كان سويفت إنجليزيًّا ولد في أرلندة وعاش بها في صباه ثم عاد إليها في أواخر أيامه ومات بها. وقد كان فقيرًا فأكسبه الفقر غيظًا وشعورًا بالنقص كان يخفيه بالكبرياء عندما نبغ وعاشر العظماء والوزراء. وقد عاش مدة في إنجلترا أشبه بكاتب للسير وليام تمبل السياسي الإنجليزي. وقد استشهد ثاكري في رسالته عنه برسائل سويفت التي تذلل فيها للسير وليام وأظهر أن ضرورة هذا التذلل كانت تحز في نفسه وقلبه وتزيد من شعوره بالنقص. ولكن ما كولى في رسالته عن السير وليام تمبل وصف كيف أن سويفت قد استفاد علمًا من مكتبة متبوعه كما استفاد خبرة عملية من معاشرة رجلًا تقلب في مناصب مختلفة واكتسب خبرة بالحياة والناس. وقارن ماكولى بين الدكتور صمويل جونسون الأديب الإنجليزي والكاتب الشهير وبين سويفت فقال: إن آراء الأول مكتسبة من الكتب، أما آراء سويفت فهي مؤسسة على الخبرة بالحياة. وقد خدم سويفت وزراء حزب المحافظين أولًا بقلمه، وكان يأمل أن ينصب أسقفًا في الكنيسة ولكن الملكة رفضت ذلك؛ لأنه في بعض كتبه يسخر برجال الدين وطوائف الكنيسة وينقد حزازاتهم واختلافهم في أمور تافهة. وأشهر مؤلفات سويفت كتاب أسفار جاليفار يطالعه الصغار لغرابة قصته والكبار لما فيه من نقد لحياة الناس. وقد خولط في عقله في أواخر أيامه، وقلما سلم منه صديق لحدة طبعه. وبالرغم من تلك الحدة أحبته امرأتان: وهما التي رمز للأولى باسم ستيلا، والثانية باسم فانيسا. وقد قال ثاكري: إن انهيار عقله في آخر حياته كان مثل انهيار دولة كبيرة، ويقول سير والترسكوت: إن فانيسا ماتت غمًّا بسبب زواجه سرًّا من ستيلا، ولو أنه من المعروف أن فانيسا ماتت من السل، وقال ناقد: إن سخر فولتير كان مثل وخز سلاح المبارز؛ أما وخز سويفت فكان أشبه بوقع فأس القاتل. وقد اتخذ من سخر عبقريته وشدته في القول السياسية مقالة أدبية مرهوبة؛ لأنه أكسبها رائع الأسلوب، كما أكسبها الخيال والأدب والفكر والسخر والشدة. ولكن شدة سخره كما تظهر في المقالات السياسية كمقالات دريبر التي يقترح فيها على سبيل السخر بخصومه من الوزراء طهي أطفال الأرلنديين وأكلهم ويَفْتَنُّ في وصف طهيهم. كذلك تظهر شدة سخره في وصف ياهو المخلوق القذر في كتاب أسفار جاليفار وقد رمز به إلى الإنسان وفي مواضيع أخرى كثيرة. وقد قارن فولتير بين رابليه الساخر الفرنسي وبين سويفت فقال: إن كليهما ذو بصيرة وفطنة، ولكن رابليه كان يحب الحياة والناس، أما سويفت فكان يكره الحياة ويحتقر الناس.
وحب رابليه للحياة سواء أكان حبًّا للذات الجسم أم كان حبًّا للذات الفكر، أمر مشهور تفيض به كتبه. وكان يحارب به الرهبنة في المسيحية ونظرها إلى الحياة والفكر. ويمتاز سويفت بأنك لا تجد حرفًا أو كلمة يصح حذفها في قوله. أما رابليه فقد كان أسلوبه غزير المترادفات وأشباهها فكأنه في غزارته السيل المتدفق أو النمو النباتي الغزير. وكما أن كليهما قد يعوق السير فكذلك قد يعوق إتمام قراءة رابليه ما به من غزارة الكلام وكثرة الإشارات إلى أمور غامضة كانت معرفة في ذلك العهد البعيد. إلا أن قراءة كتبه تجنب الحياة وتدعو إلى الأمل وإلى الرغبة فيها. أما كتب سويفت فقد تدعو إلى احتقار البشرية واليأس من الناس.
