جورج إليوت هو الاسم الذي اشتهرت به ماري إيفانز الكاتبة الإنجليزية الشهيرة، وقد اشتهر من الكاتبات الأوروبيات كثيرات، وربما كانت لبعضهن شهرة عالمية أكثر من شهرتها، ولكن الفحص والتمحيص يدل على أنها من غير شك أعمق بصيرة وأغزر فكرًا وأرجح رأيًا وأعظم خيالًا من مدام ده سافيني، أو مدام ده ستايل، أو جورج ساند، أو جين أوستن أو غيرهن. ويمكن تقسيم مؤلفاتها الهامة إلى أربعة أقسام: القسم الأول يشمل القصص التي تشرح فيها صفات نفوس من حولها من الناس، وهذه الكتب مثل أموس بارتون، وآدام بيد، وسيلاس مارنر وغيرها هي أكثر كتبها رواجًا بين القراء الإنجليز؛ لأن موضوع كل منها أقرب إلى أذهانهم، ولأنها أسهل أسلوبًا. والقسم الثاني من مؤلفاتها يشمل قصة رومولا التاريخية التي تصف فيها عهد إحياء العلوم في إيطاليا بمحامده ومكارهه. والقصة التاريخية أشق وأصعب في تأليفها؛ لأنها تحتاج إلى دراسة ذلك العهد ونقد ما يذكر عنه وتصوره ببصيرة نافذة. وقصة (رومولا) من القصص التاريخية الكبيرة التي يصح أن تحتل مكانًا ما بين أزموند لثاكري، وسان أنطوان وسلامبو لفلوبير وتاييس، والآلهة ظمأى لأناتول فرانس وبعض القصص التاريخية الشهيرة الأخرى. والقسم الثالث من مؤلفاتها قصة مدلمارش، وقصة دانيال ديرواندا، وهي لا تقل فيها بصيرة، ولكنها تبعد عن النفوس المألوفة حولها التي وصفتها في القسم الأول، كما أن عادة الاسترسال في الفكر تغلب عليها ويغلب عليها الأسلوب الفكري. والقسم الرابع من مؤلفاتها رسائل ثيوفراست دعتها باسم فيلسوف إغريقي قديم، وهي وصف لخصائص أخلاق الناس على نمط لابرويير. وهذه الكاتبة — فضلًا عن أنها درست ثقافات الأمم المختلفة كما يتضح من قراءة مؤلفاتها — فإنها وارثة بصيرة شكسبير وهنري فيلدنج القصصي الإنجليزي على اختلاف ما بينها وبينهما. وكثيرًا ما تذكرنا مقدمات فصول توم جونز لهنري فيلدنج — وهي على شكل رسائل وبحوث في النفوس بآثار هذه الكاتبة، ويصح جمع كلمات عديدة من مؤلفاتها لا تقل عن كلمات عظماء المفكرين من الرجال.
كما يتضح من نظراتها الآتية:
إذا أساء إلينا إنسان ثم خاب في أمر لا صلة له بإساءته أو خاب في أمور حياته عامة أحسسنا كأن خيبته في أمور حياته بسبب إساءته إلينا. كأن نظام الحياة لا يستقيم ما دام قد أساء إلينا إلا بخيبته، وكأن تلك الخيبة نتيجة طبيعية للإساءة إلينا. وهذا الإحساس يشتد أعظم ما يشتد في نفوس ذوي الأثرة والجهل. ولعل سببه أن المساء إليه من غيظه يريد الانتقام، فيتخيل أنه قد أصابت المسيء مصيبة فإذا حلت به مصيبة سهل عليه أن يحس كأنه قطب الدنيا ومحور العالم وكل من يسيء إليه — إذًا — يكون كأنه خارج على نظام العالم، فلا غرو إذا خاب وفشل!
