كان حكم الاستبداد وطيد الأركان في أوربا كافة، ما خلا إنكلترا، إلى حين قيام الثورة الفرنساوية. وكانت إنكلترا إذ ذاك المثل الأعلى يتطلع إليه الكتَّاب من أهل القارة، يودون لو تنسج أممهم على منواله، ولكن الأمم بطيئة الخطى دائمًا، وليست تكفي فيها الحركات، والأعمال الفردية، لتنقلها من حال إلى حال.
فلقد كتب مونتسكيو، ومن سواه من كتَّاب فرنسا أبلغ الكتب، وتمنوا لأمتهم كبار الأماني، وقام إلى جانبهم الشعراء ينشدون الأغاني الجميلة تهتز لها النفس تمجيدًا للحرية، ومع هذا كله فإن أعقاب المجاميع الكبيرة التي تكوِّن الأمة الفرنساوية لم تتوتر إلا بعد أن أرهقها الظلم، وبعد أن أذاقها المستبد الأكبر وأتباعه أنواع الخسف والذل. يوم ذاك قامت باريس وغيرها من المدن، وتحرك على أثرهم باقي السكان فعلت صيحتهم جميعًا في وجه الظلم، وبعد أن كانت أغنيات الحرية فردية تنشدها الجماعات الصغيرة في أوكارها صار يترنم بها القاصي والداني من أهل البلاد.
ويوم ذاك نمت تلك البذرة الصالحة التي بذرها الكتَّاب، وأصبح العقد الاجتماعي الذي وضعه روسُّو إنجيلًا يرتله الوطنيون في جمعياتهم، كما يرتلون إنجيلهم الديني في الكنائس. وسرت هذه الروح وامتدت، حتى إذا بلغت ذروتها صادفها نحس الطالع فتلقاها نابليون بين يديه واستثمرها أول الأمر لخير فرنسا وعظمتها، فلما وثقت فرنسا منه وأسلمت زمام الأمور إليه أفناها في شخصه، وأعاد عليها حكم الاستبداد القديم. غير أن البذرة الصالحة متى نمت لا يمكن أن تقتلها الأعشاب الفاسدة، والأمم إذا طمحت للحرية لم يثنها عنها أكبر القياصرة، ولئن استطاع ملك أن يغافلها عن حقها زمنًا ما، فلن يستطيع أن يميت فيها روح الاستمساك بهذا الحق، وتضحية كل شيء في سبيل نواله.
لهذا فما لبثت فرنسا أن أفاقت من كابوس الحروب النابليونية، حتى عاودتها النزعة الثورية الأولى، وسرت هذه الروح من طبقة الأعيان إلى عامة العمال، فقام الناس جميعًا في سنة 1848 يطالبون بالحرية المغصوبة التي أراقوا ابتغاء الوصول إليها المهج والنفوس.
ثم جاءت ظروف جديدة استعادت الملكية فيها سلطانها، وبقيت متربعة في دسته حتى أنزلتها الجمهورية الثالثة عن عرشها وحطمته، ووضعت الناس مكانه كل ما أملته الثورة من حقوق الحرية، والإخاء، والمساواة. وكذلك حكمت الديمقراطية فرنسا، وبقيت تحكمها إلى يومنا هذا، ولم يكن الشعب الفرنسوي يومًا أعز منه حين حكم نفسه بنفسه.
أثرت هذه الظروف التي مرت بها فرنسا في أوربا، بل وأثرت في العالم كله، وأخذ الفرنسيون بيدهم قياد العالم في أنظمته السياسية، فلم تبد فكرة جديدة ولا قام حزب جديد إلا كانت فرنسا أمته الأولى، ومربيته، ومنشئته؛ ولذا كان أول من قام الحزب الاشتراكي فصاح في وجه الفردية الاقتصادية، وما تكره الناس عليه من احتمال النفس في هذه الربوع الفرنساوية ربوع الذكاء، والحرية، والنور. وصادفت هذه الصيحة أذنًا صاغية في العالم كله. فقام من الإنكليز، والألمان، والروسيين، وغيرهم من نادى باسم العدل يريدون إنصاف هذه الملايين من العمال الرازحة تحت أحمال عيش لا يفضل عيش الأنعام، نادوا جميعًا يريدون حياة إنسانية لكل مخلوق وهبه الوجود صفة الإنسانية.
وكذلك قامت الاشتراكية، وبحثت عن أصول الظلم، وأرادت محوها، فحاربها خصومها حربًا عوانًا، واستعان أولئك الخصوم بما في يدهم من قوة المال يؤيدها السيف وسلطة الحكم، لكن الاشتراكية لم تنزعج ولم تأخذها الصيحة، بل ظلت في ندائها السلمي تريد الحق والعدل، وتطالب للناس طرًّا بأكبر حظ يستطاع من السعادة. ولقد كان صوت الحق في كل الأزمان الصوت المسموع؛ لذا جعلت الفردية تتراجع إلى الوراء شيئًا فشيئًا وجعلت نفثات الاشتراكية تتسلل من تلك الفرج الضيقة تبدو رغم تلاصق جيوش الفردية في تقهقرها، ومن ثم تبدي للاشتراكية نور الانتصار.
