لا تتم النظرات التي اقتبسناها من الأدب الفرنسي من غير اقتباس بعض نظرات (لابرويير) والتعليق عليها بما يناسبها من الآراء، وقد ترجم حياته ونقده الكاتب المطلع جورج نيقولاوس في عدد ماضٍ من أعداد المقتطف، ولكنه لم يكثر من الاقتباس منه، وكنت قد اطلعت على إعلان عن ترجمة كتابه الأخلاق، ولكني لم أره، وفي بعض التعليق الذي نضيفه إلى نظراته ما يجلوها بذكر ما يوافقها أو يخالفها من آراء المفكرين. وقد كان لابرويير معاصرًا للاروشفوكولد، وهو ينحو نحوه، وتاره يرتفع إلى مستواه، وتارة ينخفض عنه، ونجده في بعض نظراته يتردد في رد فضائل الإنسان كلها وعيوبه إلى الأثرة وحب الذات كما ردها لاروشفوكولد، والمفكرون مختلفون في هذا الرد كما سيتضح، وقد درس لابرويير القضاء وزاول منصبًا إداريًّا في نورمانديا، ثم عُيِّن مربيًا ومعلمًا لدوق بوربون حفيد أمير كوندي، وانتُخِب عضوًا في المعهد العلمي الفرنسي، وعندما أدركته المنية كان قد ألَّف من هذه النظرات ألفًا ومئة، فلعل إكثاره سبب تفاوته فيها، وقد وصف الفلاح الفرنسي وصفًا ينذر بالثورة الفرنسية قبل أوانها.
وهذه بعض نظراته وأفكاره:
إذا صح ما يقولون من أننا نشفق على التعساء إشفاقًا على أنفسنا أن نصير يومًا مثلهم تعساء، فلماذا لا نعطف عليهم ولا نحسن إليهم ولا نشاركهم فيما ننال من النعمة إلا بهذا القدر الزهيد التافه؟! ولهذا أسباب منها: أنه إذا كان جانب من النفس يعطف ويحسن خشية أن تصير مثل من تحسن إليه، فإن للأثرة جوانب أخرى تدفعها إلى الاستئثار بخيرات الحياة، ثم إن الإحسان الزهيد التافه قد يرضي ضمير المحسن فلا يحس ألمًا، بل إن الرحمة من غير إحسان ومعونة قد يعدها من يشعر بها تكفيرًا عن كثير من وسائل الاستئثار بالخير، وإن لم يصحب الرحمة بر فتعيد إلى نفس صاحبها الاطمئنان، وتدعوه إلى استئناف الكفاح والمنافسة في خيرات الحياة. ومن عوامل الزهد في البر والإحسان الخوف إذا بذل المرء ما عنده أن يصير مثل من يحسن إليه، وكل هذا لا ينافي أن المرء قد يحسن إحسانًا زهيدًا تافهًا خشية أن يصير مثل من أحسن إليه، وإن الإحسان هنا من الأثرة وباعثه حب الذات، والتكفير عن وسائل الاستئثار أو عن السعادة.