ولكن هذا لا يقلل من رصانة تفكيره كما يتضح في النظرات الآتية التي نوردها مع التعقيب عليها:
قد يكثر الناس من الأعذار والأسباب حتى ينتحلوا الزائفة منها فيضيفونها إلى الوجيهة؛ ظنًّا منهم أن كثرتها تزيد الراجحة الوجيهة رجاحة ووجاهة. وهم قلما يفطنون إلى أن زيف الزائفة ينتقص من رجاحة الراجحة، ويدعو إلى الشك فيها، وهذا أمر شائع يضيع الناس به حجتهم ويطلبون حقهم، وإن كانوا على حق، وكذلك الضعيفة من الحجج تضعف ما أضيفت إليه من الحجج القوية، ويحسبون أن كثرتها تقنع المفكر فيها، ولكنه إذا فطن إلى ضعف الضعيفة ربما خالجه الشك في غيرها. وقد يحسب الناس قوة الأخيرة من بلاغة صاحبها أو مكره واحتياله، فإذا وثق السامع من بطلان بعض الأسباب أو ضعفها أبى الاقتناع كل الاقتناع بالسليمة، وتحرز من قبولها كل التحرز. وهذا مثل أن يتضح للسامع كذب بعض القول، فيشك فيه كله أو يرفضه أو يحكم ببطلان الصدق لجناية الكذب الذي أضيف إليه.
مهما عظمت المنافع التي استفادها المرء منك فإنه قد يحقد عليك إذا كانت له شهوة ظلم أو حقد أو بغض لإنسان ولم تعنه على ظلم ذلك الإنسان أو على إيذائه أو انتقاصه ولم تساعده على التشفي منه، فإنه يعدك ممالئًا له وإن لم تكن ممالئًا، ويراك خاذلًا لنفسه كأنك خذلته في الخير والعدل. فإن الشهوات لا تنصف ولا تتذكر خيرًا استفادة منك صاحبها ولا تأبه لما يفرضه عليك العدل من الامتناع عن ظلم الناس وإيذائهم. فكأن ما أسديت إليه كان نفعًا زائفًا وأمرًا مدلسًا — ويدهش الناس لو فطنوا إلى حد ينقادون إلى مثل هذا الإغراء بالشر والإلحاح في الحث عليه، وهم ينقادون إما خوفًا أو طمعًا أو كسلًا أو استهواء أو شهوة أو جهلًا أو ما شابه ذلك. وبعضهم يحسب الانقياد إلى الشر ضرورة لا مناص منها مع هذا الإلحاح وإن كرهها أو ادعى لدى نفسه أنه يكرهها أو كان يهاب عاقبتها، وربما ينقاد إليها وهو لا يسوغها فقنع نفسه بالباطل أنه إنما انقاد إلى ضرورة من ضرورات الحياة التي لا مناص منها، وربما غالط نفسه وعد انقياده إلى الإلحاح على عمل الشر والأذى من ضرورات الحياة التي لا مخرج منها ولا مناص كي يطلق لنفسه العنان لإشباع نهمتها الغريزية في عمل الشر ولتسترسل فيما هو حبيب إليها منه. والإنسان قلما يتجنى أو يعمل الشر بإلحاح مغر أو بغير إغراء وإلحاح إلا وهو يعد لنفسه الأعذار كي يستريح إما من تأنيب الناس وإما من وخز الضمير.
