ميشيل مونتاني هو الأديب الفرنسي صاحب الرسائل المشهورة، وكان ثمرة من ثمرات عصر إحياء العلوم في أوروبا، كان من أسرة نبيلة، وولي القضاء وصار حاكمًا لإحدى المدن فترة من الزمن، ولكنه قضى أكثر حياته في قصر أجداده بين الكتب، وكانت القراءة وكان التفكير والتأمل في صفات النفوس أحب شيء إليه في الحياة، مع أنه أخذ نصيبًا من كل مباهجها، فإنه كان يحب الحياة شأنه في ذلك شأن أدباء عصر إحياء الآداب والعلوم، ولكنه كان يفضل القصد في كل الأمور، ويرى أن الخطة الوسطى هي مفتاح السعادة، فلم يكن متهالكًا على اللذات كما تهالك عليها كثير من الأدباء بعد عصر الترهب والتقشف، ورفض الدنيا والخشية من متعها. وكان يقول بتحكيم العقل، ولكنه كان يحذر الاغترار بأحكامه، وكان يعرف قصوره وأنه داعية إلى الكبر والغرور. ورسائله تدل على اطلاع كبير على أدب القدماء وعلمهم، ولا غرابة في ذلك؛ فإن أباه كان قد قضى عليه أن يتعلم اللاتينية في سن الطفولة. وله آراء كثيرة كآراء المعاصرين لنا، مثل رأيه في اجتماع الشخصيات العديدة في النفس الواحدة، ورأيه في أنَّ الغريزة في الحيوانات هي في الحقيقة نوع من العقل ومظهر من مظاهره، ورأيه في أن التفكير المؤسس على التجربة أصدق من التفكير المؤسس على النظريات العامة التي تعتنق أولًا ثم يحاول صاحبها إثباتها بعد ذلك بما يشاهد، وهو على اعتزازه بحكمة القدماء يرى أن المشاهدة والملاحظة والتجارب أهم منها، ولكن مما لا شك فيه أن دراسته لكتب القدماء كانت رياضة صالحة لعقله مكنته من الانتفاع بالتجارب والملاحظة، وكان يرى أن الاقتناع بالآراء والعقائد لا يكون بالقهر والقسر، ولذلك كان ينعي على الطوائف الدينية في عصره حرق بعضهم بعضًا وقتال بعضهم بعضًا، ولذلك كان يقول لهم إن آكلي اللحوم البشرية أرأف منهم وأكثر إنسانية. وقد كان معتدلًا في نقد الآراء المقررة، وكان على اعتداله وتحفظه صريحًا في بعض رسائله، وكانت لمونتاني آراء جديدة في التربية مؤسسة على تجاربه ومشاهدته، وربما كانت كما يقال «رد فعل» بسبب ما ألزمه أبوه في صغره، وكانت دراسته النفس البشرية في رسائله وسيلة من وسائل التربية، كما كانت ذريعة إلى السعادة ولذات الفكر، وكان ذا رأفة كبيرة بالحيوانات والطيور، ولا غرابة في ذلك بعد أن رأيناه ينسب إليها العقل، وكان يرى أنها أكثر شبهًا بالإنسان في إحساسه وعقله مما يظن الإنسان: وقد ترجمت رسائله عقب نشرها إلى لغات كثيرة، وكان الأدباء مولعين بقراءتها وتدبر أوصاف النفس فيها، فكانت لشكسبير الشاعر الإنجليزي نسخة منها – وقد ذكر مونتاني في بعضها أنه يفضل من الكتب تلك التي لا يرتبط في قراءتها بإتمامها دفعة واحدة بل يتنقل فيها ويغادر القراءة متى شاء ويعاودها متى أراد، وهذه كانت خطته في كتابة أكثرها؛ فإنه في الرسالة الواحدة ينتقل من موضوع إلى موضوع يتصل بالأول ويوحي به ذلك الموضوع الأول.
