة إذا أدارت رأسها هذه الحرية الواسعة التي ورثتها على غير انتظار، ولا محل للدهشة لأنا نراها تستعمل الحقوق التي ظفرت بها، ولا تؤدي الواجبات أو تحمل التبعات التي تقابل هذه الحقوق؛ لأن أول ما يفهمه المقيد من معنى الحرية حين يُسرح هو أن القيود كلها قد زالت وأن التكاليف جميعًا قد سقطت. وهذا خطأ، ولكنه خطأ طبيعي يقع كل يوم وتقع فيه الأمم كما يقع فيه الأفراد، ووهم يركب الأذكياء كما يركب الأغبياء.
وليس العلاج أن تعود فتقيد المرء بعد الحرية حتى تقيه عواقب الإسراف ومغبات الشطط؛ فإن شبيهًا بذلك أن يُصاب واحد بالتخمة فتحرم عليه الأكل طول حياته بعد ذلك خوفًا عليه أن يصاب بالتخمة مرة أخرى. وإنما العلاج أن تدعه يزاول حريته ويستعملها، وتتركه يخطئ ويتعثر وعينك عليه تتعهده وترعاه وهو غير شاعر بذلك؛ ليستفيد من أغلاطه، ويتعلم من أخطائه، والذي لا يخطئ لا يمكن أن يتعلم. وكل امرئ، وكل شعب، حين يدخل في طور جديد يكون شبيهًا بالطفل حين يشرع في المشي، والذي يطلب من الفرد أو الشعب أن لا يخطئ في استعمال حريته الجديدة ولا يتعثر، يكون كالذي يطلب من الطفل ألا يكبو حين يتعلم المشي كلا الأمرين محال ومطلب لا ينال.
وما قلته عن الفتاة الحديثة يقال مثله تمامًا عن الشاب الحديث؛ فإن خطبهما واحد، ومظاهر تقصيرهما في المسئوليات وإهمالهما للواجبات لا يختلف؛ لأن كليهما قُذف به في حياة جديدة، ومحيط لا عهد له به، فهو يتخبط ويفعل ما يجيء في أول الخاطر، وسيظل يتخبط — هو والفتاة — حتى يهتدي ويفطن بالتجربة والمعاناة إلى أن حرية الفرد في الجماعة ليست مطلقة، وأن لها حدودها، وأن كل حق يقابله واجب، وأن الحياة تصير إلى الفوضى بغير ذلك، ولكن هذا درس لا يمكن أن يُستفاد بغير التجربة — تجربة الحرية — وتطبيق استعمالها عمليًّا.
وكانت حياة الجيل السابق هادئة ساكنة كصفحة الغدير المصقول، وكانت فوق هدوئها منتظمة كدقات الساعة المضبوطة، فلما كانت الحرب الكبرى وزلزالها، انتقلنا فجأة من السكينة إلى الجَلَبة المزعجة، والضوضاء التي تدير الرأس، وتطير العقل، وتزيغ البصر، وتهد الأعصاب، وتحولنا كذلك — أو سبب ذلك — من الوني والبطء والتريُّث، وأن الله مع الصابرين، والعجلة من الشيطان، إلى السرعة التي لا تكاد تسمح بالتفكير، أو التي تُوهِمُ المرء ذلك على الأصح، فنحن في حركة دائمة، بعد الفتور المخيم والركود الذي كان يغشى حياتنا. وما زلنا في ذهول هذا الانقلاب السريع، وكثيرون مِنَّا يدورون حول نفوسهم وهم يحسبون أنهم ماضون على سننهم، سائرون على استقامتهم، وأكثرُنا لا يجد نفسه ولا يحسها، وهو يدور ويلف وينقلب في هذا العهد الذي لا يثقل الزمن فيه رجله ولا يتئِد في خطوه. وليس هدوء الحياة في كل حال خيرًا من جَيَشَانِهَا وفورها؛ فإن الهدوء قد يكون عن بلادة، وقد يؤدي إلى الركود أي الفساد. والجَيَشَانُ حركة، والحركة دليل الحياة، والحياة تمتنع إذا انعدمت الحركة، ولا شك أن الجَيَشَان اضطراب، ولكن هذا الاضطراب هو الذي يعين على إظهار ما كان خافيًا، وإبراز ما كان مكنونًا، وطفو ما كان راسبًا، ولن يعرف نفسه من لا تضطرب نفسه أحيانًا ويموج بعضها فوق بعض.
ومن الخطأ أن يظن أحد أن السرعة تحول دون التجويد والإتقان، وأن البطء وحده هو الكفيل بذلك؛ فإن الشعور باتساع الوقت يُنِيمُ ويوقِد ويبعث على الاسترخاء، والحاجة إلى الإسراع تُنَبِّهُ الملكات الراقدة، وتوقظ المواهب المغفية، وتشد الأعصاب وتزجرها عن الاسترخاء؛ لأن ههنا ضرورة تقضي بالعجلة، والعجلة تتطلب أن تنبعث النفس كلها وتفيق.
