بعض المزايا التافهة التي نجدها في أنفسنا قد لا نقيم لها وزنًا ولا نأبه لها، ولكنها قد تزداد منزلة وتكتسب قيمة كبيرة في نظرنا إذا أحببنا من يهتم لها ويقدرها ويرى لها فضلًا كبيرًا.
بالرغم من ميل النفس إلى التخلص من سيطرة المسيطر عليها فإنها تشعر بخشوع واحترام وإعظام لمن يستطيع ضرها والتحكُّم فيها (فإذا استطاعت التخلص من ذلك التحكم بطل سحر الخشوع والخوف وحلَّ محله العداء والسخر، وقد يزداد العداء بمقدار قديم خشوعها وبمقدار خوفها أو حذرها من عودة ذلك التحكم إلَّا إذا كان تحكُّمًا محبوبًا كتحكم المحبوب وأقربائه ومن يلوذ به ويقرب إليه، ومع ذلك فقد يخالط الحب العداء بسبب بين الخشوع والخضوع والذل) وقد يبقى أثر الخشوع بعد السيطرة.
من المألوف أن التفكير في شيء أو الرغبة في الحديث والتفكير في معاني ما سيقال قد يمنعان المرء من سماع ما يُقال له – بل إن كل ذلك قد يمنع من أكثر من ذلك، فيمنع من رؤية الأشياء وتدبرها كأن ما قيل لم يُقل وما رُئيَ غير موجود، وهذا يذكرني قول المستر تشرشيل في كتابه في حرب الدراويش في السودان: إنه في إحدى المواقع كان مشغول الفكر يتدبر الموقعة حتى إنه لم يسمع قصف المدافع وأصوات طلقات رصاص البنادق وغيرها من الأصوات فكأنما كان ينظر إلى صورة معركة – أو إلى السينما الصامتة، ويتفق أن يمر بالمرء صديق يحييه فيغفل عنه وعن تحيته سواءٌ رآه أو لم يره، وما تلك الغفلة إلَّا من انشغال البال وإعمال الفكر.
إذا حسد الإنسان غيره فإنه يستطيع أن يقنع نفسه أنه لا يحسده، بل يحتقره ويزدريه أو يكرهه لعيب فيه – كثيرًا ما يخفي مظهر هذا الحسد عن صاحبه وعن الناس؛ لأنه يتقن التخفي ويتخذ لباسًا من الأمور الممدوحة. والواقع أن المرء يستطيع أن يقنع نفسه بهذه الوسيلة. أنه لا يحسد بل يحتقر، كلما أوغل في إقناع نفسه استطاع أن يقنع الناس أيضًا. ومن أجل ذلك قد لا يفطن المرء إلى حسده لغيره كما قد لا يفطن الناس إليه إذا أقنعهم بما أقنع به نفسه.
كنت أرى في أسرة جرمانتس ذلك التحول الذي ذاع في عهد لويس الرابع عشر، أي تحول الإحساسات والأخلاق والفضائل إلى مظاهر من مظاهر اللطافة في المقابلة والحديث والحركات وهي تخفي تحتها خشونة في الأخلاق والإحساسات أو القسوة وقلة الاهتمام بما يعتري الناس من آلام الحياة، ولا أحسب أن بروست يريد أن يقصر هذه الظاهرة على أسرة أو طائفة أو عصر من عصور الإنسانية، وإن كانت أكثر ذيوعًا فيه وفي طبقة خاصة فإن الأثرة إذا اقترنت بحب ادعاء الفضائل ولدت مثل هذه اللطافة الكاذبة إذا وجد المرء فيها إخفاء لحقيقة نفسه، ومن الغريب أن طائفة أخرى من الناس تحاول أن تخفي قسوة أخلاقها وإحساسها بادعاء الصراحة التامة والتهجم بهذه الصراحة الكاذبة في خشونة تشبع نهمة الأثرة في النفس، ثم تدعي أن كل ذلك من فضيلة الصراحة.