وقد يكون الإنسان فظًّا قاسيًا في نقد الناس وأعمالهم، ومع ذلك قد يكون رقيق الحاشية والطبع من أسرته. وبعض الكتَّاب كان بيده اليمنى يصول بقلم يقطر سمًّا وهلاكًا في نقد إنسان آخر، وبيده اليسرى يهز أرجوحة طفله الصغير بحنان ورفق … وهذا يذكرنا هيبير مندوب المجلس البلدي بباريس أيام حكم الإرهاب. وهذا الفارق يعظم أيام الاضطراب والثورات. وقد وصف الدكتور كابانيه في كتابه لنفروس رفليوسنبر كيف أن الإنسان الرقيق الطبع الوديع الأخلاق قد ينقلب ويصير وحشًا ضاريًا إذا كان في جماعة تحبذ أقواله وأعماله القاسية. وفي هذا مصداق النظرة التالية لجورج إليوت وهي:
عندما نخدع الناس أو نسيء إليهم ونحن وحدنا قد نتردد ونتحرج من بعض أساليب الخداع أو الشر ونأنف منها ونخشى اللوم ولا نريدها إلا للضرورة القاهرة فإذا اجتمعنا والناس واتفقنا معهم في تلك الأساليب ووجدنا منهم تحبيذًا لها تسلطت أساليب الخداع أو المكر أو الشر والإجرام علينا، ولم نشعر بصعوبة في ارتيادها ما دام الناس معنا، وهذا ما وصفه وضرب له الأمثال الدكتور كابانيه في كتابه عن الاضطراب الثوري وأثره في النفس والجسم.
إن الإنسان قد تكون نظرياته ومبادئه مخطئة، ولكن إحساساته وأعماله نبيلة كما يصدق العكس، فقد تكون نظريات المرء ومبادئه وعقائده سامية نبيلة فيما تكون أعماله بالضد من ذلك. ومن أجل هذا الخلاف ينصح النقاد للمؤرخ أن يميز بين مبادئ رجال التاريخ وبين أعمالهم. وهذه نصيحة واجبة لكل إنسان في الحياة اليومية أيضًا، إذ كثيرًا ما يخطئ فيظن أن مبادئ المرء وإحساساته وأعماله كلها من طراز واحد، وهي أصناف مختلفة.
إن ذوي النقص والعاهات في حاجة إلى فضائل ومزايا تزينهم؛ لأنهم يشعرون بقلق إذا لم تكن لهم إلا عاهاتهم، أو كان لهم نقصهم وحده. ولكن الفكرة التي تجعل الفضائل أو الفضل بدلًا لهم ووقاية كما تقي الطبيعة الحيوانات في الشتاء البارد بفرو كثيف – فكرة مبالغ فيها مبالغة كثيرة، إذ كم من أناس من ذوي النقص أو العاهات لا فضل لهم ولا فضيلة إلا أن يكون الفضل ومزايا النبوغ كامنة في النفس تظهرها الحوادث سواء أكانت عاهات أم لم يكن نقص – فمن الذي يستطيع أن يقطع بأن ذكاء زياد بن أبيه وفصاحته وقدرته في تصريف الأمور كلها كانت بسبب مطعن أو مغمز في نسبه ولم تكن هبات طبيعية في نفسه. ومن أجل ذلك يخطئ بعض العامة خطأ أوليًّا في علم المنطق فيقلبون هذه الفكرة ويجعلون الفضل على عاهة أو نقص. وهذا يذكرنا بعض الشواهد التي تصف هذا الخطأ في علم المنطق كمن يقول مثلًا كل القططة حيوانات. فإذًا كل الحيوانات قططة، وقلب الفكرة لا يجوز في علم المنطق.
من الغريب أن الناس كثيرًا ما يتعجبون لحدوث شيء هم الذين عملوا لإحداثه، كما يتعجبون إذا لم يحدث أمر لم يصنعوا شيئًا لإحداثه، كالآباء الذين يتعجبون من جهل أبنائهم وقلة تربيتهم وهم السبب؛ إذ لم يحزموا أمرهم لتربيتهم، والأزواج يتعجبون لفقدانهم المحبة وانقطاع أواصرها بين الزوج وزوجه ولم يعملا لتهيئة سبيل بقائها، والجيران يتعجبون من نفور جيرانهم منهم ولم يعقدوا أواصر المودة معهم.