وقدرة الإنسان على التكيف عظيمة بل لا يكاد يكون لها حد معروف، وأذكر على سبيل المثال أني قبل أن أشتغل بالصحافة كنت لا أكتب المقال أو الفصل القصير في أقل من أسبوع، وكنت أكره أن أمحو بالقلم كلمة بعد كتابتها، فإذا كان لا بد من تغيير كلمة واحدة غيرت الصفحة كلها من أجل ذلك، وكنت لا أنفك أُغَيِّرُ وأُبَدِّلُ وأمحو وأُثبت حتى أضجر، وقلَّما كنت أرضى عما أكتب على الرغم من فسحة الوقت واتساعه للتنقيح، ثم شاء الله أن أنتقل إلى الصحافة فكبر في وهمي أول الأمر أني سأعجز عن كتابة مقال في يوم، فكيف بكتابته في ساعة أو أقل من ساعة، فقضيت بضعة أيام وأنا أحيي الليل بالسهر في كتابة المقال ليكون حاضرًا في الصباح، ثم وجدت هذا يضنيني ويحرمني الراحة والنوم، وصرت كأني أعمل ليلًا ونهارًا، فقلت لا بد من رياضة النفس على الكتابة على مكتبي في الجريدة، وشرعت في ذلك وقد صح عزمي عليه، فكنت أكتب وأنا مضطرب ضيِّق الخلق لا أكاد أحتمل أن يقرئني السلام إنسان، وزاد الطين بِلَّةً أني كنت أكتب أولًا في بيتي، وليس فيه ما يزعج أو يعكر أو يقطع عليَّ سلسلة التفكير؛ فصرت أراني في الجريدة يدخل عليَّ من شاء حين يشاء ليكلمني فيما يشاء وينسيني ما أنا فيه، وكان يجتمع عندي في بعض الأحيان خمسة بل عشرة، وأنا صابر سـاكت وماذا أقول وهم ضيوف وأنصار؟ ولو كان هناك مهرب من هذا الحال، أو وسيلة لتخفيف وطأته لما قصرت، ولكنه لم يكن ثَمَّ أي مناص، وكنت بين أمرين: أن أروض نفسي على السكون إلى هذه الحالة الجديدة، أو أن أنفض يدي من الصحافة وأهجرها إلى عمل آخر. بدا لي أن من السخرية أن أزعم أني كاتب — وأديب أيضًا — وأن أهرب من الصحافة لأني عاجز عن الكتابة، فلا مفر من رياضة النفس، وقد كان.
والعجيب أنه لم يَمْضِ إلا قليل حتى صرت أستطيع أن أكتب في أي مكان وفي أية ساعة، يستوي في ذلك أن أكون وحدي لا يزعجني مزعج، وأن يكون حولي جيش من المتلاغطين، بل صرت أستطيع أن أكتب قبل أن أفكر في الموضوع، وقد اعتدت ذلك حتى صرت إذا أردت أن أكتب لم يكلفني ذلك إلا أن أجلس إلى المكتب وأتناول القلم وأقيم سِنَّهُ على الورقة، وما هو إلا أن يفتح الله عليَّ بكلمة أستهل بها المقال، ثم ذا المقال كله مكتوب والحمد لله.
وليس معنى هذا أني لا أفكر، وإنما معناه أني أفكر وأنا أكتب لا قبل أن أكتب، والعملان يتمان معًا. بل أغرب من ذلك أني صرت إذا انصرفت إلى الكتابة أذهل عمَّا عداها فلا أسمع الذين يتكلمون حولي، ولا أشعر بضجة الترام ولا ضوضاء الباعة، ولو ضربت المدافع قريبًا مني لمَا حولت خواطري عما أنا فيه. وقد أفادني هذا فائدة أخرى فقد كنت لا أستطيع أن أنام إلا إذا سكنت الأصوات، وكان أخفت الأصوات وأبعدها يزعجني، ويطير نومي فأسخط وأتبرم ويسوء خلقي؛ ولهذا سكنت صحراء الإمام أعوامًا طويلة طلبًا للهدوء والتماسًا للسكينة التامة، ومع ذلك كان أهلي إذا أردت النوم يذهبون إلى أقصى البيت، ويغلقون كل الأبواب بيني وبينهم، ويفرضون الصمت على الصغير والكبير؛ خوفًا عليَّ وخوفًا من إيقاظي، ولكني على الرغم من هذا كنت لا أنام نومًا هادئًا. وآهِ لو اتفق أن مرَّت سيارة في الطريق، أو صاح طفل يلعب على مسافة كيلو من البيت؛ إذن أقوم كأني شُكِكْتُ بمسمار محمِيٍّ في جنبي، ولكن عملي في الصحافة عوَّدَني أن أشغل بما فيه نفسي، وأن أذهل عمَّا حولي، فصرت أجدني أنام ولا أعبأ بالضجات، ولا أبالي الضوضاء، فقلت لنفسي: وما مقامي إذن في هذه الصحراء المجدِبة البعيدة عن العمران! ولهذا انتقلت إلى مساكن الأحياء وعلى الطريق العام أيضًا، غير عابئ بالترام والباعة والسيارات، وغير ذلك من المقلِقات؛ لأني صرت أستطيع أن ألوذ من نفسي بحصن لا تقتحمه هذه المنغصات، وهذا مثل لقدرة الإنسان على التكيف لا مبالغة فيه ولا غلو؛ لأن هذا ما يعرفه عني كل من يعرفني.