بعض الناس إذا أدَّيت له معروفًا أو أهديت إليه هدية محبوبة يمتلكه السرور حتى يعجز عن النطق بالشكر، فإذا رآه المُهدِي المؤدِّي للمعروف وكان مثقفًا فطنًا حاضر الذهن بصيرًا بالنفوس وجد في عجزه عن الشكر وحيائه في مغالبة الفرح ما هو أجلُّ من الشكر، أما إذا كان على نقيض هذه الصفات لم يفطن إلى ذلك الاعتراف الصامت بما أدَّى من معروف فيحسب أن من نال المعروف جاحد للنعمة. ومن أجل كثيرًا ما ينشأ سوء التفاهم والفهم بين الناس.
قد يسمع المرء كلمة فيرى فيها تعريضًا به أو إساءة إليه، ولا يظهر أثر ذلك إلا بعد مضي زمن قد يطول، وقد يظن قائلها أو صانع الإساءة أنها قد نُسِيَت، وإنما يظن ذلك لأن من مصلحة المسيء أو ما يراه مصلحة أن ينسى إساءته ولكنها تختمر في نفس من أسيء إليه، وبعض الناس كأن لهم ملكة ينسون بها ويحسبون أن من أساءوا إليهم يحبونهم ويودونهم وقد يظهرون لهم الود ويتحينون فرصة للانتقام والغدر – وقد يدهش هذا الذي ينسى إساءته ويتعجب؛ لأنه مخدوع بنفسه وبالناس من كثرة نسيانه إساءاته.
الجمال الذي لا تلمحه غير لمحة عارضة مرة واحدة ويغيب عنك قد يكون له أثر في النفس أكثر من الجمال المألوف، وقد يكون التفكير فيه أكثر والشغف به أعظم وأتم، ومن الغريب أنه قد لا يشغف النفس إلَّا بعد غيابه، وقد لا يكون له غير أثر ضئيل في نشأة الدافع النفسي المُلِح الذي يدفع إلى التعلق به وإلى استعادة ذكراه والحنين إليه، والواقع هو أن أثر أحاسيس الحب وصور المحبوب من العاشق نفسه لا من المعشوق.
إن عقولنا دائمًا تنسى من أحوال من نعرفهم ومن صفاتهم وأمورهم ما لا يتفق وحاجاتنا الحاضرة التي نباشرها، فإذا تغيرت تلك الحاجات والرغبات والنزعات فإننا نتذكر ما نسينا ثم ننسى ما يتفق ورغباتنا الجديدة، وهذا مظهر من مظاهر القاعدة السيكولوجية العامة التي ذكرها فرويد في كتاب – العلل النفسية في الحياة اليومية – أي إن النفس تستطيع أن تنسى عمدًا ما ترى في نسيانه نفعًا أو زينة، وقد كان فرويد يتحدث عما تنساه من أمورها وبروست يتحدث عما تنساه من أمور الناس.
إذا وجدنا في أول عهدنا بمعاشرة بعض الناس شيئًا مما نكره ونبغض فإننا بعد أن نألفهم وتزول الوحشة وبعد أن يخفى عنا بسبب ذلك ما كرهنا في أول لقاء وعشرة لا نزال نشعر في صميم النفس بشيء من القلق توَقُّعًا لعودة ظهور ذلك الأمر القديم المكروه فيكون سرورنا بلقياهم ممزوجًا بخشية رجوع ما لا نود منهم — وهذا يصدق أكثر مما يصدق في ذوي الإحساس والخيال والذاكرة القوية أو في ذوي الحذر الذين يبالغون في الحيطة من الناس، ولكن الواقع هو أن المرء يحاول أن ينسى عن أصدقائه ما لا يتفق ونزعاته الحاضرة، كما قال بروست في النظرة السابقة.
بعض السرور لا يلتذه المرء وقت حدوثه، وإنما يلتذه بذكراه وكأن صورة السرور التي حصل عليها عند حدوثه هي الصورة الفوتوغرافية السوداء التي تؤخذ إلى حجرة مظلمة وتستخرج منها الصورة الواضحة، وكذلك بعض السرور يحتاج إلى حجرة النفس المظلمة أو وعيها الباطن كي تستخرج منه صورته الواضحة – وقد يصدق هذا أيضًا في أسباب الحزن والإساءة.
