بين النساء من يدفعها طبعها إلى الحماقة حينًا بعد حين وتستنفد جهد شراستها في وقت قليل ولا تستعيده إلا بعد مدة من الزمن فيستريح أهلها. ولكن بين النساء من تعد من أهل الخير والتضحية ومحبة ذويها وهي لا ترفع صوتها في شراسة، ولكنها لا تفتأ طول يومها تنكد حياتهم بصوت منخفض باللوم والشكوى والتأنيب والمخالفة وتذكيرهم أحزان أمس وما قد يتوقع من أحزان غدهم، وتبكي إذا سمعت خبرًا سارًّا، كما تبكي إذا سمعت خبرًا محزنًا، فهي دائمًا بين بكاء السرور وبكاء الحزن. وهذان الصنفان مشاهدان في الرجال أيضًا، وإن كان البكاء أغلب على النساء، فأي الصنفين أثقل على القلب؟ المشاهد أن الناس يفضلون الصنف الأول مهما كانت شراستهم؛ لأنه يعطي معاشريه فترات راحة. من أجل ذلك قد يمدح معاشر الرجل الشرس هذا الشرس فيقول: «قلبه طيب – أو قلبه أبيض» وربما كان السبب أن صاحب الوقاحة والشراسة إذا هدأت حدة طبعه شعر باعتدائه على الناس بهما، فيلين ويلطف، وملاطفته لشدة اختلافها عن شراسته ولأنها غير متوقعة تكون ذات أثر أعظم في النفس ممن ملاطفته الناس أمر معتاد مألوف. أما الملاطفة الممنوعة النادرة فهي تفاجئ النفس مفاجأة سارة كما قال الشاعر (أحب شيء إلى الإنسان ما مُنِعا).
أما الرجل والمرأة من الصنف الثاني فإنهما لدأبهما على الشكوى والتململ واللوم والتذكير بالأحزان يكادان يبلغان بأهلهما إلى درجة الجنون، وأشد من هذين الصنفين الرجل والمرأة اللذان يجمعان صفات الصنفين: شراسة متقطعة وتململًا دائمًا.
للطبيعة لغة، وهي لغة صدق لا تكذب، ولكنا لا نعرف قواعدها فنخطئ إذا حاولنا معرفة معناها، ونحسب أن العين الفاترة الفاتنة الساحرة ذات الأهداب الجميلة الطويلة دليل على الصدق والأمانة، ولكن صاحبتها قد تكون ورثت عينيها عن جدتها، وورثت أخلاقها وطباعها عن مصدر وراثي آخر، فتجمع بين العين الفاترة التي تدعو إلى الاطمئنان، وبين الغش والمكر والخداع والشر. وهذه الفكرة أصدق من قول الفيلسوف الألماني نيتشه في وصف سقراط الحكيم الإغريقي القديم الذي كان ذا وجه شنيع، وكان مشهورًا بالحكمة والعفة والفهم والأمانة والصدق. ولكن نيتشه الفيلسوف الألماني يقول: إن من نظر إلى صورة سقراط يستطيع أن يستدل منها على أنه كان مجرمًا بطبعه، وهذه مبالغة لا مسوغ لها؛ فإن خواطر الإجرام تتردد في كل نفس كما قال فرويد. وقد يكون المجرم شنيع الوجه وقد لا يكون. فقد رأيت في كتاب عن المجرمين صورًا كثيرة لبعضهم جمعت بين الجمال والسماحة والطلاقة؛ فالقبح أو الجمال ليس دليلًا قاطعًا على الصفات النفسية الغالبة.