والإنسان موجود ليعمل وليناضل وليكافح ويسعى، وحياة السكينة لا تشعره بأنه يفعل ذلك، ويقوم فيه بالواجب الذي تفرضه عليه الحياة، وإنما تُشعره السرعة بذلك، وتفرحه بهذا الشعور أيضًا. والذي يفعل الشيء في سكون، وفي سراح ورواح، وعلى مهل، وكلما أحس نشاطًا، ووجد من نفسه إقبالًا على العمل وارتياحًا إليه؛ لا يكاد يشعر آخر الأمر أنه صنع شيئًا، ولا يخفق قلبه خفق السرور والرضى إلى ما أثمره كده؛ لأن طول الوقت الذي استنفده في العمل يُفقده القدرة على الإحساس بجملة العمل إذ كان كل شعوره بالتفاصيل الصغيرة كل منها في وقتها وبمجردها أي على حدة. نعم يفرح ويرتاح، ولكن ما ضيع فيه من الوقت والجهد يسلب السرور قوته. والأمر في السرعة على خلاف ذلك، والحال على نقيضه؛ لأن إتمام العمل في وقت وجيز يتيح له أن يشعر به جملة وتفصيلًا في آنٍ معًا، فإذا أعجبه ما عمل فاضت نفسه بالسرور.
وقد لا يدرك المرء في أول عهده بالحياة أنه يكافح ويناضل، ولكنَّه كلما تقدم في طريق الحياة وكر طرفه فيما مضى، لا يسعه إلا أن يشعر أن الحياة كلها كفاح. ثم يجيء وقت يتساءل المرء فيه: ما هي يا ترى القوة التي كنت وما زلت أكافحها في حياتي؟ أتراني كنت أكافح نفسي طول عمري وأنا لا أدري؟ وإذا لم تكن نفسي هي ذلك الخصم ألذي أصارعه فمن هو غيري؟
ويدهشه أنه لا يدري، وأنه يجهل خصمه، وأنه لا يستطيع أن يجزم في هذا بشيء، وكلما علت به السن زادت حَيْرَتُه، وربما تردَّد ومال إلى عقل أن الخصم الذي يصارعه ليس خصمًا، وإنما هو صديق في ثياب عدو؛ فيشتهي أن يعرفه ويسأله عن اسمه، ولكنَّه لا يفوز بطلبه.
وقد أذكرتني هذه الخواطر حُلمًا ليعقوب النبي — أبي يوسف عليه السلام — ولا تقول التوراة إنه كان حلمًا ولكن هذا هو المفهوم. وكان يعقوب قد قام في ليلة، وأخذ امرأتيه وجاريتيه وأولاده وعبر بهم مخاضة يبوق، وأجازهم الوادي، وبقي يعقوب وحده فصارعه إنسان حتى طلوع الفجر، وأبى مصارعه أن يذكر له اسمه لمَّا سأله يعقوب عنه، ولكنه باركه ولم يبخل عليه بالدعاء له — أي ليعقوب — لأنه جاهد مع الله والناس.
ولست أعرف ما هو أصدق من هذا الحلم في تصوير الحياة؛ فإنها كلها صراع مع خصم مجهول في الظلام، فلا وجهه يبدو، ولا اسمه يُعرف، وليس هو بعد ذلك بخصم؛ لأنه يبارك الإنسان ويثني على جهاده في سبيل الحق والواجب، فكأنه لا يصارعه وإنما يستدرجه إلى الجهاد المفروض، ويجره إليه، حتى ينزله حومته، ولا يدعه فيها يهدأ، حتى إذا رآه آخر الليل لم يقصر في جهاد الحياة باركه ودعا له.
ثم يرق الظلام، وتستبين معارف الأرض، ويشف سواد الظلال التي كانت كثيفة وتدخل في الفجر، ويؤذننا ضوء الصباح الذي ينبلج شيئًا فشيئًا بانتهاء حلم الحياة. ومن يدري؛ فقد نعلم حينئذٍ كُنْهَ ذلك المصارع المجهول الذي حسبناه في ظلام الليل خصمًا وقد نرى وجهه ونعرف اسمه.