على أن كثيرًا من المفكرين ينكرون أن تكون كل دوافع النفس أساسها واحد، وينكرون أن تكون كلها مردودة إلى عامل الأثرة وحب الذات، قال هازليت: إن أحاسيس النفس المتضاربة وأهواءها المتباينة وهواجسها المتنافرة تبطل أن يكون للنفس أساس واحد وهو حب الذات، إذ كثيرًا ما يتعس المرء نفسه لأسباب تافهة لا تفيده بل تضره، على أن هذا لا يمنع أن يكون مرد كثير من الأمور التي تتعس المرء إلى الأثرة الخرقاء الحمقاء التي تتعس المرء وهو يظن أنها تسعده، كما لا يمنع أن يكون الإيثار نوعًا من الأثرة كأن ترجو به النفس العلاء والحمد وطيب الذكر والظفر بالإيثار، فهي تتجنب الأثرة وتختار الإيثار لأوجه من النفع. وإذا أخذ الإنسان برأي شوبنهور في وحدة الحياة وأنه مظهر من مظاهرها فحسب، وأن اعتبار نفسه وحدة مستقلة من خطأ الحواس والإحساس استطاع أن يتخلص من بعض أثرته إلا إذا عد نفسه الممثل الأعظم لوحدة الحياة وإرادتها، وأنه من أجل ذلك أحق بالخيرات والاستئثار بها. وكان (كانت) الفيلسوف الألماني يعد الواجب المفروض فكرة أولية في النفس، وقال: ينبغي أن يعمل الإنسان بحيث يصح أن يكون عمله وخلقه مبدءًا عامًّا، وهذا مشتق من قول جان جاك روسو: إن كل إنسان ينبغي أن تكون إرادته الخاصة مطابقة للإرادة العامة للأمة. وأعتقد أن كل هذه الآراء مشتقة من الفكرة القديمة التي توجد في كتب الأدب العربية كما توجد في الإنجيل على لسان عيسى عليه السلام وهي: ينبغي للمرء أن يعامل الناس كما يود أن يعامله الناس، أي حب للناس ما تحبه لنفسك. ومن الغريب أن الأستاذ توما هوكسلي (أي هوكسلي الكبير) في مجموعة أرسطو طاليس رفض هذا المبدأ بدعوى أن كل إنسان يود أن يغتفر الناس قسوته وجرائمه وآثامه، فلو اغتفرت كل الآثام والجرائم أصبح العالم فوضى وانتشر الشر. وبديهي أن هوكسلي فسرها على غير معناها، إذ أن معناها: عامل الناس بمثل ما تود أن يعاملوك به من التعاون التام والامتناع عن القسوة والآثام في معاملتهم لك، على أن أداء الواجب ليس فكرة أولية كما زعم (كانت) بل هي فكرة مكتسبة، ولا هي راسخة في النفوس، بل كثيرًا ما تنتفى في النفس وتحل محلها الأثرة الجامحة القاسية. ولكن ما لا شك فيه أن الإنسان قد تتأصل فيه روح التضحية حتى يكون عمله بباعث نفسي عكس قوله ورأيه، كما في قصة روبرت جرانت الكاتب الأمريكي المسماة (عمله ضد رأيه) وهي قصة رجل مفكر أبى أن يحبذ عمل إنسان أودى بحياته في إنقاذ طفلًا صغيرًا؛ لأن هذا المضحي الذي أنقذ الطفل ومات في أثناء إنقاذه قد خلف زوجة وسبعة أطفال وهو كاسب رزقهم وتحمل المنكر عليه عمله اشمئزاز أصدقائه من رأيه، ولكنه بعد زمن فعل مثل الفعل الذي أنكر تحبيذه بدافع خفي من نفسه فأنقذ طفلًا من الهلاك وهلك بسبب ذلك، وهذا يذكرني قصة (على الحدود) لموريس لي بلان. وبها مفكر يرى أن الحروب لا تبطل الا إذا امتنع كل إنسان عن القتال حتى ولو غزيت أمته في عقر دارها، ولكنه لما رأى الألمان أغاروا على الحدود حمل سلاحه بدافع غريزي من نفسه وذهب ليقاتلهم وليدافع عنها، وهذا غير ما فعل رومان رولان الكاتب الفرنسي الذي أبى الحرب وأبى القتال ورفض حمل السلاح وترك فرنسا وذهب إلى سويسرا فسقط في نظر كثير من الفرنسيين. وقد قال «كانت»: إن المرء لا يستطيع أن يحكم أن الواجب هو الذي يدفعه إلى عمل من الأعمال إلا إذا كان هذا العمل يخالف رغباته المحبوبة السارة، وليس معنى ذلك أن الواجب لا يكون واجبًا إلا إذا كان كريهًا بغيضًا مخيفًا، وإنما هذه فكاهة من شيلر الشاعر الألماني يداعب بها «كانت» وقد كان معجبًا به، وبعد كل هذه الجولة في التفكير فإننا لم نقطع برأي بات في تساؤل لا برويير.