أكثر الناس عندهم من الإيمان والدين القدر الذي يغريهم بكره الناس لمخالفتهم إياهم في أمر من الأمور، وليس عندهم القدر الأعظم من الإيمان الذي يغريهم بحب الناس — فترى الناس يضطهد بعضهم بعضًا، وقد يكون هذا الاضطهاد خشية عدوى آرائهم وأعمالهم، أو الأذى. وهذا يذكرنا بقصة (العذاب بالأمل) لمؤلفها فيلييرده ليل آدم الفرنسي. وفيها أحد رجال الكنيسة من أعوان محكمة التفتيش يعذب الناس وتكاد تذوب نفسه إشفاقًا عليهم ورحمة لهم، إذ لم يعذبهم كي يطهرهم بالعذاب، ولم يكتف بالعذاب المادي بل كان يعذب السجين بالأمل، فيترك له باب سجنه غير موصد كي يطمعه في الهرب، فإذا أوشك الرجل أن يهرب وينجو من العذاب دلف إليه واعتنقه واحتضنه رحمة له وعاتبه برفق لرغبته في الهرب من التطهير بالعذاب والألم وقلبه يكاد يذوب إشفاقًا عليه من تلك النجاة. وهذا يذكرني قول الشاعر:
فكنتِ كذبَّاح العصافير جاهدًا
وعيناه من وجد عليهن تهمل
وهذه القسوة الموصوفة في القصة قسوة ممزوجة بهستريا الرحمة، ولكن أكثر النفوس في قسوتها في الحياة لا تحتاج إلى مزيج من هستريا الرحمة الكاذبة.
كثيرًا ما يخطئ ويخيب ذوو الفكر في أمور الحياة العامة حيث يصيب النجاح من قل عقله وفكره فإن شدة تصور ذوي الفكر وإدراكهم جوانب الأمور واحتمال ما يكون، وحدة ذهنهم في بحث تفاصيل الأمر صفات قد تدعو إلى الحيرة والارتباك والتواني وإلى الشطط عن القصد في أثناء تلمسهم جوانب الفكر في الأمر، بينما يمضي الرجل الذي لا يفكر كثيرًا إلى ما يكلف عمله فيعمله عملًا متقنًا ويصل إليه من أسهل الطرق وأقربها وأكثرها ورادًا. وإنما مثل ذلك مثل المدية إذا شحذت شحذًا شديدًا وأردت أن تقطع بها أطراف أوراق كتاب فإنها ربما حادت وجنحت من حدتها فلا تقطع أوراق الكتاب قطعًا منتظمًا بل قد تتلفها، بينما لا يحيد المدية التي هي أقل مها شحذًا. ولعل سعة الفكر تدعو إلى أن يعد صاحبها من الممكن عمليًّا ما هو من المحال. ولقد رأينا نابليون بونابرت ينجح في تنظيم إدارة فرنسا وفي تنظيم معاركه، بينما كان خياله وفكره يدعوانه أحيانًا إلى طلب المحال، ولقد عرفت من الشبان الأذكياء من أصابوا نجاحًا كبيرًا في الحياة وكان يتنازعهم العاملان عامل الإدارة الواقعية العملية وعامل الخيال والفكر اللذين كانا يؤديان إلى فشلهم لو استسلموا إليهما كل الاستسلام.
يلوم الناس الإنسان لأنه لا يعرف حدود مقدرته ومقدار عجزه ونقصه، ولكنهم قلما يعترفون أنه قد يجهل قدرته وكفايته وملكات نفسه، وقد يبخسها وينتقص نصيب منها؛ لأنها تكون كامنة خافية عنه لا تظهرها إلا الحوادث المواتيه المناسبة، وإنما اختفاؤها عنه كاختفاء منجم الذهب ومعدنه في بطن الأرض، فإنه يخفى على من هم على سطح الأرض. ومثل هذا الإنسان الذي يخفى عنه مقدار ملكاته كأنما يعيش على سطح نفسه كما يعيش الغافلون عن المعدن الذي في بطن الأرض ممن هم على سطحها — وقد يستنبط هذه الملكات والإيحاء أو الحب أو المنافسة أو الضرورة، والضرورة التي تستنبط الحيلة والقدرة والملكة في بعض النفوس إذا صحبها ما يدعو إلى الارتباك أو كان في جهاز جسم صاحبها ما يدعو إلى الحيرة، أخل بملكاته ولم ينتفع بها كل الانتفاع، كالذي لا تظهر كنوز نفسه إلا إذا ابتعد عن الضوضاء. فإن ضوضاء الحياة قد تشردها كما يشرد لب المرء وكما تشرد أفكاره إذا سمع جلبة وأصواتًا صاخبة. ولكن بعض الناس لا تظهر كل مقدرته وملكاته وكنوز نفسه إلا إذا خاض غمار الحياة وعالج الناس وعشرتهم واحتكت نفسه بالنفوس كما يحتك حجر الصوان بالصوان. وقد يفاجأ المرء ببروز ملكاته وقدرته كما يفاجأ غيره مباغتة، وقد كان لا يظن أن عنده تلك القدرة كما كان الناس لا يرونها في نفسه وبغتات النفوس متنوعة.