ما أشد اعتماد الناس على ما قد يأتي عفوًا، فإذا عمل المرء عملًا يحط من كرامته تعلق باحتمال عدم ظهوره، وإذا أسرف تشبث باحتمال الكسب من وجه آخر غير منظور ولا محتمل، وإذا أساء تنظيم عمله تمسك باحتمال أن إساءته تنظيم عمله ليست هامة لنجاحه فيه، وإذا خان صديقه اعتمد على أن الصديق قد لا يعرف خيانته له. وعاقبة ما نزرع من بذور تلك الأوهام الباطلة في الاعتماد على الأمر المرغوب فيه الذي هو غير محتمل الحدوث إنما تنتج محصولًا باطلًا ومحالًا من نوعها. وليس الجهلاء وحدهم هم الذين يتشبثون بالمحال المرغوب فيه؛ فقد قال مارمونت وغيره: إن نابليون بونابرت في أواخر أيام مجده كان مهما صححت له الحقائق يعود إلى ما حسبها قبل تصحيحها.
ما أشد إلحاح الرغبات الإنسانية، فإذا تملكت النفس رغبة لا يغنيه أن تقدم له ما هو عوض عنها من أمر آخر ولو كان مثلها أو خيرًا منها. وهذا مشاهد في تشبث الأطفال بالأمر غير المرغوب فيه، كما هو مشاهد في تشبث الكبار.
الشعور بالأمن يكون ناشئًا عن العادة أكثر مما يكون ناشئًا من الأدلة والاعتقاد؛ ومن أجل ذلك كثيرًا ما يوجد الشعور بالأمن إذا اعتاده الإنسان حتى بعد زوال الأحوال التي جعلته عادة وصيرت الإنسان يسكن إليه ويطمئن، فإن منطق العادة يغلب على ذهنه، ويرى أن الخطر محال حدوثه مع أن مرور الزمن قد يكون السبب في حدوثه. ومثل ذلك مثل الرجل الذي يكون سقف بيته آيلًا إلى السقوط، فإذا لم يسقط وتعوَّد الأمان حرمته تلك العادة من أن يرى في مرور الزمن ما هو كفيل بإيهانه وإضعافه وسقوطه، وقس على ذلك كل أمور الحياة.
إنها قاعدة عامة وهي أنه لا بد للنفس من أمر خفي غير موثوق به كي يُغَذِّي أملها وشكها وعملها، فلو انكشفت لنا أمور المستقبل لما علقت النفس بها ولأسرعت بأملها وعملها وشكها وشعورها إلى غير المستقبل المكشوف المعروف … وهذا الرأي أصح حجة من تعجب كعب بن زهير من سعي الإنسان وعمله مع أن القدر مخبوء عنه، وذلك في قوله:
لو كنت أعجب من شيء لأعجبني
سعي الفتى وهو مخبوء له القدر
إذا تحمل أحد الناس غضبنا بسكوت وطيبة قلب وعطف، فإننا إذا سكن غضبنا قد نشك بسبب مسلكه معنا وهدوئه في مداراة غضبنا في أننا كنا على حق، ونشك في أن معاملتنا له كانت معاملة لائقة، ويزداد هذا الشك والأسف إذا مات من تحمل غضبنا بسكوت وطيبة قلب، وذهب إلى عالم الصمت الأكبر.
قال يوليسس في قصة ثوفوكليس: دعنا مرة واحدة نرتاد سبيل المكر والكذب والاحتيال والشر إلخ ثم نعود بعدها دائمًا أبدًا إلى سبيل الصدق والشرف في العمل والفكر والوسيلة، وهذا كثيرًا ما تقوله النفس في باطن نفسها استدراجًا لها ومخادعة، فتستمر في الكذب والمكر والشر أكثر حياتها بعد أن كانت توهم نفسها أنها مرة واحدة صغيرة ثم بعدها مرة أخرى صغيرة إلخ.
