عمر الحرب الحاضرة إلى الآن خمسة وعشرون شهرًا وبضعة أيام. هذه المدة ليست بالطويلة إلى جانب تعاقب السنين وكرها، ولكني أراها كافية، لتنسينا طعم أيام السلم، كافية لتجعلنا نرى تلك الأيام التي انقضت، كأنها حلم لذيذ عاودنا سويعات الكرى، ثم قمنا فواجهنا الحياة الحقيقية الدائمة، حياة الحرب المستعرة، وأراها كذلك حتى ليبلغ مني السأم حينما تمر أيام متتالية لا أرى فيها من أخبار الحياة المتحركة، الحرب، إلا الترامي بالقنابل، وإلا الغارات الجوية، وإلا المعارك المحلية، وإلا هذه الأشياء التافهة التي أصبحت لا تستلفت النظر إلا كما تستلفته المناظر اليومية، ولا تسترعي السمع أكثر مما تسترعيه فرقعة العربات في الشارع، ولهذا السبب صرت لا أعلق على ما تنقله التلغرافات من هذه الأخبار إلا أقل الأهمية. فإذا حدثتنا يومًا بمعارك كبيرة جدية يتوقع معها تقدم رائع، وتقهقر مفجع، وسقوط لمدن، وأماكن حصنة ابتدأت تتحرك في نفسي شهوة الطلعة، حتى لتكاد تبلغ تحركها حين مشهد رواية غرامية، أو حين قراءة قصة متعوس، أو بائسة.
ولكن الخبر الذي يخيفني حقيقة، ويهز نفسي، وأعصابي وقلبي، ويبعث إليها جميعًا الرعدة، هو تصور عودة السلم. نعم هذا هو الخبر المفزع عندي، وما صورته يومًا لنفسي إلا أحاطت بصورته كل المخاوف والشناعات، ولا عجب. فكيف يمكن لهذه الملايين المتحكمة في المدافع والمؤن تبعث بها كل لحظة رسل الموت المتسلطة على الحصون والمعاقل تدكها دكًا، وعلى الخنادق والاستحكامات تنسفها نسفًا، والموكلة بإزهاق الأرواح وببتر الأعضاء وبشرب الدماء أن تعود يومًا ما بين عشية وضحاها فترمي المدافع وقنابلها والبنادق ورصاصها، وتعيد السيف إلى غمده، والخنجر إلى قرابه، ثم تعمد إلى المزارع، وإلى المصانع، وإلى المعابد، وإلى المدارس. وهل يُحسِن أولئك الجلادون بعد عودتهم شيئًا غير الإهلاك والتخريب؟ وإن أحسنوا فأيان يجدون المصانع والمدارس والمزارع التي تقبل مريضهم وصحيحهم؟ ثم هل تراهم وقد صاحبوا القسوة الشهور والسنين يعرفون من بعد ذلك معنى السلم والطمأنينة والرأفة،أم تراهم يرجعون من الحرب ثاني أعنتهم إلى بلادهم يقلبونها كعبًا على عقب، ويعيدون فيها ما كانوا يفعلونه في ميادين القتال من ضروب البسالة والقوة، أو بكلمة أخرى من مظاهر القسوة والوحشية؟
وإن صح ذلك الذي أخشاه يا صاح، فالطامة الكبرى والخراب الكبير أن الجندي اليوم يحارب جنديًّا يقابله، قوة تقف في وجه قوة، هذا تنازع البقاء، وهو قانون الطبيعة الخالد، ولكن غدًا، إذا جاء الصلح، ونزلت الطامة، ووقع ما أتوقع، فسيحارب الجندي امرأة وسيحارب طفلًا وسيحارب أعزل من السلاح، ومحاربته لهؤلاء ليس لها إلا معنى واحد، قتله إياهم بسرعة مدهشة،واستئثاره بالأمر، واستعباده من تبقي عليه الصدفة المنكودة، وذلك هو الويل العظيم.
ثم افرض جدلًا أن ذلك لم يحصل، وأن الأمم لم تنزع إلى القيام في داخليتها، ولم تتناقض مطامعها القومية فيما بينها. فهل ترى يكون الصلح غير مخيف؟ كلا، سيكون مخيفًا أيضًا ومفزعًا. إن ألوفًا من العمال الذي سيرجعون لن يجدوا عملًا، فقد تحولت مصانعهم معامل للذخيرة والمؤنة، والمصانع الباقية ضيقة بالعمال الذين يشتغلون فيها، وألوف من العجزة لن يجدوا مأوى، لأن الصليب الأحمر ينطوي بعد الحرب أو إلا قليلًا ولا تفي ميزانيات الحكومة بسداد الديون، وبإدارة الحكومة، وبإيواء العجزة، وآلاف من النساء لن يجدن عائلًا، وهن اليوم يشتغلن ممرضات، وعاملات في المعامل التي تحتاج الرجال وفي الوظائف الجالسة، وسيجدن غدًا من الرجال شر منافس.
وافرض أيضًا — أنه أمكن تلافي ذلك كله، فماذا تكون لذة العيش بين قوم كل لبسهم السواد، وكل قلوبهم الحزن، وكل عيونهم العبرات؟
للأمم اليوم مطامع تسعى لتحقيقها، فهي كلها مشرئبة تجاه تلك المطامع، ولا يدخل أحد من أفرادها إلى داخل نفسه ليعيش مع إحساساته، ولكن غدًا حين يتم الصلح وحين يحقق الناس ما لحقهم من الخسارة، وما أصاب قلوبهم من وخزات الألم، وحين يغيب عنهم أولادهم وأزواجهم ومحبوهم، وحين تجلس العجوز إلى جانب الموقد وإلى جنبها حفيدها وليس سواهم في الدار، فتتقابل عيونهما ويبكيان، وحين تجثو الثكلى المتأيمة على كرسي الكنيسة، وتنظر إلى المسيح المصلوب، وإلى الدم سائلًا من أطرافه، فتتصور ابنها مصلوبًا أو ممزق الأشلاء أو مختنقًا بالغاز يوم لم يكن لها في الحياة أمل سواه، ترى أن العيش في مثل هذه الظروف لا يكون ذا قيمة مطلقة.
وافرض أيضًا، ولكن لِمَ كل هذه الفروض التعيسة؟ لَمْ يجيء السلم بعد، ونرجو أن لا …
ولكن … ألم يكن جميلًا حلمنا القديم، حلم السلم من خمس وعشرين شهرًا مضت.
قاتل الله العادة … هي الحياة وهي الموت، هي التي ألقت إلى الحرب نفوسًا تُحِب السلم حب العبادة.