تعاني الشبيبة المصرية في هذا العصر الأخير مرضًا امتد حتى أصبح عامًّا؛ذلك هو خوفها من المستقبل ونظرها إليه بعين مرتاعة وجلة. فلا تكاد تقابل شابًّا من الناشئين وتكلمه في شأن عمله وحاله، حتى تبدو منه أمارات تدل عنده على يأس وهلع ووجل شديد. فإن كان من رجال الحقوق صور لك امتلاء الوظائف وكثرة المحامين وضعف الأمل في الوصول إلى ما وصل إليه من سبقه من المركز والثروة. وإن كان طبيبًا نعى ما فيه أفراد الأمة من عدم الهرع إلى الأطباء عند كل حادث يصيبهم فضلًا عن صعوبة الوصول في الحكومة إلى مركز مرض إلا بعد أزمان قد ينتهي العمر قبل أن تجيء. وإن كان مهندسًا أبدى لك حال المهندس الخارج عن هيئة الحكومة، وكيف لا يجد عملًا، ثم صور لك إقفال باب وظائف الحكومة العليا في وجه المهندسين المصريين، حتى لتظن أن مخاطبك لن يستطيع إلا أن يكون عاملًا بسيطًا. ويأس المعلمين وخريجي التجارة أظهر من ذلك كله.
ولا شك أن هذا اليأس مضر بصاحبه أكبر الضرر، فهو يوقف أطماعه ويحدها في دائرة لا يرى هو محلًّا لإنفاق أي مجهود لتعديها، لأنه يعتقد أن المجهود الذي ينفق في هذا السبيل مجهود ضائع، وما دام ذلك اعتقاده فهو يبقى فيما هو فيه من الضعف لا يتحول عنه، ولكن هذا الضرر الفردي أخف كثيرًا مما يجلب اليأس على الأمة من الويلات والمصائب، فإنما حياة الأمم أمل يتبعه عمل يسير بالجماعات في سبيل الرقي الإنساني الذي ننشده. فإذا فت في ساعد الأمل تعطلت حركة الأمة إلى الأمام، وأصبح كل عملها أن تتحرك حول نفسها تلك الحركة التي يكره عليها الوجود، وتبقى حركتها غير الموجبة حتى يدفعها دافع خارجي إما إلى الحياة، وإما إلى الفناء.
وعندنا أن هذا اليأس الذي صار أهم الوسائل في وقتنا الحاضر للوصول إلى إحدى الراحتين أثر من آثار وقوف حركتنا العلمية والفكرية عن أن تسير مع حالتنا الاقتصادية والمادية، فقد بدأت حركتنا الاقتصادية ترقى من أيام المغفور له محمد علي باشا، وبدأت معها حركة علمية مؤسسة على قواعد المدنية الغربية هي الأخرى، وسارتا في نشأتهما ضعيفتين لم تخرجا عن أن تكونا جميعًا بعض ما أعدت حكومات ذلك الوقت لفائدتها الخاصة. فلما بدأنا في الانتقال لإفادة الأمة هي الأخرى، وذلك من نحو أربعين سنة مضت، لم تجد الحركة المادية أي مانع في طريقها، بل لقد وجدت مشجعات كثيرة ساعدتها على الرقي والنمو، وكان الناس يومئذ أسعد ما يكونون حالًا وأكبر أملًا لأن أطماعهم وأحلامهم وشهواتهم المادية وشهواتهم الروحية كانتا جميعًا في مستوى واحد، لكن الحركة العلمية التي هي مصدر كل أمل لم تجد ما وجدته زميلتها من المشجعات فكان تقدمها، إن كانت تقدمت في شيء، بطيئًا هامدًا لا أثر له في الخارج. لذلك بقيت أحلام الناس وآمالهم الروحية في الحياة واقفة عند حد معين، في حين زادت أطماعهم وشهواتهم المادية إلى ما لا حدود له.
