كم سمعنا أن الحق واحد لا يتغير، سمعنا ذلك حتى ملته الأسماع، وحتى كدنا نضطر للتسليم به لكثرة ما سمعناه، ولكنا نرى الناس لا يزالون مختلفين، وكل منهم يدعي أنه على الحق، فهل معني ذلك أن الحق شعب كثيرة العدد، أو معناه أن الحق ليس مما يوجد في هذا العالم الأرضي؟
ليكن هذا أو ذاك. نحن يسرنا دائمًا أن نرى أفكارًا جميلة، وصورًا محبوبة يقبلها العقل، ويسر بها الذوق، وإذا أصر أصحاب هذه الأفكار، أو تلك الصور على نسبتها للحق لم يكن عندنا مانع من التسليم لهم بما يريدون، أما إن هم اكتفوا بنسبتها إلى أنفسهم على اعتبار أنها بعض آثارهم فإنا نكون لهم أكثر احترامًا وأعلى تقديرًا.
ذلك لأنا نرى أن إنتاج الجميل المحبوب، وموافقة العقل والذوق أرقى ما يطمع فيه الإنسان، فمن وصل بمنتوجاته إلى ذلك كان الشخص الحقيق بالاحترام، والإجلال والحب.
وقعت في بعض قراءاتي على حكاية بوذية قديمة، ويعلم القارئ أن البوذية تنبذ الترف، وتحض على التقشف والزهد، حتى لترى البوذي إذا أصبح جدًّا ولو كان في الأربعين من عمره أو قبل ذلك ترك الحياة، وانقطع عند شاطئ نهر، أو تحت ظل شجرة لا يكلم إنسيًّا ولا يستلذ طعامًا، حتى إذا بلغ من ذلك أن خرف أيقن أهله أنه اتصل بالذات العليا ذات برهمة المقدس. ولقد سرني من حكايتي أنها تصور رأي البراهمة تصويرًا جميلًا جذابًا، فأحببت أن أنقلها لعلي أجد من يشاركني في الشعور بأن من أنتجها يستحق الاحترام.
فقد زعموا أنه كان في مدينة ماتورة من بلاد البنغال جارية بارعة الجمال تدعى فسفدتا، وأنها التقت في المدينة بأحد أبناء التجار الموسرين، وأحبته حبًّا جمًّا. فأرسلت خادمتها تخبر ذلك الشاب، واسمه أوبجابا، أن سيدتها تنتظر استقباله على الرحب في منزلها، لكن أوبجابا لم يحضر لأنه كان طاهرًا رقيقًا مملوءًا بالشفقة محيطًا بالعلم مراعيًا للقانون متبعًا أوامر بوذا. وذلك كله كافٍ ليحمله على تحقير حب هذه المرأة.
بعد زمن من ذلك غير بعيد ارتكبت فسفدتا إثمًا حُكِم عليها من أجله بقطع يديها ورجليها، وأذنيها، وأنفها، فقيدت إلى مقبرة، ونُفِّذ عليها فيها ذلك الحكم، وهناك تُرِكَت تقاسي آلام الساعات الباقية من حياتها.
ولقد كانت خادمتها تحبها، لذلك بقيت إلى جانبها تطرد عنها الذباب طمعًا في أن يجيء عليها الموت هادئة مطمئنة، وإن الخادمة لتؤدي واجب الإخلاص إذا رأت رجلًا مقبلًا ليست عليه سيما الطلعة، بل هو قادم بتحفظ كأنه زائر مملوء بالاحترام لمزوره. فلما عرفته الشاب أوبجابا أسرعت فانتشلت أعضاء سيدتها المبعثرة، وأخفتها طي ثيابها، واقترب ابن التاجر من فسفدتا، وجعل يتأمل فيمن كان جمالها بالأمس نور المدينة، فلما بصرت به الجارية، وعرفته محبوبها وجهت إليه الكلمات الآتية في صوت خافت مندثر:
إيه يا أوبجابا. لقد تركتني حين كان جسدي غضًّا كأنه زهر الريحان تزينه أطواق الذهب ورقيق النسيج، تركتني أنا البائسة حينما دعوتك، وقد كان كل ما في يوحي أشد الرغبة، فلِمَ تحضر الآن، ولحمي الدامي المبتور لا يستثير إلا التقزز والفزع؟
فأجابها أوبجابا برقة مستطابة:
يا أخت فسفدتا، ما كانت إحساساتي لتتأثر أيام جمالكِ الذاهب بالمظاهر الخداعة، بل لقد كنت أراكِ يومئذ بعين الفكر على نحو ما أنتِ عليه اليوم، وكنت أعلم أن جسمكِ ليس إلا وعاء للفساد، على أنكِ لم تضيعي علم الله يا أخت شيئًا في نظر من يعلم ويفهم، فدعي الأسف، ولا تنعي ظلال المسرات والشهوات الذاهبة، وخلي حلم الحياة الفظيع تتبدد غياهبه.
واعلمي أن مثل ملاذ هذه الدنيا كخيال القمر المنعكس في الماء، وإنما جلب عليكِ الشر إمعانكِ في الرغبة، فلا ترغبي من الآن شيئًا، وكوني راضية عن نفسكِ تكوني خيرًا من الآلهة، لا تطمعي في الحياة، فإن الإنسان لا يعيش إلا إذا أحب العيش، وأنتِ ترين يا أخت أن العيش شر كله، إنني أحبكِ يا أخت فسفادتا فصدقيني، وارضي راحة الخلد.
سمعت الجارية هذه الكلمات، وأيقنت أنها حق فماتت قانعة، وتركت هذا العالم الخيالي قديسة طاهرة.
هذه هي الحكاية التي أعجبتني، وأردت أن يشاركني من يشاء في احترام واضعها، فهي على قصرها تمثل الحياة على نحو ما تصورته طوائف كثيرة من المتدينين والفلاسفة، وتصورها تصويرًا جميلًا يرضاه العقل، ويسر به الذوق، وإنها لتصادف الإنسان أحيانًا في ساعات ضجره من الناس ومن الوجود فيظنها الحقيقة المجسمة، ثم هو يذكرها أحيانًا أخرى في ساعات نشوته وقوته فيراها خيالًا جميلًا، ولكنه بعيد كل البعد عن الحقيقة.
وذلك شأن الإنسان، يصبغ كل ما حوله باللون الذي يرى به الناس، والحوادث، والموجودات، فإن هو كان من الجامدين الذين يبقون عند نوع واحد من أنواع النظر آمن بما يرى أنه حق، وإن كان من المفكرين لم ير فيما يعرض عليه مما يسمونه الحقائق إلا خيالًا جميلًا أو حلمًا لذيذًا. وقد يرى في نظريتين متناقضتين من الجمال أو اللذة ما يجعله يحبهما، ويهتف بذكرهما.