ومن نظراته ما يلي:
إذا كان المرء أقدر على الفكر وأدق فيه نظرًا وأبصر بمسالكه وحيله وعرف الناس منه ذلك فإنهم يكونون أسرع إلى كرهه وأعجل إلى بغضه؛ خوفًا من قدرة عقله أن تصيبهم بسوء وأن تعاجلهم بشر، ولا سيما إذا ظنوا فيه نقصًا في الأمانة والنزاهة، أما إذا كان غير قادر على الفكر فإنهم قلما يختصونه بمثل هذا البغض حتى ولو كان سيئ الخلق، فالناس يخشون أن يستخدم المرء فكره فيما يسوءهم ويضرهم، سواء أكان أمينًا أم كان غير أمين، وهذا سبب من أسباب كره جمهور الناس لذوق الفكر – وهم في هذه الحالة ينسون أن الغني الماكر قد يبلغ بمكره من أذاهم ما لا يبلغه المفكر.
بعض الناس يتعلم المنطق كي يخالف به أصول المنطق والحق، وكي يقنع الناس بالباطل، وهو كالذي يتعلم القوانين كي لا يتقيد بها وكي ينجو من قصاص خرق سياجها؛ لأنه بتعلمها يعرف منافذها ومخارجها وأبواب نقصها وحيل التهرب منها، وكذلك نرى أناسًا يتعلمون المنطق لمثل هذه الغاية في تلبيس الحق على الناس، على أن أكثر من يتعلم المنطق كي يطبقوه على الحياة بحسن نية، يعجزون عن تطبيقه تطبيقًا صحيحًا بسبب غلبة الطباع والنزعات النفسية والشهوات والرغائب والمطامع، فالمنطق الصحيح كثيرًا ما يكون مهجورًا منبوذًا في الحياة سهوًا أو جهلًا أو عمدًا أو مخادعة من الطبع للعقل، ولولا هذه الموانع لكان نفعه للناس في الحياة أعظم وفائدته أتم، ولكن المرء كثيرًا ما يعتنق الرأي أولًا ثم يتخذ من المنطق ما يسوغه.
قد تكون للإنسان ميول نفسية مستترة وصفات لا يفطن لها، ولكن جسمه قد يدل عليها، فقد كان شيشرون الخطيب الروماني به ميل شديد إلى السخر يظهر منه وإن أخفاه بدلالة تجعد أنفه وتقلصه، وكان الإسكندر المقدوني والكبياديس الأثيني معجبين بجمالهما، وكانت دلالة هذا الإعجاب في جسم الأول أنه يميل برأسه زهوًا، ودلالته في جسم الثاني لثغة بها أنوثة في كلامه، وقس على ذلك باقي الصفات المستترة. وقد يحاول المرء أن يخفي الحسد أو الحب أو البغض فينم عليه جسمه، ثم يتعجب إذا نسبت إليه هذه الصفات.
قد يظن بعض الناس أن الكذب صفة مقصورة على الأراذل والأوغاد والأنذال، ولكن الحقيقة هي أنها صفة عامة شاملة، فإنا نجد كثيرًا من الأخيار الأفاضل الذين تكاد لا تجد فيهم عيبًا آخر بارزًا لا يتورعون من الكذب، إما على سبيل العمد أو المغالطة للنفس.
بعض الناس قد يتعود الكذب حتى لا يستطيع أن يصدق وإن كان الصدق منجيه من ضرر أو تلف. وهذا من غرائب تحكم العادة إذا توهم المرء أن الكذب هو الذي ينجيه كما تعود أن ينجو بالكذب في حالات، فيحسب أنها قاعدة مطردة، حتى ولو بدا أن الصدق منجيه فإنه يشك فيه ويحذره. وتحكُّم العادة يذكرني قصة رجل ممن يعرضون أعمال المهارة في إصابة الهدف كان يوقف امرأته أمام جدار من الخشب ويرسم حول جسمها خطًّا ثم يقذف بالمُدى من مكان بعيد بعض البعد فتصيب المُدَى هذا الخط ولا تمس المرأة ولا تجرحها، واتفق أنه نقم على امرأته وأراد أن يقتلها قتلًا يظنه الناس خطأ في إصابة الهدف من غير عمد، فصار يرمي بالمدية إثر المدية فلا يستطيع أن يصيبها ولكنه يصيب الهدف الذي تعود أن يصيبه، وذلك من حكم العادة، ولعل عاطفة في صميم نفسه كانت أيضًا تمنعه من قتلها، وإن كان لم يفطن إلى عاطفة الحب أو الرحمة المستترة وفطن إلى عاطفة حب الانتقام الظاهرة، ولعل اعتزاز نفسه بفن إصابة الهدف، منعه من أن يتكلف الخطأ بإصابة زوجه، مهما حاول ذلك.