كل عمل مذموم يستدرج صانعه إلى أعمال وأقوال عديدة مذمومة كي يزكيه ويسوغه، وكي يزكي ويسوغ الأعمال المذمومة التي يزكيه بها. وتستمر تلك العدوى في نزعات النفس ورغباتها فإذا أثم المرء لم ينته إثمه بعمله، ولا تنقطع سلسلة آثامه، إلا إذا اعترف بخطئه أو إثمه، فلا يحتاج إذًا إلى شرور كي يزكيه. وإذا ظلم إنسانًا لا يقنع حتى يزكيه بظلم آخر. وهذا يذكرني ما صنعه أحد الكرادلة الذي نقم على رجل نقده فاتهمه بالكفر بالمسيحية في عهد كان جزاء من يتهم به الحرق. ولم يكتف بذلك بل إنه صهر في النار صليبًا من الحديد وقدمه إليه كي يتوب ويقبِّله وكان الرجل موثقًا فنفر من ألم حرارة انصهار الصليب وزوى وجهه عنه. وإنما فعل عدوه ذلك كي يقال إنه نفر من الصليب بكفره بالمسيحية، إذ كان الناس لا يعرفون أنه وضع الصليب الحديدي في النار. وهكذا زكى هذا الكردنال إثمه الأول بإثم ثانٍ — على أن تزكية العمل المذموم أو القول المذموم بعمل أو قول آخر مذموم أمر مألوف كثير الحدوث في الحياة اليومية.
كثيرًا ما نخدع أنفسنا حتى نصدق أن أثرتها في معاملة الناس كانت تكون أقل قسوة وأكثر إنصافًا وأبر بهم وأعدل لو أننا عرفنا حقيقة حالتهم، ولكن إيثارنا الرفق لا يقوى إلا بعد فوز أثرتنا ونيل أنفسنا ما تريد لا قبل الفوز به. وقد تعرف النفس حالة من تعاملهم، ولكنها تتناساها حتى تنساها، وتتجاهلها حتى تجهلها، مغالطة من النفس للنفس، كي تدعي أنها كانت أرفق وأبر وأعدل، على أنه بالرغم من هذه المغالطة فإن الفوز قد يزيدها أثرة وعنفًا وقسوة وظلمًا.
بعض الأخيلة التي نُخدَع بها إنما نُخدَع بها ونحن نشعر بذلك الخداع، واللذة فيه كاللذة التي نجدها في رؤية مجموعات الألوان التي تُصنَع من قطع الزجاج الملون فتتخذ أشكالًا بديعة في الفانوس السحري. وكما أن الطفل يلذ له أن يلعب لعبة أساسها خداع النفس بالأمور وحقائقها حتى يصير لعبه جدًّا، كذلك العاشق يلذ له أن يخدع نفسه وهو يعرف أنه يخدعها. وهذا يذكرنا قول أبي نواس:
صار جدًّا ما مزحت به
رُبَّ جد ساقه اللعب
لعل السبب في أننا كثيرًا ما نخيب في أن نعزي معاشرينا في مصاب أصابهم ونسليهم عنه أنهم يشعرون ونحن نعزيهم بحبنا لأنفسنا، وأننا إنما نفكر في كل ما يهمنا من مطالب أثرتنا. وهذا لا يمنع أن تكون ممزوجة بشيء من العطف على الناس في مصابهم وإن كانت هي الغالبة. وبالرغم من أن كل إنسان يعرف ذلك في نفسه، فإنه إذا أصابه خطب أو مصاب أمل أكثر من ذلك من غيره وتوقع مشاركة أعظم منه في مصابه او خطبه.
الحياة اليومية هي محاولة كل إنسان أن يخفي نفسه عن معاشريه وراء كلمات وأعمال مزيفة، وهؤلاء المعاشرون أشد بعدًا عن المرء من نفسه وخواطرها وما بها من شرور لا تنطق بها، ولا تبين عنها، وقد لا تعملها، ومن خير كثير قد لا تصنعه. وكثيرًا ما نفكر في عمل آثام لا نستطيع أن نعملها، كما نفكر في صتع أعمال من أعمال الخير أو اللباقة أو المهارة لا نستطيع عملها. فخواطرنا قد تكون أسوأ أو أفضل منا. وقد علل سمرست موام القصصي اتهام الأتقياء الأبرار الأخيار أنفسهم أو توقعهم العقوبة في الآخرة بخواطر السوء التي تتردد في النفس ولا تصنع صنعًا، كما أن بعض الناس قد يمدح نفسه بسبب خواطر الخير التي تتردد في نفسه ولا يعمل شيئًا لتحقيقها.