وعملت هذه النفثات في جسم الفردية، فابتدأ يهتز وخشي أن ينهار بنيانه، فلما بلغ منه الوجل وضاقت به السبل استعمل ما في يده من أيد وسلطان، ودفع الجيوش تتحارب وتقتتل. وها قد مضى على هذه الحرب سبعة عشر شهرًا أو تزيد، وإنا لنزداد كل يوم يقينًا بما قلنا أول الحرب، فصرنا نرى رأي العين ما كنا نتخيل من قبل. صرنا نرى الفردية مسرعة إلى الخذلان، لتترك الاشتراكية ما كانت تنازعها فيه من بقاء. ولا نحسبها بعد ذلك راجعة إلى ميدان النزاع بعد إذ أغمدت هي بيدها سيفها في نحرها.
هذا هو ما تنبئ به الحرب الحاضرة، ولسنا نكتفي لتقرير ذلك بمجرد الاستنتاج المنطقي البحت، فالوقائع التي قررناها وقائع حقيقية صحيحة وليست مجرد مظاهر للوهم والخيال. فضلًا عن هذا فإن الإحصاءات التي نشرها أحد كبراء الكتاب من الإنكليز (ونشرت في المقطم الأربعاء 29 ديسمبر الماضي) تزيد هذا الرأي متانة وقوة، ويظهر منها أن مسائل مفصلة تنتظر أوربا على أثر هذه الحرب لا يمكن لغير الاشتراكية أن تحلها. من هذه المسائل ما يأتي: «وجود ثلاث نساء صالحات للزواج مقابل كل رجلين يصلحان للزواج، وزيادة عدد الشيوخ على الشبان، وزيادة عدد الصبيان على عدد العمال البالغين، وزيادة معتلي البنية على سليميها، ووجود ملايين من الرجال الذين تخلوا عن أعمالهم إبان الحرب، ووجود ملايين من النساء يعملن أعمال الرجال واعتدن إحراز الأجور، ووجود ملايين من العمال اعتادوا أن يكسبوا أجورًا تزيد ضعفين أو ثلاثة أضعاف على أجورهم في الأيام السابقة على الحرب، وينتظرون هذه الأجور العالية، ونقص المواد الغذائية بسبب خراب ميادين الحرب». فهل ثمت من سبيل لحل هذه المسائل المفصلة إلا عن طريق الاشتراكية؟ وهل يدري أحد إمكان محاربة العمال في أطماعهم بعد الحرب من غير إقامة ثورات لا تكون أقل فظاعة وقسوة من الحرب ذاتها، وتنتهي حتمًا لمصلحة المجموع الأكبر المحس بحقه؟ أقصد جماعة العمال.
لا أحسب المسألة تحتمل أي شك، فقد آن للمجهودات الاشتراكية التي بذلت في نصف القرن الأخير أن تجني ثمرات ما عملت، وتقيم على الأرض شيئًا من العدل، ومن التضامن والرحمة بعد أن سعت الإنسانية لهما القرون الطوال، ولمَّا تهتدِ.
لم تكن هذه الحرب المخربة هي أساس الاشتراكية. هذا ما لا شك فيه، ولكنها تسمح للاشتراكية بالتقدم خطوات إلى الأمام، ولئن أعقب المجازر الشنيعة التي تفيض على أوربا اليوم أنهار الدماء همود طويل هو سبات المنهوك، ولكن وقت الهمود هذا قد يكون بحيث لو تركت أوربا في هدأتها وسلمها، لكفاها للوصول من الحق والعدل إلى ما رمت الاشتراكية دائمًا إلى تحقيقه. فكفى عزاءً لأنصار الاشتراكية أن الحرب أثبتت للعالم أجمع أنهم هم المحقون، وأنهم من أجل ذلك لغرضهم سيصلون.
أوفي انتصار الاشتراكية خير للعالم كبير؟ هذا ما يتساءل عنه بعض المفكرين. ونظننا في حل من القول بأن الأكثر من مبادئ الاشتراكية أقرب للعدل، وأدنى لما هو خليق بالإنسانية. فإذا هي احتوت إلى جانب ذلك شيئًا لا يتفق مع ما يرجوه ابن آدم من أقصى الغايات فذلك لأن الكمال لا يزال بعيدًا عن الإنسان جدًّا، وكان الإنسان مكلفًا به أن يقصد الكمال في كل شيء فإن هو اهتدى إليه كان في ذلك كل مبتغاه، وإلا فباب الجهاد مفتوح، وعمر الإنسان طويل.
لهذا ترانا نغتبط باقتراب تحقق الآمال الاشتراكية في أوربا، وإنا نعتقد أن اليوم الذي تدخل فيه مبادئها الكبرى إلى عالم العمل هو اليوم الذي تشرق فيه شمس الحرية على العالم كله، وهو اليوم الذي ينال فيه نفس بني آدم حظًّا من السعادة يجعل للحياة عنده طعمًا، ويدفعه لمشاركة العالم مشاركة نافعة في السير إلى الكمال المنشود.