كنت في سذاجة الطفولة والصغر أحسب أن المتحابين المتآلفين تخطر في نفوسهم خطرت متجانسة وإحساسات متشابهة في وقت واحد من صفاء الألفة والمحبة وتختلج في نفوسهم النزعات المتقاربة والرغبات المتفقة في وقت واحد، ولكن الحياة علمتني أن هذا قلما يكون، وأن أكثره من وهم المحبة وخيال الألفة، وأن الواقع يخالفه؛ فإني عندما كنت أذكر أبوي بحنان وعطف يتضح لي أنهما كانا يتذكران ذنبًا لي نسيته، وأنهما يريدان أن يؤنباني أو يعاقباني، وعندما كنت أحس بالحاجة إلى الائتناس بمحادثة صديق عزيز أرى به مللًا من المحادثة.
العاقل المثقف ينتقد الرجل الذي يظهر ما يعرف من غير ضرورة البحث العلمي، بل على سبيل المباهاة والمفاخرة، ولكن للنفس حالات تغري ذلك المهذب المثقف أن يباهي بعمله فيصنع الشيء الذي ينتقده، ولعل امتعاض النفس من الذي يباهي بعلمه من مظاهر الأثرة فيها في أكثر الأحايين، وإن كانت المباهاة بما يعرف المرء منتقدة في كل إنسان إذا لم تكن هناك ضرورة البحث العلمي.
إن من لهم منزلة اجتماعية كبيرة لا يتكلفون غير طبعهم وعاداتهم إلا مع من هم دونهم، وبالعكس ترى من هم دونهم لا يتكلفون إلا مع من هم فوقهم منزلة.
كنت في غرارة الصبا ينطبع في عقلي حديث الناس وادعاؤهم المودة، وكنت أرى كل ذلك حقيقة لا ريب فيها، فما كان يخطر ببالي أن إنسانًا يكذب ويقول أنه يودني وهو لا يودني، فكنت في هذا الأمر كخادمتي فرانسواز التي كانت كلما رأت إعلانًا عن دواء يشفي كل الأمراض أو أكثرها آمنت به، وما كان يخطر ببالها أن التاجر الذي يبيع الدواء دجال يريد الكسب؛ وكان ينبغي أن أعرف أن الناس لا يقولون الحق دائمًا، وأن ملامح الناس وحركاتهم وسكناتهم وهيئة تقاسم أوجههم أدل على الحق من كلامهم (ولا أذكر هل كان فولتير أم تالبران هو الذي قال: إن الإنسان خلق له النطق كي يخفي به الحق، ولعل ذلك القول من فكاهات الأول منهما)، ومما كان أدى إلى تعريفي كذب الناس أني كنت مثلهم أقول غير ما أخفي، ولكن كيف كنت أنتفع بالمثل الذي أعرضه بنفسي على نفسي إلا إذا اعترفت أني أنافق وأكذب. والإنسان كثيرًا ما ينافق ويكذب من غير إدراك لهذه الصفات ومن غير تنبه إليها، إما دفاعًا عن النفس، وإما لنيل غرض عارض، وإما لإشباع عاطفة، وهو يفعل ذلك وذهنه منصرف إلى أمور أخرى، فيسمح لأخلاقه التي في حضيض نفسه بالتخلق بها من غير رادع أو بصيرة متنبهة تبصره بها.
كانت خادمتي فرانسواز تحبني، ومع ذلك فقد علمت أنها قالت إني لا أستحق ثمن الحبل الذي يجب أن أشنق به، فراعني قولها ولا سيما أنها هي التي كانت تلفتني وتفطنني إلى نفاق أصدقائى، فقولها هذا جعلني أشك في حقائق الأشياء كلها، وقلت إن الأشجار والشمس والسماء لعلها ليست كما نراها، أو ربما يراها على أشكال أخرى من يراها بعينين غير عيني الإنسان، أو من يراها بجهاز طبيعي آخر غير العينين: فقد يرى هذا ما هو عوض عنها، وبدأت أشك في أننا نعرف الناس معرفة واضحة، بل بدأ يخيل لي أن ما يقوله كل إنسان أو يعمله إنما هو ظل نرى خلفه شعاع الحب أو لهيب الكره، ولنا مسوغ إذا رأينا هذا أو ذاك، وفطنت إلى أن مزايا الإنسان وعيوبه وإحساساته ومقاصده ليس لكل منها مظهر واحد ثابت محدود – والإنسان بالرغم من ذلك يحاول أن يبسط الحياة والنفوس فيلبسها لباسًا واحدًا ذا لون واحد كما فعل رتشارد الدنجتون في قصة «الناس كلهم أعداء» فإنهم حتى لو صح حكمه لا بد أن يأتدموا بشيء من المودة كي يسيغوا خبز الأحقاد والتحاسد.