كما أن الشاب المملوء صحة وحياة ونشاطًا يصعب عليه أن يدرك الموت كل الإدراك، وأن يحس وطأته مهما رأى من مظاهره. كذلك يصعب عليه أن يدرك الشقاء الكارث وأن يحس بوطأته. وهو يؤمن في سريرة نفسه أن المقادير لا بد أن تنجي شبابه وصحته ونشاطه وحياته منه حتى ولو كان ذلك في آخر لحظة قبل أن يكرثه. ولعل هذا الإحساس هو سبب استهتار الشباب أو شجاعته واستهانته بمعضلات الحياة.
مما يساعدنا على أن نعمل في الحياة عملًا قليلًا طيبًا أننا لا نعرف ما في سرائر أصدقائنا ومعاشرينا عنا مما يثبطنا، وليس في الحياة مرآة تعرفنا حقيقة أنفسنا فنطمئن. وهذا الاطئنان يجعلنا نظن أننا نعمل عملًا كبيرًا عظيمًا، فنستطيع بذلك أن نعمل ولو عملًا صغيرًا طيبًا. وكما أن الطفل الصغير الذي لم يتعود نظره الصغير بعد قياس المسافات، كثيرًا ما يصطدم بالأشياء، كذلك الإنسان الذي لم يختبر أمور الحياة بفطنة يحسب أن مكانته في الحياة مكانة كبيرة وهي صغيرة جدًّا، ويصطدم بالعراقيل كما يصطدم الطفل الصغير بالأشياء إذ لم يتعود بعد قياس المسافات بنظره.
كثيرًا ما يسوغ المرء أمورًا غير سائغة ولا جائزة بتغيير أسمائها، فيسمي اضطهاده الناس مقاومة، أو الخرق والهوج إصلاحًا وتجديدًا. وقس على ذلك جميع أمور الحياة التي لا تسوغ، فبتغيير أسماء الأمور يستطيع المرء أن يعمل ما هو حبيب إلى نفسه وإن كان شرًّا مكروهًا.
ليتذكر المرء إذا أقدم على عمل أن الحياة كعملية حسابية لا يستطاع عملها مرة ثانية لتصحيحها وتلافي أغلاطها، كما لا يستطاع تصحيح عمل الطرح بأن يعمل عمل الجمع في الحساب صحيحًا.
إن الناس قد يرحمون الميت وقد يزكونه. وطالما كانوا يرون من الواجب المفروض سحق قلبه ما دام ينبض، وقهر عقله ما دام يفكر، فإذا سكنا سكون الموت فلا بأس من الإحسان إليه بكلمات مزيفة وإحساس بالرفق مصطنع.
إن تخدير النفس بتجاهل الحقائق حتى تجهلها، حالة نفسية تختلف كل الاختلاف عن حالة السكينة والاطمئنان مع معرفة الحقائق معرفة تامة. ولكنا كثيرًا ما نخلط بين الحالتين.
أول ما يصيب المرء الخَطْب أو الضيق قد تستفزه الإصابة المفاجئة فتكسبه قوة مؤقتة لا تزول حتى يصير الحزن والخطب عادة ونيرًا.
بعض الناس لا يستطيعون تحمل حتى القليل من الإهانة إلا إذا استطاعوا أن يغمضوا أعينهم عنها، أو أن يتمكنوا من الامتناع عن تصديقها ومعرفتها والإقرار بها والفطنة إليها ومغالطة أنفسهم فيها. فإذا لم يستطيعوا إلا مواجهتها ومعرفتها كانت حياتهم عبئًا ثقيلًا ربما لا يقدرون على حمله، مع أن كل إنسان لا يخلو من أمثالها في الحياة.