دعانا بعض الفلاسفة إلى نبذ أكثر رغباتنا حتى إذا بلغت أقل حد مستطاع أمكننا أن نحصل عليها من غير مشقة كبيرة ومن غير أن نشفى في الحياة. وهذه الدعوة مثل دعوة من هو في حاجة إلى النعل أن يقطع رجليه كي يستغني عن النعل فلا يشقى بطلبه ولكن ما تقدم إلا بالطلب كما لا يتقدم من هو في حاجة إلى النعل إلا بقدميه. ومن قديم الزمن ما شحذ ذهن الإنسان ونما عقله ومرن بدنه إلا لأنه خالف هذه الدعوة إلى انتقاص الرغبات والحاجات واستن لنفسه سنة الإقبال على طلب الدنيا.
لو أن إنسانًا كتب جميع آرائه في أمور الحياة المختلفة منذ صغره إلى أن صار شيخًا لوجد اختلافًا وتناقضًا كبيرًا في آرائه في كل أمر من الأمور في مراحل العمر المختلفة، ومع ذلك فإن الناس كثيرًا ما يلومون المرء لأنه غير وبدل في آرائه، وهم لا يفطنون إلى أنهم يغيرون ثيابهم وأزياءهم ومطالبهم. ولو أن إنسانًا لم يتغير رأيه في الأمور من عهد طفولته إلى مماته لدل ذلك على أن عقله لم يكبر وأنه أشبه بالحفريات المتحجرة وإن كانت هذه يصيبها التغير أيضًا – ولعل السبب في ذلك أن الناس يخلطون بين تغير النفاق الذي سببه الأهواء وتغير النمو، وهم يميلون إلى سوء الظن فينسبون كل تغير إلى النفاق الذي يجعل المرء شبيهًا بالآلة التي توضع في مهب الرياح فتعرف بها الجهة التي تهب منها. فتغير الرأي قد يكون تهديًّا إلى الصواب ونموًا في العقل وقد يكون طيشًا وعبثًا فيمن لا رأي له. وقد يكون مكرًا واحتيالًا للكسب. وبالرغم من أن الناس يلومون من غير رأيه فإنهم إذا وجدوا أربا أو نيلًا منه أو قدحًا فيه تناسوا رأيه الجديد وألزموه رأيه القديم وهو يتبرأ منه.
عرفت أناسًا كانوا ذوي مواهب كبيرة نفعت غيرهم ولم تفدهم فهم كساعة الظل التي كان الناس يضعونها أمام بيوتهم فينتفع بها المارة ويعرفون بها مرور الزمن ولا ينتفع بها أهل البيوت. الذين نصبوها. وتلك المواهب النفيسة قد لا تنفع أهلها فحسب، بل قد تضرهم؛ فإن الفائدة المرجوة للمرء في الحياة لا تكون على قدر مواهبه وإنما تكون على قدر ما يستطيع الاحتيال له من المكاسب والمزايا. فإذا لم تسعفها تلك المواهب على ذلك الاحتيال أخطأت تلك المزايا ولو أن نفوسًا أخرى غير نفس ذلك الإنسان لم تنل ما تريد مما يعدل مواهبها ويناسبها ويوازنها ما بالت نفسه، وقلما تسخطت أو حاولت عبثًا أن تغير سنة الحياة إلا في حالتها.