في بعض الأحايين يدفع الخوف الإنسان إلى الانتحار خوفًا من الأمر الذي يتوقع ضرره، وإن كان ذلك الضرر أهون من الموت، وقد ينتحر المرء خوفًا من الموت في أي شكل من أشكاله، فهو يموت من خوف الموت، وهذا يدل على أن الخوف أشد على النفس من الموت، ولا أخاف من شيء قدر خوفي من الخوف، فإن للخوف عدوى وأخذة وبغتة وإلحاحًا، وقد يخاف المرء حتى مما هو عون له على الخوف، ومنجاة له منه. وإذا لم يدفع به الخوف إلى التهلكة فقد يدفع به إلى الجنون أو إلى الإقدام على ما يخشى ويخاف، وقد يسري الخوف في أهل المدينة الواحدة فيقاتل بعضهم بعضًا من سوء الظن وتوقع الأعداء، وكل منهم يظن أنه يقاتل العدو المخوف الذي بغتهم، وخوف المرء من الألم قد يكون أشد من الألم، وخوفه من حوادث تصرف الأقدار وانشغال باله بذلك الخوف قد يكون أشد من تلك الحوادث، وقد تسري عدوى الخوف في الجيشين المتقاتلين فيفر كل منهما من الآخر، كما حدث في بعض وقائع الحروب المعروفة في التاريخ. وهذا يذكرني بما ذكره (هازليت) في إحدى رسائله من أن فتاة تُرِكَت في حجرة مغلقة بها جثة فلج بها الذعر والرعب، حتى أقدمت على ما تخشاه، فعانقت الجثة وماتت من الهلع والذعر، ويذكرني بقصة أظن أنها في كتاب من كتب (أناتول فرانس) عن رجل من أهل مدينة ذهب إلى الريف ونزل في نزل صغير، ولأمر ما ذاع بين الريفين أنه فوضوي جاء من المدينة كي ينسفهم بالقنابل، فصدقوا الإذاعة الشائعة وتسللوا إليه في خفوت وسكون في جنح الليل كي يقبضوا عليه مباغتة قبل أن ينسفهم بالقنابل، وكانوا يرتعدون وهم يتقدمون خلسة نحو حجرته ويفرون عائدين كلما ظنوا أنهم سمعوا صوتًا، وكان الرجل قد أحس بهم فظن أنهم لصوص جاءوا ليقتلوه، فسرى الرعب في نفسه وفي أوصال جسمه وجعل يرتعد من الخوف وعندما فتحوا الحجرة وجدوا أنه مات من الرعب. ويذكرني قصة (الجبان) لجي دي موباسان. وهي قصة رجل صفع آخر فدعاه المصفوع إلى المبارزة، فاشترط الصافع ألا تقف المبارزة إلا بعد جرح أو موت أحدهما، ولكنه عندما خلا بنفسه في بيته، وجد جسمه يرتعد ويرتعش وخاف أن يغمى عليه أمام أصدقائه وخصومه إغماءة الخوف فيفتضح ويعرف بالجبن ويلحقه العار، فانتحر خوفًا من ظهور خوفة ودلالاته أمام الناس. وأتذكر أيضًا ما يسمى بالفزع الأكبر أيام الثورة الفرنسية، إذ أن الفزع قد يعم في عهد الثورات، وقد يكون معينًا عليها، فكثيرًا ما يقسو المرء من الخوف. ومن عجائب الخوف خوف عبد الله بن الزبير وهو من الشجعان، ولكنه لما رأى أن الغلبة ستكون لجند بني أمية استشار أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق ذات النطاقين في أن يستسلم، فقالت له: عش كريمًا وحثته على القتال، فقال: إنه يخشى أن يمثل به أعداؤه بعد موته، فقالت: لا يضير الشاة سلخها بعد موتها. والواقع أن الإنسان كثيرًا ما يغم نفسه بأمور وحوادث مختلفة قد تحدث بعد موته، ومن الشجاعة حقًا قول الأستاذ (هالدين) الإنجليزي في كتابه (تفاوت الناس) إنه اتفق وزوجه أن تُهدَى جثتاهما بعد موتهما للمستشفى للتشريح كي يستفيد البحث العلمي وتستفيد الإنسانية. وهذا يذكرني قصة إهداء الشنفرى الشاعر جثته بعد موته للوحش كي تنعم بأكلها، وذلك في قوله:
إذا قطعوا رأسي وفي الرأس أكثري
وغودر عند المُلتَقَى ثم سائري
فلا تدفنوني إن دفني مُحَرَّمٌ
عليكم ولكن أبشري أم عامرِ
ويعني بأم عامر الضبع – ومن فكاهات الخوف قصة الجبان الذي يدعي الشجاعة مثل قصة ترْتَرَنْ الترسكوني لمؤلفها ألفونس دوديه، وكان ترترن يدعي مغالبة الليوث والوحوش مع أنه كان يخشى حتى الأسفار وركوب البحر، ولكن من الأغاليط المألوفة أن يحسب الناس كل من يدعي الشجاعة ويتوعد كي يخيف، جبانًا. حقيقة أن بعض الناس يخفي جبنه وخوفه بادعاء الشجاعة، ولكن المفاخرة بها قد تكون مفاخرة بحق كما أثبت شارلز لامب في رسائل (الأغاليط المشهورة) ولامبروز بيرس في قصص الخوف من الجثث والأفاعي المحنطة خوفًا أدى إلى الهلاك.
قد يكون قبول المرء للأكاذيب من السذاجة الفطرية التي تفترض الصدق في نفس محدثها، وقد يكون ذلك القبول من الجهل، وهو عيب العامة، أما عيبي فهو عيب المتعلمين، فقد أبالغ في تكذيب ما لم يقم دليل حسي على صدقه ولا أكتفي بأن أقول: إنه لم يقم دليل حسي على صدقه، بل أقطع ببطلانه واستحالة كونه، كأن الكون يقاس بملكات الإنسان وهو غير محدود بحدود فكره ونفسه. وقد فطنتني الخبرة إلى أن المادة لا المعرفة هي التي تزيل غرابة الأمور، ولولا اعتياد الإنسان الحقائق المألوفة لقطع ببطلان ما لم يتعود منها. وهذا يذكرني الدكتور صمويل جونسون، وهو أديب أريب، ولكنه كان يكذب البحارة بعنف إذا حدثوه عن بعض الظاهرات الطبيعية التي تحدث في البحار مثل ارتفاع مياه البحر في شكل نافورة في بعض مناطق الضغط الجوي المنخفض، وكان يقطع ببطلان قولهم ويعده من الأساطير والخرافات التي أولع بها أهل الرحلات من قديم الزمن، ولكن من غرائب خصال النفوس أنه كان يسرع إلى تصديق أمور أخرى مما يصعب إثباته. وقد يكون للخداع فيه سبيل. وقال مونتاني: «ينبغي للإنسان أن يعرف أن الحياة والعالم كتاب لا آخر له» أي لا يستطيع تقصيهما بالمعرفة.