الصانع الماهر الذي يحفزه ضميره الطاهر يحجم عن صنع آلة غير محكمة الصنع؛ لأنها قد تضر من يقربها أو يستعملها، ولا يعرف الصانع مقدار الأضرار المتتابعة التي تسببها سببًا عن سبب. وكذلك كل إنسان ينبغي أن يتذكر أن عمله قد يكون له نتائج بعيدة غير منظورة. وكذلك أقوال المرء يصدق فيها ما يصدق في أعماله، وربما استحال عليه أن يتحاشى كل عواقب أعماله وأقواله كما أوضح أناتول فرانس فيما اقتبس من نظراته. ولكن استحالة معرفة نتائج الأعمال والأقوال (أي النتائج والعواقب المتتابعة القصِيَّات) لا تمنع من محاولة التبصر قبل القول والعمل – ولا أظن أن مفكرًا في العصور الحديثة كانت لآرائه عواقب ونتائج ومذاهب غير منظورة كما كانت لآراء جان جاك روسو – ولقد قال هنري فريدريك إمييل: كل المذاهب الحديثة المختلفة في نواحي الحياة يمكن إرجاعها إلى روسو. ومن الغريب أن روسو كان حييًّا يحب العزلة وينفر من الاجتماع بالناس. ويسيء بهم الظن. وكان يخشى وينفر من الثورة التي كان يتوقعها ويحاول منعها بالإصلاح. وكان يقدس حريات الفرد إلى أقصى حد كما في رسالته (أسباب تفاوت الناس) ومع ذلك فقد تشعبت مذاهب وعواقب أفكاره ومذاهب معتنقيها أيام الثورة الفرنسية. وهو في كتاب (العقد الاجتماعي) يذكر آراءً يُستطاع بها تقييد حريات الفرد إلى حد كبير، وهذا التناقض أيضًا ظاهر في كتابه المسمى (إميل) في التربية، فهو يريد من المربي أن يترك تلميذه حرًّا يستنتج عواقب ونتائج أعماله بنفسه.
ومع ذلك فالمربي الذي وصفه وأراده كان أحيانًا يتجسس على تلميذه ويهيء له النتائج التي يريدها – ومن أجل ما وصفت من الفرق بين طبع روسو وبين آرائه يخيل لي أنه لو كان عائشًا في باريس أيام حكم الإرهاب لسيق إلى الجيلوتين وأُعدِم لتخلف رجل الفكر عن رجل العمل، وذلك بالرغم من أن حكام الإرهاب كانوا قد اعتنقوا مبادئه.
وبالعكس قد يصاب صاحب الفكرة الجديدة أو المبدأ أو الشريعة لتخلف الناس عنه، وأذكر قصة أظن أنها لدستويفسكي القصصي الروسي، وبها يتخيل أن سيدنا عيسى عليه السلام قد بعث مرة ثانية في أوربا ودعا الناس إلى الأخوة والتعاون والسلم والمحبة فخشي بعض الحكام دعوته وضاقوا به ذرعًا وحاولوا أن يصلبوه مع أنهم على دينه.
إن أعظم حوادث حياتنا تأتي وتروح كما يأتي الليل والنهار والنوم واليقظة والمطر والصحو والحصاد. لا نستطيع تعيين أوقاتها لها كما تشاء، وربما جاهدنا وعملنا، ولكن جهدنا وعملنا قليلا الأثر إذا قيسا بضرورة المقادير التي تعمل عملها وتحدث نتائجها بالرغم منا ومستقلة عن عملنا – ولعل هذا من أسباب ما لوحظ في نظرة في المقال السابق من شدة اعتماد الناس على ما قد يأتي عفوًا وهو غير مضمون الحدوث. ولو أن من أسباب هذا الاعتماد أيضًا ميل النفس إلى تصديق احتمال حدوث ما تود أن يحدث حتى تكاد من شدة هذا الميل تراه حقيقة واقعة. وكذلك تميل النفس إلى تصديق ما تود أن يكون من أحوال غيرها من الناس. ومن صفاتهم إن خيرًا وإن شرًّا وحمدًا أو ذمًّا. وكما أن النفس تميل إلى تصديق ما تود أن يكون حقيقة فهي وإن كرهت حدوث ما تخشى حدوثه، وإذا تملكها الخوف والذعر حتى يصير الذعر مرضًا — تميل إلى تصديق حدوث ما تخشى حدوثه حتى كأنه حقيقة واقعة. ولعل بعض الأمراض من هذا النوع من الوهم الذي سببه الخوف. وهذا الميل النفسي إلى تصديق ما تود النفس أن يكون كأنه حقيقة كائنة هو مسألة سيكولوجية ثابتة. وكذلك التأثر بالذعر حتى تعتقد سببه حقيقة كائنة. وأغرب من هذا وذاك أن الإنسان قد يصاب بأمراض لا من الذعر، ولكن لأنه يود أن يصاب بها، فيميل إلى تصديق ما يود أن يصاب به حتى يصاب، وإنما يود ذلك إما لينال التدليل والإعزاز والعناية والعطف كما هو نصيب المريض. وإما تشفيًا وانتقامًا ممن وكل إليهم أمره كي يكلفهم عناء في رعايته أثناء مرضه. وإما لأنه يشعر في ضميره أنه أراد السوء لمن لم يصبه بضرر فيدفعه ضميره إلى تصديق وقوع السوء بنفسه فيصاب. وكل هذه الأمور تذكرنا قول (جويتي) الأديب الألماني إذ قال: كما أن روما القديمة كان بها فضلًا عن سكانها من الأحياء، سكان من التماثيل العديدة المنصوبة في كل مكان. كذلك هذه الحياة الدنيا يوجد فيها دنيا من الأوهام وعالم من الخيالات، وهي أعظم أثرًا وأتم قدرة في نفوس الناس وحياتهم، وأكثر الناس يعيش في هذه الدنيا الثانية.