رغبة بعض المفكرين في إبطال مطامح الناس التافهة ورغباتهم التي لا قيمة لها في ذاتها، وإنما تكتسب قيمتها من تكالب الناس وتهالكهم عليها، خطة تدل على نقص في الحكمة والخبرة بأمور الحياة؛ إذ أن كثيرًا من أمثال تلك المطامح إذا جعلت جزاء للعامل ومكافأة للمجد، ترغبه في الكدح والعمل وفي ارتياد سبل الفضائل والفضل. أما أن يقال إن الفضائل ينبغي أن تطلب لمحبتها والرغبة فيها لا لجزاء عليها فنظرة حسنة، ولكن طباع الناس في الحياة تخالفها وتتطلب جزاء عليها، ولا مناص مما تطلبه الحياة، فالشهوة والرتب والأوسمة وما شابهها أمور لا قيمة لها في نفسها، ولكن قيمتها فيما تؤدي إليه من العمل والجد. ولقد ترى الرجل الفقير الجاهل يكدح طول حياته ويتخلق بخصال الحمد ما استطاع إلى ذلك سبيلا، كي ينال رثاءً حسنًا إذا مات، وكي يكتب بعضه على قبره – وهذا يذكرنا كلمة لنابليون بونابرت في هذا المعنى وفي فائدة الرتب والأوسمة عندما ليم على إحيائها بعد أن محتها الثورة الفرنسية. ولكن سويفت بالرغم من فطنته إلى أنها وأمثالها مدعاة إلى العمل ومن محركات الحياة فإنه يسخر بالمتهالكين عليها في كتاب أسفار جاليفار. إذا اتخذوا الائتمار والكيد والتملق وسائل إليها وأمعنوا في عمل الشر بسببها.
بالرغم من أنه لم يكن بين الناس من استطاع أن يجعل آراء الناس ذات طول وعرض ونظام ومقصد واحد فإن كل مفكر يود أن يحمل الناس على اعتناق آرائه أو يأمل كما أمل أبيقور أن يصير الناس يومًا إلى زمن مقبل تتشابه فيه الآراء والأنظمة بعد أن يشذب بعضها بعضًا كما يشذب الحصا باحتكاكه، فتتحول الحصوة الثقيلة والخفيفة والمستديرة والمستطيلة إلى شكل واحد ووزن واحد أو كما أمل كارتيزيوس أن تجذب فلسفته الآراء الفلسفية المتناقضة إليها فتدور حولها كما تجذب الكواكب غيرها من الكواكب. ومن هذا السبب نشأ اضطهاد الفكر للفكر. فلو تقصينا التاريخ لوجدنا كل طائفة تدعو إلى حرية الفكر ما دامت تضطهدها غيرها، فإذا تخلصت من الاضطهاد وصارت لها السيطرة حاولت أن تفيد أفكار غيرها؛ ومن أجل ذلك كانت محاولات تحرير الفكر مصحوبة بالرغبة في تقييده أو يعقبها اضطهاد من نوع آخر – وقد تتبع (فان لون) في كتابه (تحرير الإنسانية) خطوات هذا الاضطهاد من عهد الكهوف إلى عهد الجيلوتين. ولو كان الفكر غير باعث على العمل ربما استطاعت الفئة الغالبة إهماله. وما صنعه (فان لون) صنعه في صيغة أخرى برتران ده جوفنيل في كتاب (القوة) وقد قال جوفنيل: إن كل من يستبد بالقوة إنما يفعل ذلك بدعوى أنه ينوب عن الشعب. والواقع – كما أوضح – أن في استسلام الشعب ما قد يسوغ هذا القول، وإنما كان ينذر الشعوب من عواقب المستقبل. ومن الغريب أن جوفنيل – وكان مندوب فرنسا في سوريا – يقول في القوة قولًا قاله قبله شيلي الشاعر الإنجليزي في صيغة أخرى، فقد قال في بعض قصائده: «إن القوة كالوباء الذي يتفشى فيصيب كل ما يقربه والخنوع لها عدو للذكاء والفضيلة والحرية والحق ويحيل الناس أرقاء ويجعل أجسامهم آلات مسيرة». ولكن كيف يستطيع الإنسان أن يكون في غنى عن القوة أو أن يقيدها؟!