قلما يلتذ المرء أن يرى نفسه مكلفًا معاونة إنسان في حاجة إليه. ولكن من الغريب أن الحظ السعيد إذا جعل هذا الإنسان في غنى عنه وعن مساعدته فإنه قد يسر لرفع العبء عنه، ولكن سروره لايكون تامًّا، بل قد يمازجه شيء من الامتعاض كأنما ذلك الحظ السعيد الذي أغنى ذلك الإنسان عنه قد انتقص من قدره، لأن احتياج المحتاج إليه يشبع غروره وزهوه بالرغم من عبئه. وإشباع زهوه يدعو اطمئنانه إلى قدر نفسه وعظمتها، أو قل إن الإثرة في باطن نفسه كانت تفضل أن يزاد سعدًا على سعد بأن ينال الحظ السعيد الذي ناله المحتاج إليه، ثم يظل ذلك المحتاج إليه محتاجًا إليه. وكذلك إذا نال صديق نعمة أو منزلة أو جاهًا فان المرء يبتهج بما نال صديقه ويسر له، ولكن سروره كثيرًا ما يمازجه امتغاض خفي، فالسرور بنعمة الصديق لا ينفي وجود عكسه من حسد أو تنغيص أو ألم، لأنه لم يزد حظًّا على حظ بدل أن ينال الحظ صديقه، وهذا من اجتماع الأضداد في النفس وقد تجتمع.
إن الذي يستطيع أن يصبر صبرًا طويلًا قبل نيل ما يريد لا ييئس كل اليأس إذا لم ينله. أما الذي يترقب نيله بشغف ولهفة لا صبر فيهما فإنه أكثر تعرضًا لليأس، ثم هو إذا نال ما يريد لا يرى ما ناله بعد آلام اللهفة كفاءً لما قاسى في سبيل توقع نيله وارتقابه من عنت الشغف واللهفة، فكأنه لم ينله كله أو بعضه. وهذا إذا كان الشغف به لا يزال في نفسه كله أو بعضه، أما إذا كان قد زال أكثره فإن مارسيل بروست صادق في قوله: إنه إذا تحققت الرغائب بعد زوال الشغف بها قنعنا منها بأقل مما كنا نقنع من قبل؛ إذ الشغف لا يزال قاهرًا حادًّا.
الإنسان يزداد مع الزمن ألفة لمن صنع معهم جميلًا وأحسن إليهم، ولكنه يزداد نفورًا ممن أساء إليهم، وذلك لأن رؤية الطائفة الأولى تزيد حسن رأيه في نفسه، أما الطائفة الثانية فإن رؤيتها تذكرة إساءته إليهم فتقلل من حسن رأيه في نفسه حتى ولو كان جانب من نفسه يباهي بقدرته على الإساءَة فإن جانبًا آخر من نفسه يبصره بعيوب نفسه ولو كان ذلك عن طريق الوعي الباطن الخفي.
الناس يذمون الإسراف في كل الأمور إلَّا الإسراف في شكر نعمتهم عليهم، فإنهم قلما يذمون الإسراف في شكر نعمتهم – إلا إذا فطنوا إلى أنه يراد به المزيد من النعم التي لا يريدون أن يجودوا بها – ولكن الناس في أكثر الأحوال يطلبون المزيد من شكر نعمتهم مهما بالغ الشاكر في شكرها، ولا يرون شكره كفاءً لما أولوه من النعمة، بل يرون أنه دائمًا مدين لهم بالشكر.
الحديث المحبوب لدى القلب أطيب من الحديث المقنع للعقل بحججه. ومن أجل ذلك تُصغي النفس إلى ما تود أن تسمعه أكثر من إصغائها إلى ما يقنعها – بل هي تصنع أكثر من ذلك فتستنبط للحديث الذي تود أن تسمعه براهين وأدلة كي تقنع نفسها أنه أقنعها، وأنها لم تصغ إليه لأنه محبوب تود سماعه، بل أصغت إليه لأنه يدلي بالمنطق الحق والبرهان الصادق، وأحيانًا لا تكلف نفسها مئونة ذلك وتكتفي بأنه حديث شائق محبوب تود سماعه.