لا بد أن يكون في نفوس الناس شيء من كذب السريرة مهما تخلقوا بالعدل والصدق، فإن أفضل رجل إذا حادث إنسانًا لا يود أن يؤلمه يضطر في محادثته له أن يميل قليلًا إلى رأيه ملاطفةً له، أو لعله غير قادر على التعبير عما في نفسه، أو لعله لا رأي له في موضوع الحديث فيجتبي رأي غيره يسد به فراغًا في نفسه. وكل هذه الأحوال كأمواج في بحر الإنسانية، ولا بد أن يسير المرء بسفينته بينها. فمن الحكمة ألا نحقد على الناس من أجل ذلك، وألا نيأس من النفس الإنسانية إذا انقادت بعض الانقياد ودل انقيادها على كذب السريرة.
إذا كانت آلام كفاحنا في الحياة لا تخلف إلا نفوسنا كما كانت قبلها مع ما فيها من تحيز للباطل ومن أثرة وقلة مبالاة عظائم الأمور، فإننا نكون قد تألمنا في هذا الكفاح ولم نربح فضائل أو صفات سامية. ولكن هذا الألم قد يتحول إلى عطف به نكون أكثر قدرة على فهم الأمور، كما تتحول القوة إلى قوة أخرى في علم الطبيعة.
خليق بالمرء قبل أن يحاول فهم الكون كله – وييأس إذا لم يستطع فهمه – أن يحاول فهم ما حوله من الحياة أولًا؛ لأن الزمن كالمال إنما يقاس بمقدار حاجتنا إليه. وهذه الكلمة أوسع نطاقًا من قول الفيلسوف الإغريقي القديم «اعرف نفسك» وقد فسر جويتي هذه الكلمة بقوله إن الإنسان لا يستطيع أن يعرف نفسه بالتأمل الفكري وحده، بل لا بد أن يكون التأمل في النفس مقرونًا إلى العمل وأداء الواجب، وفي أداء الواجب اليومي يستطيع المرء أن يختبر نفسه وأن يعرفها بالتأمل، وقد أعجب كارليل برأي جويتي وأعاد ذكره مرارًا.
إننا كثيرًا ما نعتز بماضي حياتنا حتى ولو تغيرت أفكارنا فتبدل شعورنا، وصرنا إنسانًا آخر بهذا التغير. ولذلك قلما نرضى عن نقد ذلك الإنسان الأول الذي كناه في الماضي بل نلتمس له ما يزكيه كراهة لتخطئة أنفسنا القديمة كل التخطئة، وذلك لأنها بالرغم من كل شيء أساس أنفسنا الحديثة.
قلما تستطيع الأقدار أن تنتقم منا بسلاح من أنفسنا تتخذه ضدنا من تألمنا لما سببنا لغيرنا من الآلام، إلا إذا وصف الناس عملنا في إيلام غيرنا بأوصاف شنيعة، أو إذا خشينا ذلك، فعندئذ يتيقظ ضميرنا ويتيقظ إحساسنا الخلقي ويؤنبنا، وربما كان لا يؤنبنا لولا لوم الناس وتأنيبهم.