فالثورة الفرنسية التي كانت ثورة على القوة وأعطت في أول الأمر كل مدينة أو إقليم حق إنتخاب حكامه كلهم، حتى ضعفت سلطة الوزراء فضعفت الدولة بسبب ذلك، ما لبثت أن صارت في عهد مجلس أو لجنة السلامة مركزية شبه توتاليتارية. وبالرغم من أن جان جاك روسو في كتابه (العقد الاجتماعي) كان بشير الحريات الفردية فإن به نزعة توتاليتارية تظهر في أمور كثيرة منها: تقديس الدولة، والقول بانعدام حق كل إرادة في الإرادة العامة. ومنها: إباحة حكم الحاكم الدكتاتوري الفرد الذي ينوب عن الديمقراطية في بعض الأحايين. ومنها: القول بنفي أو قهر من له إرادة لم تنعدم في الإرادة العامة. ولما كانت الإرادة العامة كالديمقراطية أمرًا تقريبيًّا فهي إرادة الكثرة أو ما يسمى الكثرة، وإن كانت كثرة ظاهرية. وبعض اليعقوبيين الديمقراطيين قالوا – عندما كانوا قلة – إنهم كثرة؛ لأنهم يمثلون مرافق الشعب الحقيقية وإرادة أجيال الشعب في العصور الطويلة المقبلة عندما يتعلم كل آحاده أن يعدم إرادته في الإرادة العامة. فالعالم لا تزال تتنازع فيه القوة الطوائف والأحزاب المختلفة وكل يريد أن يسود رأيه وأن يقهر رأي غيره. ومن الطريف أن نابليون بونابرت وقف يومًا على قبر جان جاك روسو وقال — وقد كان في صغره يردد آراءه — لقد كان من الصالح العام لو أن هذا الرجل لم يولد. فقال له جيراردين إن آراءه أفسحت لك الطريق، يعني بأثرها في الثورة الفرنسية، فقال نابليون: ربما كان من الصالح العام لو أن كلينا لم يولد.
ربما خيل لنا أن الكلام المواتي الكثير من المحدث أو الخطيب دليل على غزارة مادته من اللغة والرأي، وهو كثيرًا ما يكون دليلًا على أن مادته محدودة فيستطيع اختيار ما يختار من الكلام من غير مشقة. فإذا غزرت مادة الإنسان من لغة أو علم أو رأي قد يطول تردده قبل الكلام — ولعل في هذا بعض العزاء لذوي العَيِّ؛ إذ غاية ما تصل إليه غزارة المادة أن يكون المرء أشبه بالعَيِيِّ في تردده قبل الكلام من وفرة المادة، كما قال الشاعر:
تكاثرت الظباء على خراشٍ
فلا يدري خراش ما يصيد
وكثرة الكلام مع قلة المادَّة أمر معروف. ولعلَّ أفكه مثل لهذه الثرثرة وإن كانت ثرثرة كسيت من بلاغة الأديب مؤلفها كتاب (محاضرات الكِلَّة) أو الناموسية والسرير، وهي محاضرات تعظ فيها مسز كودال زوجها وتأنبه بعد ذهابهما إلى الفراش، وهي من تأليف دوجلاس جيرولد. وقلة المادة لا تعوق تأثير الكلام الكثير في السامع، فإن الكلام يؤثر بترداده كما هو مشاهد في السياسة وفي غيرها من مظاهر الحياة المختلفة. بل لعل قلة المادة تدعو إلى أن يفضله كثير من الناس لقلة العنت في فهم مادته القليلة.
قد يتحدث الرجل صاحب الفطنة والذكاء فيخالط بعض كلامه شيء من الفكاهة العامة البريئة فيحسبها السامع انتقاصًا له، وهي ليست انتقاصًا وإنما يفعل ذلك إذ يقول في نفسه: إن هذا الرجل المفكر لا بد أن يكون وراء كلامه معنى مستتر غير ظاهر معناه – ومثل هذا الشك غير مقصور على المحدث الفطن أو من كان من أهل الفكر من الناس وإن كان يساء الظن بهم أكثر من غيرهم. فإن السامع إذا صادف كلام القائل صفة يخشى أن يظنها الناس في نفسه عد كلامه تعريضًا به، وربما تسرع بالإساءة إلى قائلها، ومن أجل ذلك يفرض على مؤلفي القصص أن يقولو إنهم لا يعنون أحدًا بأناس قصصهم وإنهم من صنع الخيال. والواقع هو أن صاحب الفن يستمد من الأمور المشاهدة العامة مادة لفنه فيجعلها فنًّا عامًّا، ولكن الناس كثيرًا ما يحيلون الفن العام إلى شخصيات معينة، وذلك في قول المفكر أو القصصي أو الشاعر. وأكثر هذه الإحالة ترجع إلى العقد النفسية وإحساس الناس بصدق قول فرويد في كتاب (العلل النفسية) إن كل نفس إنسانية تجمع في وعيها الباطن ونزعاته وصفاته الكامنة كل ما هو إنساني في جميع النفوس، بل كل ما هو حيواني في الحيوانات كلها، فيجعلون كل ما في الوعي حقيقة كائنة في الحياة متى أرادوا. وانتقالهم بالفن أو الفكر من التعميم إلى التخصيص يكون بالرغم من ميل الناس إذا كان لهم أرب أو شهوة إلى التعميم في أحكامها المخطئة. كتعميمهم في الحكم على الأمم أو الأحزاب أو الطوائف الكبيرة.