قد تتبدل وتتغير صفات النفوس الغالبة حسب أحوال الحياة ودوافعها: فإن نيرون الإمبراطور الروماني الذي اشتهر بالطغيان وسفك الدماء كان في أيام شبابه قد طُلِب منه إمضاء حكم الإعدام على أحد الأشقياء، فقال آسفًا: وددت لو أني لم أتعلم الكتابة – وهذا يذكرني روبسبيير زعيم الثورة الفرنسية الكبرى فإنه كان في صباه قاضيًا في محكمة أراس، ولكنه استقال من منصبه كي لا يمضي حكم الإعدام في رجل، وبعد ذلك كان خطيب حكم الإرهاب، وأرغم النواب على إقرار قانون يجيز للمحكمة الثورية أن تحكم بالإعدام من غير سماع أقوال المتهم أو شهوده أو دفاع عنه ومن غير مناقشته، وهو الذي كان في صباه يرفض الحكم بالإعدام، حتى إعدام المعترف بجرمه أو الذي فحصت الأدلة وثبت جرمه بعد البحث ومع ضمانة العدالة في المحاكمة.
اختلاف الميول النفسية والنزعات في النفس الواحدة، حمل بعض المفكرين على أن يروا في كل إنسان أكثر من نفس واحدة، ولكن المفكرين الحديثين يقولون شخصيات لا نفوسًا، وقد لوحظ انفصال الشخصيات في النفس الواحدة في أوقات مختلفة بسبب حوادث أو أمراض، وعلى هذه الحقيقة أسس ستيفنسون القصصي البريطاني قصته المسماة (الدكتور جيكل والمستر هايد) والأول من أهل الخير، والثاني من أهل الشر والإجرام.
من أصعب الصعاب أن نقطع بأننا قد عرفنا الحق الذي لا شك فيه ما دامت حواسنا وملكاتنا، وما دام غيرنا من الناس كلٌّ يمدنا عمدًا أو سهوًا أو جهلًا أو عجزًا بما هو أساس حكمنا مما قد يجافي الصواب. ومن أجل ذلك ينبغي للمرء ألا يتشبث برأي كل التشبث، وعلى ذكر هذا القول أذكر كلمة لأوليفر كرومويل معناها أن من رحمة الإيمان وصحته، أن يؤمن المرء بأنه قد يخطئ، ولكن حتى هذا الإيمان بالخطأ لا يعصم المرء من الخطأ والتشبث به إذ أن صاحبه لا يراه خطأ.
إذا كان تنوع حجج التفكير النظري يدعو إلى الحيرة والارتباك، فإن تنوع تجارب الخبرة قد يدعو إلى حيرة مثلها، لأن الأمور والأحوال المتشابهة مهما عظم أوجه الشبه بينها، لا بد من أن يكون بينها من الاختلاف ما يتطلب نوعًا خاصًّا من أحكام الخبرة، فلا يصح الاعتماد كل الاعتماد على حكم الخبرة والتجربة في أمر من الأمور؛ لأنه مشابه مشابهة قليلة أو كبيرة لأمر آخر خبرناه، فقد يقتضي الاختلاف القليل مسلكًا آخر من مسالك العمل وحكمًا آخر من أحكام العقل، ولكن الناس كثيرًا ما يكتفون بالمشابهة ويتخذونها نبراسًا وهاديًا ودليلًا فيخطئون من حيث لا يفطنون، على أن أحكام الخبرة قابلة للزلل الذي ينشأ بسبب أهواء النفس فشأنها في ذلك شأن التفكير النظري، وهم يحسبون أن الخبرة عاصمة منه لأنها أمر عملي – وهذا يذكرني قول أحد المفكرين الذي قال: «إن خطأ الخبرة بسبب الأهواء قد يكون حتى في تجارب معامل البحث الكيميائي».
قلما يتفق اثنان في الحكم على أمر من الأمور اتفاقًا تامًّا مهما تشابه رأياهما – ولو أن حادثًا حدث في الطريق ورآه كثير من الناس ثم طلب منهم وصفه لاختلفوا في تفاصيل المرئيات حتى ليظن المرء أن بعضهم يكذب عمدًا، ولكن الاختلاف قد يكون من غير كذب متعمد، لأن نظر كل إنسان إلى الأمور يختلف عن نظر غيره بعض الاختلاف إلا إذا كان هناك إيحاء ورغبة في الاتفاق لأرب ما.