كثيرٌ من عيوب الناس وغرائب طباعهم سببها أحزان وأحاسيس وحوادث مثلت بالنفس تمثيلًا، والحياة التافهة غير الثابتة أو الحياة الضالة التي يحياها إنسان والتي نلوم صاحبها عليها قد تكون كحركة الرجل الذي فقد بعض أعضائه وقد تكون نفسه كجذع الشجرة التي قطعت غصونها وأوراقها – وهذا قول مبكر فيما يسميه علماء النفس في هذا العصر العقد النفسية.
إننا نستطيع أن نحس روح الله في كل أمر. ففي الأعمال والمخترعات الكبيرة أو في أعمال الصناعات الصغيرة نستطيع أن نرضي الله بأعمال أيدينا كما نرضيه بأعمال نفوسنا، وأن نعمل الخير ونتقرب إلى الله بالأعمال المنزلية والزراعية كما نرضيه ونتقرب إليه بالصلاة؛ لأن كل عمل يؤدى بصدق وأمانة إنما هو تقرب إلى الله.
ولكن بعض الناس إذا أدوا الصلاة يوم الأحد في الكنيسة حسبوا أنهم أدوا كل واجبهم نحو الله فتستريح ضمائرهم وتجيز لهم أمورًا كثيرة ويعدون الحياة منصبًا مربحًا، أو متجرًا مكسبًا، يدل أن يعدوها واجبًا يقتضي الجهد والتضحية والعمل.
إن قول شكسبير في قصة ماكبيث: إن الإنسان لا يستطيع أن يكون في أمور مختلفة في وقت واحد إنما يراد به الأعمال ولا ينطبق على الإحساسات والخواطر، فإن لحظة واحدة صغيرة أو أقل من لحظة قد يكون بين خاطرة الميل إلى القتل في النفس، وبين خاطرة الرجوع عنه والتوبة والندم. ورب دقيقة واحدة قد تجمع بين النزعة الشريفة والنزعة الدنيئة في النفس. فالحقيقة هي أن النفس الإنسانية لا تجمع بين الأضداد فحسب، بل تجمع بينها فيما يكون أشبه بالوقت الواحد. وهذا ما لا يفطن إليه الذين يحكمون على النفوس بخطراتها ونزعاتها.
فينبغي أن نصحح أحكامنا العامة على الناس تصحيحًا دائمًا مستأنفًا أولًا فأولًا بالخبرة وضرورات الحياة وبما في النفوس البشرية من قهر وإلزام مع مراعاة الواجب المفروض وتنوعه في الحالات المختلفة. فإذا نقدنا إنسانًا نقدناه من غير التجاء إلى الكذب والباطل والمبالغة. وهذه أمور قد تتشرب إلى رأينا: إما عن طريق الشهوات، وإما عن طريق تطبيق أحكام عامة مطلقة وضعها من لا يميز الأمور بالتجارب والخبرة.
كثيرًا ما تدهشنا الشدة ونباغت بها من أناس عرفوا باللين. والسبب في ذلك أن لينهم من اطمئنان إلى عودة وقوع الأمور المألوفة المعتادة. فإذا جاء غير المألوف ارتاعوا وظهر ارتياعهم في شدتهم وعنفهم. ودل ذلك على نقص في خبرتهم لأمور الحياة ونفوس الناس.
يخيل لنا بعض الناس يجدون لذة في حماقتهم وشراستهم وغيظهم حتى إنهم يحرمون أنفسهم من مسرات كثيرة ممتعة، كي يتمتعوا بلذة الحماقة والغيظ.
قد تجتمع في بعض النفوس صفات هي الشدة والشعور بأنها صالحة وحب السيطرة على غيرهم مع ضيق في الفكر والخيال. فإذا اجتمعت هذه الصفات في أناس لم يكن سبب نفورهم من إنسان واضطهادهم إياه تلك المعرفة الممزوجة بالجهل والشك والتي يسمونها الحقيقة. ولكن السبب أنهم في حاجة إلى أن يملئوا فراغهم من الفكر، وأن يسدوا ثغرة في التأمل، وأن يخفوا خلوهم من الحكمة، وأن يشبعوا حب سيطرتهم على غيرهم، وأن يباهوا الناس بصلاحهم، وأن يقنعوا غيرهم به – وهذا إذا كانوا على شيء من الفضل. وقد يكون السبب شعورهم بنقيصة في أنفسهم يقتصون لها بالتشفي وبالكيد لغيرهم، أو يكفرون عنها بانتقاص غيرهم واضطهاده.