الرجل يصعب عليه، لا سيما إذا كان على شيء من الكبر، أن يغتفر لآخر اطلاعه على سقطة أو زلة أو سيئة بدرت منه، وخاصة إن كان عند المطلع على زلته أسباب وجيهة تدعوه إلى مؤاخذته أو لومه، ولا يهدأ غضب صاحب السقطة أو الزلة أو السيئة إلا إذا ألزم الآخر مثلها وأظهره في مظهر شبيه بها، فكأنه بذلك يمحو أو يخفي أو يهون من أمر زلته أو عيبه، ويزداد قدرًا لدى نفسه، ولما كانت العيوب والسيئات شائعة بين الناس كثيرًا ما يتعاونون لتهوين زلاتهم بإلزام غيرهم سيئات مثلها.
كثيرًا ما تصدر من المرء أعمال عظيمة وإحساسات نبيلة فتنسب إلى حب الخير الغريزي في النفس البشرية. والحقيقة أنها بسبب ما اكتسبه بالعادة والمراس والمحاكاة للخلق السائد الممدوح لدى الناس، فإن هذه الأمور تكسب المرء قوة خلقية، أما غريزة الخير فإنها تضعف لولا العادة والقدرة، وهما يزيدانها تمكنًا.
كثيرًا ما يكون ضعف المرء وعجزه باعثين له على البغض والكره والمقت، إذ لو كان قادرًا غير عاجز للجأ إلى وسائل أخرى. والرغبة في الانتقام وطول التفكير فيه هما بسبب هذا الضعف؛ لأنه لم تتم له بعد أسباب القدرة عليه، فضعف المرء يدعوه إلى كره الناس. ولكن كسله وحبه الراحة والدعة والاطمئنان والسكينة أمور قد تدعوه إلى التخلي عن كرهه وعن محاولة التشفي، ومن أجل ذلك كان من الصعب أن يقهر المرء غضبه في أول الأمر إذا غضب على إنسان، ولكن إذا تراخى به الزمن كان الصعب أن يعاني شعور الغضب والبغض على الدوام؛ لأنه يقلل من راحته وهناءته، إلا إذا جعل للسخط والرضا، تداولًا وتعاقبًا على نفسه.
من الصعب محاولة إغراء المرء باتباع رأيك في الأمور الكبيرة قبل أن تتمكن من أن تعوده على اتباعه في الأمور الصغيرة التافهة. فإن المرء يأنف أن يعمل حسب ما يوحي به غيره – حتى ولو كان صوابًا – إلا إذا كان الموحي المغري صاحب لباقة تمنع الموحى إليه من الشعور بالأنفة والغضاضة والهوان إذا اتبع رأيه، وتنيم إباء نفسه أن ينقاد لرأي غيره، فإذا لم يكن المغرى بالرأي الموحى به صاحب لباقة كهذه اللباقة دفع المرء الاستحياء أو الكبر أو هوى النفس إلى رفض ذلك الإغراء والتحكم، ولكنه إذا تعود أن ينقاد في الأمور الصغيرة التي لا يرى أنفة في الموافقة عليها بسبب زهادتها وتفاهتها، انزلق واسترسل به التعود فينقاد في الأمور الكبيرة. وهذه حقيقة يعرفها الناجحون في الحياة الذين يحملون الناس على قضاء ما يريدون، وقد يحملون من هم أكبر عقلًا منهم، ومن تظن أنهم لا ينقادون لأمثالهم، وإنما يفعلون ذلك باتباع هذه الحقيقة النفسية السيكولوجية، وكثيرًا ما يكون الضعف سبب انقياد المرء لرأي غيره. ولكن الكسل وحب الراحة من أسباب هذا الانقياد، وهي حقيقة يستغلها ويستثمرها ذوو الإلحاح لنيل مطالبهم، وكأنهم ينتهزون فرصة استرخاء الكسل والدعة ومحبة الراحة ويعرفون صفاتها وأوقاتها فيهجمون في حالاتها على من يريدون الإلحاح معه باللباقة كتلك التي وصفت.