ولما كانت الحركة العلمية في بادئ أمرها معتبرة أساسًا للسلطة ومصدرًا للثروة فقد بقي المتعلمون دائمًا وعندهم تلك الأطماع المادية غير المتناهية، وكأنهم ما حسبوا أن ارتقاء الجهة الاقتصادية من جهات حياة البلاد كان من شأنه أن خلق اختصاصيين لعمل الثروة كانوا أثقل في كفة المنافسة لكسب المادة من زيادة المتعلمين. فأتقن أولئك الأخصائيون فنهم العملي، وبرعوا فيه، وجعلوا يتصرفون في الثروة العامة كما يشاءون. ولا سبيل لمنافستهم ما دام المتعلمون قد وقفوا من علمهم عند الدرجات الأولى، التي كنت كافية فيما مضى، لإكسابهم السلطة والثروة، والتي لا يمكن أن تكفي اليوم إلا لتزيدهم غرورًا وتزيدهم بذلك تعسًا.
ولا يمكن للمتعلمين أن يأملوا في حياة طيبة ما داموا واقفين وقفتهم هذه، بل سيزداد الحال سوءًا يومًا بعد يوم وعامًا بعد عام، ستزيد المنافسة المادية في استعداد طبقات جلاب الثروة إلى حد يصبح معه المتعلم أسير هذه الطبقات، كما كان أسير الحكومة من قبل ذلك، وسيكون من شأن هذا المركز أن يمحو ما كان للمتعلمين في الماضي من سلطة أو احترام، وسيصبحون من بعد ذلك من العمال من أي فئة ومن أي طبقة، سيكون مركز محامي فلان الثري كمركز كاتب فلان هذا، ومركز طبيبه كمركز ناظر زراعته، وسيكون ذلك كله لأن المتعلمين الذين هم أولى الناس بفهم معنى الأمل قد ركنوا إلى اليأس وحسبوه دون غيره باب الراحة الخالدة.
أما إذا طرحت الشبيبة عنها هذا اليأس القتال، وحسبت في العلم الذي تحصل باب أمل طويل وعريض لرقي الإنسانية، وعملت من بعد ذلك للتعمق فيه طمعًا في الوصول لتحقيق هذا الأمل، إذا هي لم تجعل العلم مجرد وسيلة للمنافسة في سبيل كسب القوت، بل جعلته تلك الغاية العليا التي يراد نيلها للوصول بالإنسانية للنور والهدى، إذا هي أقبلت على العلم للعلم وعملت لفائدة العلم فقد خرجت من هذا المركز البشع، مركز اليائس، وأدخلت إلى الأمة أطماعًا روحية جديدة، كانت معها صاحبة السلطة على البلاد سلطة حقيقية من غير حاجة منها للوظائف التي أصبحت اليوم، فضلًا عن امتلائها، لا يطمع فيها إنسان كامل الشعور بالحياة.
وهذا هو واجب الشبيبة المصرية، إنَّا لا نزال نعيش في ظلمات الجهل، وليس القانون في يد القاضي المصري، ولا المشرط في يد الطبيب، ولا الكتاب في يد المعلم بأرقى من الفأس في يد الفلاح، أو المطرقة في يد الحداد. ذلك لأن تلك الطبقات الأولى التي تعد نفسها متعلمة قد وقفت عند حد معين لا محل عندها للتفكير الدقيق بعده، كما وقفت الطبقات الدنيا الأخرى عند حد معين لا تفكير عندها بعده، والعلم لا يتفق مع وقوف حركة التفكير. فإذا كانت الشبيبة تريد أن تستعيد في مصر المتحضرة مصر القرن العشرين، ما كان لأمثالهم في الماضي من المكانة والسلطة والاحترام، فواجب عليها أن تجعل نسبة ما بينها وبين طبقات الأمة الأخرى مثل ما كانت تلك النسبة في الماضي أو أكثر، ولن يكون ذلك إلا بتفهم العلم، واستدامة تحليله، واستخدامه لإسعاد البلاد ماديًّا وأدبيًّا حتى يكون عمل الطبقات الأخرى أثرًا من آثار تفكير الشبيبة وعملها، إذا فعلت الشبيبة ذلك خرجوا من راحة اليأس إلى نعيم الأمل، وعاشوا حياة يكون لصاحبها سرور بها، ولغيره أن يغبطه عليها ما دامت، وأن يأسف على ذبولها حين يجيئها الهرم والمشيب.