ثق إنك إذا رأيت إنسانًا يدعي أنه أطيب نفسًا ممن هم حوله، فهو إما أن له أربًا يخفيه بادعاء ذلك، وإما أن نفسه قد تغلغل فيها الكبر الروحاني ودنس العجب النفسي، وهذان (الكبر والدنس) يختلطان بفضله فيفسدانه كما تفسد العفونة المأكولات.
تنتقل النفس من الصدق إلى الغش في معاملتها لنفسها. ثم ترى الغش خطة ضرورية تسوغها بلباقة، فترى جمال الأعمال وقبحها من نسيج واحد. وكما أن الدول قد تأخذ على دولة عملًا عدائيًّا ثم تذعن لما يسمى في عرف السياسة الأمر الواقع. كذلك النفس تذعن للأمر الواقع منها حتى تفاجأ بالقصاص.
إن الرجل الذي ليست له ثقة بفسه قد يكتسب ثقة بنفسه إذا عاشر رجلًا له ثقة كبيرة بنفسه؛ إذ أن للثقة بالنفس عدوى، ومثل ذلك مثل الذي أصابه البرد يأنس إلى من لفحه الحر ليدفئ نفسه فيقل أثر القر فيه – على أن هذه المعاشر قد تأتي بعكس ذلك إذا خشي الأول أن يقحم نفسه فيما يقحم الثاني فيه نفسه بالإقدام من ثقته بها، وفي مثل هذه الحال إذا لم يجارِ الأول الثاني في إقدامه وثقته بنفسه. يوشك أن تنفصم عُرَى الصداقة والمعاشرة، إلا إذا لم يكن ملزمًا بهذا الإقدام. وإذا أقدم وحيل بينه وبين باعث ثقته ولاقى صعوبات أو خصومات كشف ضعفه. وإنما مثله حينئذ مثل السلك الذي يزود بالكهرباء فإذا فصل عن مصدر الكهرباء فقد قدرته الكهربائية.
إن المرأة مهما كانت معجبة بنفسها لا تشعر بجمالها وحلاوة أنوثتها شعورًا تامًّا إلا إذا أحبها رجل. فإن حبه يزيدها ثقة بقدرة ملاحة أنوثتها، فتتيقظ وتحس إحساسات ما كانت تحسها من قبل. وهذا هو سبب قدرة الرجال على خداع النساء؛ فإن الرجل إذا أتقن تمثيل مظاهر الحب أحست شكرًا له وعطفًا عليه، وهذا ما كان يصنعه لاندرو قاتل النساء في فرنسا، فإنه كان يقنع المرأة أنها ذات جمال وحلاوة أنوثة، فتنقاد له وتطيعه طاعة من نوم تنويمًا مغناطيسيًّا، إذ الإيحاء النفسي شبه تنويم.
في بعض الأحايين ترى سفينة تعجب الرائي وتحسبها محكمة الصنع وتقبل شركات التأمين أن تؤمن عليها، فإذا صادفتها أول عاصفة شديدة غرقت واتضح أن ذلك كان سبب عيب خفي في بنائها، ونقص مستور في تركيبها. وكذلك الإنسان يعجب الرائي فإذا صادف أول محنة أو امتحان لنفسه ولقدرته النفسية أو بدهه خطب لم يتوقعه أو أمر من أمور الحياة مفاجئ غير منظور ظهر من طباعه ما كان خفيًّا وتغير أو تدهور أو تخبط، فيكون حاله كحال تلك السفينة.
يُشَبِّه بعض المؤلفين طبيعة الإنسان بطبيعة الموجودات ويقولون: إن الطبيعة تصلح ما أفسدته بالضياء والماء والهواء وبتجديد النمو، ولكن الشجرة التي قد اقتلعت أو صعقت لا تعود إلى النمو وإن نمت غيرها، والتلال التي بعثرت لا تتجدد وإن نشأت غيرها، فليس هناك إصلاح حقيقي تام في طبيعة الموجودات أو في طبيعة الإنسان.