اتفق أن رجلًا اتُّهِم بالقتل وشبِّهَت بعض القرائن ولبِّسَت الحقيقة، فحكمت المحكمة عليه بالإعدام، ثم ضُبِط رجل آخر واعترف أنه جنى تلك الجناية وظهرت أدلة ذلك، فأبت المحكمة أن تعيد النظر في الحكم على الرجل الأول احترامًا لقداسة القوانين والشرائع، وهذه سنة لا تزال بعض الدول المتحضرة تأخذ بها. وكثيرًا ما يفعل الناس ذلك ويعملون بهذه السنة في حياتهم الخاصة – وهذا يذكرني قصة تحكي عن كاليجيولا الإمبراطور الروماني إذ حكم على رجل بالإعدام، ثم ظهر أنه لم يجنِ ما نُسِب إليه، فقال: إنه إنسان فإذا لم يكن قد جنى هذه الجناية فلا بد أن يكون قد جنى جناية أخرى فاقتلوه، وهذا من عنت القضاء وجنون الحاكم، ولكن للناس ما يشابه هذه الصفة.
ادعاء المرء أنه يعرف نفسه دليل على أنه يجهلها. فإن المرء يسبر غور النفس ويجد بعد طول ممارسته للبحث فيها أن الذي يعرفه من أمورها وأحوالها قليل جدًّا إذا قيس بما لا يعرف.
الناس يكرهون النقد، وهذا بالرغم من ادعائهم ضد ذلك، وقد يلح إنسان على صديق ويدعوه إلى نقد نفسه أو أعماله أو أقواله ويدعي أنه يحب الصراحة ويكره التملق، فإذا خُدِع صديقه بهذا الادعاء ونقد أعماله أو أقواله أو صفاته وجد منه نفورًا أو عداءً أو حقدًا أو غيظًا، وكل منا يلوم الحكام لحبهم التملق، وكل منا يود أن يحاط بالمتملقين – إلا إذا خشينا من تملقهم أن يراد به الاحتيال لنيل ما لا نريد أن نجود به.
ينبغي للإنسان أن يزداد قوة بمعرفة سقطات عقله ونفسه، وأن يكون مثل الجني في أساطير الإغريق الذي قيل إن أمه الأرض وإنه كان كلما صُرِع وغُلِب ومسَّ جسمه الأرض ازداد قوة ونشاطًا وقدرة على الكفاح.
ينبغي لكل إنسان ألا يحكم على أعماله بظاهر ما يؤيدها به من حجج. وأن يعود نفسه على أن يبحث عما وراء ذلك من أسباب مستترة ولا يطمئن حتى يصير ذلك البحث عادة تؤاتيه من تلقاء نفسها، ولكن ينبغي مع ذلك أن يعرف أن هذا البحث مطلب عسير، إذ أن النفس كثيرًا ما تضلل صاحبها فيه بوسائل مختلفة.
إن الإنسان الذي يتطلع إلى بلوغ منزلة كمال الملائكة قد تتدلى به غرائزه في سبيل هذا المطلب، وتهوي به طبائعه في العمل للوصول إلى منزلة الأبرار حتى يصير في حضيض الشياطين أو في مرتبة البهائم أو الوحوش وهو لا يدري، بل يخيل له أنه يعمل للخير، فينبغي أن يحذر المرء ذلك.
العادة تشكل الحياة كما تهوى، فكأنما هي خمرة الساحرة سيرسية التي يُحكَى عنها في أساطير الإغريق والتي كانت تسقي من تستهويهم خمرة تحيلهم قردة أو خنازير أو وحوشًا ضارية أو حيوانات مستذلة. فليحذر المرء العادة إذا استطاع الحذر منها والتحكم فيها بدل تحكمها فيه، وهي في أول أمرها أسلس قيادًا للمرء وأضعف، فإذا تأصلت ركبته وغلبته على نفسه، وقد يكون تأصلها إما بسبب أن صاحبها يجهل عواقبها ويستلذ مواقعتها ومؤاتاتها، وإما من كسل الرأي والجسم، واليأس من التغلب عليها يؤدي إلى تحكمها وإلى ازدياد سوء عواقبها.