في أثناء طلب أمر من الأمور ومحاولة نيله والسعي والعمل له يفكر المرء في محاسنه وأطايبه ومسراته وفضائله، فإذا ناله بدأ يفكر في أوجه النقص فيه وفيما قد يكون فيه من المساوئ والعيوب، وإنما ركبت النفس على هذا الوجه وجبلت على هذا الطبع كي تستأنف مطالب الحياة وكي تطمع في المزيد من محاسن الأمور فتعمل وتكد، وربما بخست الأمر الذي نالته كي تستطيع تحقيق هذه السنة الحيوية التي هي قوام الحياة.
إذا هاج البحر ورأى أهل سفينة أن تخفف أحمالها وأثقالها كي تنجو وينجوا من الغرق بأن يقذفوا بعض أحمالها في البحر، ربما حاول كل منهم أن يخفي متاعه ويعظ غيره كي يلقي متاعه في البحر، وهذا مثل الذين يفضلون نفع أنفسهم على نفع الجماعة ونجاتها، فتضيع أنفسهم وتضيع الجماعة التي هم منها. وهذا التواكل يكثر عادة في الأمم التي فقد آحادها الثقة بعدل حكومات بائدة وحكومة كائنة.
إذا أراد الإنسان أن يتسلق ويعلو فلا بد أن يتسلق كما تفعل القردة على قدميه ورجليه. والطمع في مناصب الجاه والسلطة قد يتطلب من المرء ما هو شبيه بالزحف على اليدين والرجلين، ويعني التقرب بوسائل التملق والخنوع ومعاونة من يرجي نفعه على شهوات غضبه أو حسده أو محاباته إلى آخر هذه الأمور، فقد شبهها بالزحف على القدمين واليدين أو بالتسلق بهما كما تفعل القرود.
السبب في خيبة كثير من الأزواج أن نساءهم بدل أن يتخذن من الزواج أقفاصًا لأزواجهن كأقفاص العصافير المدللة البيتية التي تزين أقفاصها كي تأنس إليها، يتخذن من الزواج ما يراه الرجال أشبه بالفخاخ والشباك التي تصاد بها الحيوانات.
كثيرًا ما يذكر أهل التعاسة حكم الدهر ومشيئة القدر الغالبة الناقدة. أما السعداء فقلما يذكرون هذه الأمور، ولا سيما الذين يثقون أن الجاه والثروة والسعادة لن تزول عنهم؛ إذ إن هؤلاء، ينسون حتى أثر الأقدار في توزيع الصحة والمرض والذكاء والغباوة والأحوال المساعدة للنجاح. وهذا يذكرنا قصة رجل أصاب غنيمة من مال كثير اختلسه من غير تعب، فكان إذا طلب منه إنسان صدقة يقف ويلقي عليه محاضرة في فوائد الاجتهاد والجد في العمل، ويقول له: لو كنت اجتهدت لصرت مثلي.
كثيرًا ما يعلل المرء نفسه بأن العصور المقبلة ستقبل على ما انصرف عنه أهل عصره، وستشغل بما كان أهل دهره عنه في شغل. فينصفون عمله أو قوله كما أراد. وينسى أن أهل العصور المقبلة تستجد لهم فيها أقوال وأمور هم بها في شغل. وهذا الوهم هو مما يزيد إقبال الناس على العمل والفكر والتضحية وإن كان قلما يتحقق، ولكنه سنة الحياة التي تزيد ثمرة أعمال الناس حتى بالوهم.