ويقولون إن الإنسان إنما يجني في الحياة ما يزرع، ولكن هذا ليس كل الحق، فكما أن الإنسان يجني ما يزرع فإنه قد يجني ما لم يزرع، كما أنه قد يجني من النبات والزهر والأشجار ما لم يزرع وما ينمو بنفسه أو بعمل غيره، وهذا يصدق في الخير كما يصدق في الشر.
إذا عظم إحساسنا إلى حد كبير نما الإحساس إلى درجة يخلو فيها من حب النفس الذي ابعثته ويصير نارًا تتطلب كل شيء في النفس وقودًا لها وغذاءً للهيبها. وهذا يفسر لماذا ننكر أن إحساسات المرء وأعماله الصادرة عن إحساساته التي تضره سببها الأثرة وحب الذات غير مدركين أن الإحساس في درجاته المختلفة وحالاته المتغايرة يتغير طبعه وتتغير نتائجه.
قد ننسى أن الإنسان تصيبه عواقب ما يجني غيره وإن لم يكن هذا الإنسان له صلة بالجناية واشتراك فيها. أليس العدل نفسه يعاقب من هم في حاجة إلى الجاني أو لهم به صلة إذا عاقبه، فيعاقب من يعول إذا انقطع عنهم رزقهم بالعقاب، أو يعاقب أقاربهم في سمعتهم وباضطهاد الناس لهم وذمهم بسبب جريمة قريبهم؟!
في أوقات الحزن الشديد تكون فترات تتخللها. وفي هذه الفترات لا يتذكر المرء حزنه، بل يتذكر حادثًا تافهًا لا صلة له بحزنه، كأنما تعفيه طبيعته في تلك الفترات من تذكر حزنه والانشغال به كي يستطيع أن يعاود تحمله، وهو في تلك الفترات لانشغاله بالأمر التافه بدل الانشغال بموضوع حزنه يكون كأنه أصابه بله مؤقت.
أهل الريف إذا كانوا في بقعة منعزلة وحل بأرضهم غريب أساءوا به الظن، كأنه أتى إليهم من عالم مظلم مجهول كالعالم الذي تهاجر منه الطيور شتاءً إلى أرض الدفء والنور؛ ومن أجل ذلك يتوقعون من ذلك الغريب أي شيء غريب مهما كان عمله وقوله مطابقًا للمألوف، ومهما صدر من نفوسهم مما يخالف العرف المألوف، فإذا ارتكب إثمًا أو جنى جناية بعد زمن طويل وبعد مزاولة الخلق المألوف زعموا أن ذلك مصداق لما توقعوا منه من أول الأمر. فالذي يولد بينهم يكتسب بولادته شيئًا من الثقة به والألفة له، أما من لم يولد بينهم فكأنما ولد وجاء إلى هذا العالم في نظرهم بطريقة غير طبيعية مثل طرق الشعوذة، وحقيقة هذا الحذر من المجهول مشاهدة حتى في نفوسهم الناس إذا حذروا ممن ينقطع عن زيارتهم ومعاشرتهم أو مجالستهم، ولعلها ناشئة عما في النفوس البشرية من أمور مجهولة ومن غريزة تمكنت في النفوس من قديم الزمن من عهد الكهوف وسكانها، ومن عهد كان كل إنسان يخشى كل إنسان ويصون حياته بذلك الخوف.
إن بعض ما يسميه الناس خيالًا إزراءً به قد يكون تعلقًا بحياة أتم وأعظم وبحقيقة متوقعة في المقبل من الدهر، فبطولة الواحد الفرد أو الآحاد القليلين التي لا تؤثر أثرًا كبيرًا قد يعدها الناس تعلقًا بالخيال، ولكننا نخطئ إذ نقسم البطولة الإنسانية وهي متصلة مهما خفي اتصالها وكل منها قدوة. وهذا الخطأ كالخطأ في تقسيم وحدات الجيش إلى آحاد أو في تقسيم أشعة الضوء محاولة لمعرفة قدرة الجيش أو الضوء.