الموسيقا على لذتها إنما هي ائتلاف نغمات مختلفة الأصوات والمخارج والوقع، ومع ذلك يستطيع صاحبها أن يؤلف منها أنغامًا عذبة مقبولة إذا كان ممن يجيد فن الموسيقا، وكذلك من يجيد فن الحياة يستطيع أن يستخدم أحوالها المختلفة من سرور وحزن ونعمة وشقاء وغنى وفقر، لكي يؤلف منها فنًّا مؤتلف النغمات عذبًا مقبولًا.
مقاساة الآلام والخطوب هي في الخوف من مقاساة الآلم والخطوب، فإن المرء بهذا الخوف يقبل على ما يخاف كبعض الحيوانات الضعيفة التي يقال إنها إذا تملكها الذعر كل التملك تقبل على الوحوش التي تفترسها.
كما أن علم الطب مؤسس على التجارب فعلم الحياة أيضًا مؤسس على التجارب، ولا صلاح لها إلا بها – ولكن بعض الناس خُلِقَت لهم غرائز وطبائع يعرفون بها طرق النجاح والصواب وإن قلَّت تجاربهم، كما أن بعضهم لا ينتفع بكثرة تجاربه كالملَّاح الذي يطوف العالم فتحسب أن أسفاره قد جعلته خبيرًا حكيمًا عاقلًا عالمًا، ولكنه قد يرجع من أسفاره وهو جاهل غبي كما كان قبلها، ولم تفده تجاربه ومشاهداته عقلًا أو علمًا.
لا يمتاز الحق على الباطل بأن الحق من حقه أن يُقال في كل زمان ومكان، فقد يكون قول الحق مؤذيًا للناس مضرًّا بالعدل أو قد يكون قوله لا طائل تحته ولا فائدة إلا العناد الذي يجر إلى خبث النفس والحقد والمهاترة، أو قد يكون قول الحق كأنه لم يُقَل من صمم السامع، ولكن متى وجد الإنسان فرصة مؤاتية وزمانًا موافقًا واعتزم أن يتكلم وجب عليه ألا يتعدى الحق وألا يتخطى الصدق إذا وجد أن قوله غير مضر بالعدل والخير، فلو أن رجلًا فر من مجرم حتى غاب عنه ورأيت الطريق التي سلكها وسألك المجرم أن تدله عليها كي يقتله، ما كان من العدل والخير أن تخبره، ولهذا المثل أشباه في الحياة كثيرة.
كثيرًا ما يحكم الناس ويتخذون رأيًا في أمر من الأمور قبل تمام المعرفة وقبل اتخاذ الأهبة للحكم وقبل الاستعداد حتى لا يفوتهم شيء من صواب أمره، وهذه عادة شائعة لها أسباب كثيرة مثل الكسل، أو قلة الاكتراث والاهتمام بالحق، أو الخوف من إرهاق النفس وكدها بالتقصي والتمحيص، أو الاكتفاء برأي الغير وحكمه اعتمادًا على أنه قد كلف نفسه مئونة البحث، وربما لم يكن قد فعل، كما لم يفعل من اعتمد على رأيه، إلى آخر ما هناك من الأسباب العديدة.