قد يكون من الدهاء أن نعامل أعدائنا على أمل أن يكونوا يومًا أصدقاءنا، وأن نعيش مع أصدقاءنا على حذر من أن يصيروا يومًا أعدائنا، ولكن هذا يجافي أصول المودة والعداوة. وقد يدعو إلى أخلاق غير فاضلة وإلى تكلف ما ليس من الصدق والنبل، وإلى استخدام الكذب والرياء. وأفضل من ذلك ألا يصاحب المرء إلَّا ذوي العقل والأمانة والشهامة الذين إذا صاروا أعداءه عادوا من غير أن يتعدوا حدود العقل والأمانة والشهامة – ولكن هل يستطيع دائمًا أن يميز من لا يتعدون حدود العقل والأمانة والشهامة في عداوتهم؟ في بعض الأحاييين يستطيع تمييزهم بأن يفحص معاملتهم لأعدائهم قبل أن يصادقهم. فإذا وجد أنهم يعاملون أعداءهم بالخيانة وقلة الشهامة والرعونة، استطاع أن يعرف أنهم لو صاحبوه ثم عادوه، عاملوه بمثل تلك المعاملة التي تدل على لؤم العداوة وخستها وغدرها وحماقتها.
لو أننا نسر وتأنينا فلم نضحك إلا بعد زوال جميع منغصات حياتنا، وبعد كمال سعادتنا، لكان من المخوف أن نموت قبل أن نضحك. والحقيقة أن الضحك أو حتى تكلف الضحك، قد يقلل من متاعب الحياة، ولكن كثيرًا من الناس يتشبثون بمنغصات حياتهم ومتاعبها، بألا يبيحوا لأنفسهم الضحك إلا بعد زوالها، فيكون تشبثهم بها بحرمان أنفسهم من الضحك باعثًا على بقاء متاعبهم وثقل عبئها.
أحب الرغبات إلى الإنسان التي لا تتحقق؛ لأنها متى تحققت وفاز بها ألفها واعتادها ووجد بعض الملل في نفسه إليها سبيلًا في بعض الأحايين فتقل قيمتها. وكثيرًا ما نرى الرغبات التي تتحقق ويفوز بها الراغب تواتيه في غير أوانها الذي يسعد بها فيه أو توافيه في حالات من حالات نفسه. وفي ظروف من الحياة تقلل من المتعة بها، ولهذه الأسباب كلها تقل قيمة الرغبات إذا تحققت مهما كانت عزيزة محبوبة قبل الوصول إليها فلا تقنع الفائز بها، ولا ترتاح نفسه، ولا تهدأ. وهو كذلك لا ترتاح نفسه، ولا تهدأ إذا لم تتحقق الرغبات بسبب ألم اللهفة؛ فالإنسان قلما يرضى سواء تحققت رغباته أو لم تتحقق. وفي هذا عظة له وعبرة لو يعتبر.
إن ألم الحزن لفقد من نحب أقل ثقلًا على النفس من نكد العيش مع من نكره ومن منغصات الحياة مع من نبغض؛ لأن ألم الحزن على الفقيد المحبوب يقلله مرور الأيام، ويكتسي وشيًّا من الذكريات الجميلة التي تكسب الحزن شيئًا من مباهج الجمال. أما العيش مع البغيض المكروه فإنه يزداد ثقلًا على النفس فتزداد به غمًّا ما دام دائمًا لم يزل.
المودة المستكملة الصادقة في كل بواطنها ومظاهرها، أندر وأقل حدوثًا من العشق الشديد. وفي المودة نأتمن الصديق على أسرارنا بمحض إرادتنا، أما في الحب فلا إرادة فيه، بل قد نذيع أسرارنا بالرغم منا. وقلما تزول الصداقة إلا لأسباب تدعو إلى نقصها كالغدر أو الإساءة التي لا تُقبَل، أو الجفاء الذي يدل على الغلظة، أما الحب فقد يوجد كأشد ما يكون بالرغم من هذه الأسباب. فإذا زال فقد يزول من غير ما سبب، بل يفيق المحب إلى أنه قد صار لا يحب حبيبه وهو هو لم يتغير. وقد يولد الحب بغتة من غير إرادة أو تفكير. أما المودة فإنها في حاجة إلى العشرة والألفة والزمن كي تنضج ثمراتها. وقد يكون أشد الحب الحب المباغت من أول نظرة. ورب نظرة إلى وجه جميل أو يد رشيقة قد تصنع بالقلب في طرفه عين، ما لا تصنعه أعوام طوال زاخرة بالعطف والمودة وأداء المعروف.