إن بعض ذوي النجاح وإن كانوا معروفين بسلامة الطوية والنية قد يجدون لذة في إيقاع الشر ببعض الناس إذا كان عمله سهلًا ولا يعوق أعمالهم الناجحة. وكأنما يصنعونه على سبيل اللهو أو الفكاهة أو التنفيس عن خطرات كامنة في نفوسهم أو لإثبات قدرتهم. وهذا الرأي يذكرني بقصة لسمرست موام عن تاجر إنجليزي في اليابان كان ناجحًا وكان معروفًا بين أهله ومعاشريه بطيبة القلب، فطلب منه أحد الخُيَّاب من بني جنسه أن يجد له عملًا يرتزق منه، وكان هذا الخائب في شبابه مشهورًا بالسباحة في البحر قبل أن يصيب الدهر من قوته، فاشترط التاجر عليه أن يسبح مسافة طويلة في البحر في مكان شديد التيار، فإذا فاز ألحقه بعمل يرتزق منه. ولكن الرجل هلك في أثناء سباحته، وعندما سأل سائل التاجر عن سبب اشتراط هذا الشرط قال مبتسمًا: الحقيقة هي أني لم يكن عندي له عمل، أي إنه كان يعرف أنه هالك لا محالة، وأنواع هذا الشر من أهل النجاح وأمثاله كثيرة الوسائل … وإذا أصاب النجاح خائبًا عفوًا من غير جهد كبير منه حقد عليه أهل النجاح الذين كادوا واحتالوا للنجاح وعدوها قسمة ضيزى، مع أن نجاحه قد لا يؤثر في نجاحهم ولا يقلل منه. وإذا كان هذا الحقد والحسد شأن ذوي النجاح فكيف بما يعانيه التعساء المحرومون.
من السعادة أن يعود المرء نفسه أن يعيش معها بدل أن يشرئب دائمًا إلى اعتبار الحياة سوقًا يرتاده الناس للتفريج عن أنفسهم برؤية المعروضات. وبَعضٌ لم يعود نفسه أن يعيش معها لا يطيق عشرة نفسه. وهذا من أسباب الحاجة إلى المصادقة والمصاحبة.
كثيرًا ما نعمل عملًا فلا نرى من الناس ارتياحًا إليه أو اقتناعًا به أو إعجابًا. ولا يثبطنا ذلك، ولا يصرفنا عن عمله، بل نحسب أن سبب عدم ارتياحهم واقتناعهم قلة ما صنعنا منه، فتثابر على عمله توقعًا لظهور ارتياح الناس إليه واقتناعهم به وإن كان غير مقنع.
قد يتوقع المرء حدوث الأمر المحال وهو يؤمن إيمانًا تامًا أنه سيحدث. ولا فرق بين هذا وبين الجنون إلا أن الحوادث قد تبدد ذلك التوقع والإيمان، ولا تبدد الجنون.
إن الطبع الذي يميل دائمًا إلى السيطرة والتحكم حتى في الأمور التافهة الصغيرة لا بد أن يكون به جانب من الضعة والحقارة ويخفيها بذلك التحكم.
بعض اللغات قد تكون فيها طلاوة وحلاوة لا يشعر بها من يقرؤها، كذلك بعض الوجوه قد تعبر للرائي عن أكثر مما في أنفس أصحابها من معانٍ.
عندما يريد الناس تصديق الأكاذيب أو إذاعتها حتى يصدقها غيرهم يقولون:
لا دخان من غير نار … ومثلهم مثل الذي يعكر الهواء بدخان (بيبته) أو نرجيلته أو لفافة تبغه ثم يحسب أن الدخان والنار من عند غيره وهي من عنده، والأكاذيب أو النقائص التي يراد تصديقها في نفسه.
المصلحون يشعرون بسرور في كل إصلاح، ولا يعطفون على النفوس التي تأسف مع ذلك لما يصيب كثيرًا من الناس في كل إصلاح من ضرر وألم وشقاء بسبب انتقال الأمور من حال إلى حال عند الإصلاح. والمصلحون لا يقتصرون على حرمان تلك النفوس من العطف، بل إنهم قد يعدون أسفها على من نالهم الشقاء بسبب الإصلاح، خلافًا لهم في الرأي والمبدأ، أو خيانة لعهد الإصلاح فيشركونها في الشقاء أو الإعدام.
لا يستطيع العامل صنع عمل جليل شبه معجز إلا بإيمانه بنفسه، وأكثر إيمان العامل بنفسه مستمد من إيمان الناس به أو إيمان طائفة كبيرة منهم، ولكنه إذا فقد إيمان الناس به، لا يلبث إيمانه بنفسه أن يزعزع مهما كان عظيمًا، إلا إذا كان قليل الإحساس لا يلتفت إلى حقائق العالم. على أن العامل قد يكون هو الذي خلق إيمان الناس به في أول الأمر.