إن الإنسان يخلق لنفسه ضرورات، فإن كثيرًا من الأشياء والأمور لا تصير ضرورية إلا لأن الإنسان ألفها فاحتاج إليها، ألا ترى أن الثياب ما كانت ضرورية قبل أن اتخذها الإنسان ورققت بشرته وأعصابه وإحساسه، فإذا حاول أن يستغني عنها بعد ذلك هلك، ولكن قد يستغني عنها من لم يتعودها من القبائل. وقد ذكر هيردوت المؤرخ أن جماجم قدماء المصريين كانت أكثر صلابة من جماجم الفرس؛ لأن قدماء المصريين تعودوا الإقلال من غطاء الرأس أو الاستغناء عنه، وتعود الفرس غطاء الرأس الثقيل، فالعادة تشكل الجسم وتتحكم فيه كما تتحكم العادة أيضًا في النفوس والأمور النفسية. والمؤرخون يقولون إن اتخاذ الإنسان الثياب كان بسبب عصر الثلج الذي زحف فيه الثلج جنوبًا وبرد فيه الجو، فإذا صح ذلك كانت الضرورة هي التي دعت إلى الحاجة للثياب واتخاذها من جلود الحيوانات وفروها قبل أن يتعلم الإنسان الغزل والنسيج، ولكن بعض القبائل حتى في الأقاليم الباردة لا تزال تعيش شبه عارية أو كان ذلك إلى عهد قريب.
ليست عظمة الأمور وقيمتها هي التي تدعو إلى البحث عن أسبابها، بل جدتها أو مفاجأتها أو غرابتها هي التي تدعو إلى ذلك وتغري النفس بالتعلق والشغف بها وباستطلاع أمرها، وهذا يصدق في أكثر الناس إلا من خصص حياته لدراسة أمر هام، ومن أجل ذلك جاءت المخترعات والمستكشفات القديمة عفوًا كالنار مثلًا – ويقال إن البنسلين في عصرنا كُشِف عفوًا، على أن غرابة الأمور لا تمنع من أن تكون لها قيمة وعظمة.
من الخطأ وقلة الإنصاف أن نحتقر بعض الأعمال الضرورية لأنها ممضة متعبة كريهة مع أن الحياة لا تستقيم إلا بها، فضرورة العمل من مقاييس قيمته، والسعيد من تطاوعه نفسه على أن يستنبط سرورًا في كل عمل ضروري يعمله مهما كان كريهًا.
العقل يُعرَف بمَلَكاته، فحيث توجد يوجد العقل. ومن ملكات العقل الحافظة والذاكرة وقياس الأمور والتهدي به إلى الصواب وإلى الرجوع عن الخطأ وهذه ملكات نجدها في الحيوانات والطيور، ومن بحث في حياتها وعرف صفاتها من وفاء وتذكر للجميل وحفظ ما تستوعيه حواسها ومن التأتي للانتقام ممن أساء إليها ومن شهامة أو خبث تعد لهما الوسائل وتدبر الأمور، ومن حزن أو سرور، ومن ندم أو توبة، ومن مكر أو دعابة، ومن تَهَدٍّ إلى الصواب بعد الخطأ ومن نظر إلى ما تستطيع أن تعمله إما بتدريب أو بغير تدريب – لا يستطيع أن ينكر أنها عندها قوة الإدارك وحفظ ما تدركه وعندها التذكر والاستنتاج، وقد أطال مونتاني في ذكر شواهد ذلك وقصصه، وذكر أنها ما كانت تستطيع كل ذلك لولا ملكات العقل المذكورة التي نسبها إليها. وللرحالة (هانز كودنوف) حجج وقصص مثلها في كتاب (جيراني الإفريقيون)، ولجاك لندن القصصي الأميركي أيضًا.
لو كان للكذب وجه واحد فربما استطاع الإنسان معرفته، ولكن الأكاذيب تختلط وتتفاعل فتنشأ عنها أكاذيب أخرى مختلفة الوجوه والأنواع والأشكال، فلا تستطاع معرفة الباطل بسبب هذا التفاعل، وقد يكون الكذب شبيهًا بالحق فيخدم المرء وجه الشبه أو قد يكون في الكذب شيء من الحق وكل ما أضيف إليه من الكذب والباطل يخرجه عن حد الحق، وقد يجعله أبلغ في باب الكذب.
من الخطأ أن يحتقر المتعلق بأمور الروح أو صفات العقل جسمه إكرامًا لنفسه، فإنه لا كرامة للنفس من غير كرامة الجسم والاهتمام بأموره.