ومهما كان للإنسان من شخصية مستقلة فإنه جزء من جماعة أكبر يتأثر بها في أسلوبه وصوته وحركاته وعاداته وعباراته وآرائه. وشخصيته مكتسبة من شخصيات كثيرة ومتصلة بها اتصال عجلات الساعة، ومختلطة بها اختلاط مواد الكيمياء.
إن الإنسان ينمو نمو النبات لا نمو البناء. والنبات ينمو من داخل نفسه والبناء ينمو من خارجه بأن تضاف طبقة على طبقة ولبنة فوق لبنة، نعم إن النبات يستمد الماء والضياء والهواء، ولكن ما يستمده منها لا بد أن يمتزج بكيانه، أما الذي يحاول أن ينمو نمو البناء فلا يزداد بما يضاف إليه، لأنه لم يمتزج بكيانه كما يمتزج الماء والضياء والهواء بكيان النبات.
مباهج غضارة الصبا ومحاسن نضارته تكون قبل أن يتحجر وجه المرء، أي يكون شبيه المتحجر بسبب مكافحة الحياة وأثقالها وعاداتها، فنرى وجه الصبا يتغير ويعطي الرائي مناظر مختلفة تتغير مثل مناظر الطبيعة، فإذا فارقه الصبا قلما يكون إلا متحجرًا فتمل رؤيته. (ويختلف تغير مناظر الوجه حتى في الصبا فإن بعض الوجوه تُسجِّل على تقاسيمها ما يجول في خاطر أصحابها من أفكار وخواطر وإحساسات تسجيلًا واضحًا عظيمًا، فإذا جمع الوجه إلى هذه القدرة على التسجيل الجمال كان لا تمل رؤيته، وقد أدهشتني مرة قدرة وجه إنسان على تسجيل الخواطر حتى كان وجهه يعرض صورة تختلف في كل لمحة ولحظة، وحتى خُيِّل لي أن وجهه يسجل ما في وعيه الباطن كأنه يدركه بالوعي الظاهر، وخُيِّل لي أنَّه أناس كثيرون لا إنسان واحد، وهذه القدرة على تسجيل الوجه لخواطر النفس تُلاحَظ حيث يكون الذكاء والإحساس المرهف).
كما أن القائد يحاول معرفة أماكن الضعف في جيش عدوه كي ينتصر عليه من نواحيها، يتعرَّف الخدم أماكن الضعف في صفات المخدوم كي يعززوا مراكزهم من نواحيها، ومن أجل ذلك كنت أعرف وأدرس أوجه النقص في صفاتي بدراسة سلوك خدمي نحوي: ترى هل من المستطاع تطبيق هذه القاعدة في قصة المأمون الخليفة العباسي الذي أكثر من مناداة غلام خادم والغلام غير آبه، ثم لما ضجر بمناداة الخليفة له قال: أفي كل حين يا غلام يا غلام؟ أما ينبغي للغلام أن يستريح؟ فتعجب أحد ندمائه، فقال المأمون: إذا حسنت أخلاق المخدوم ساءت أخلاق الخادم، وإذا ساءت أخلاق المخدوم حسنت أخلاق الخادم، ونحن لا نرضى أن تسوء أخلاقنا كي تحسن أخلاق خادمنا.
للخدم ما هو شبيه ببريد سري تنتقل به الأخبار من أسرة إلى أسرة بسرعة البرق، كما تنتقل الأخبار في مجاهل إفريقيا بسرعة البرق من قبيلة إلى قبيلة (إما بدقات الطبول وإما بإشارة النار). ولقد كانت دهشتي عظيمة من معرفة خدمي صلاتي بأصدقائي وإحساسهم نحوي قبل أن أعرفه وأستوضحه، وما كان ذلك إلَّا لأن الخدم يلتقطون الكلام أو يسترقون السمع خلسة. ومن كلمات قليلة ولمحات أوجه المخدومين يستطيعون أن يعرفوا ما يريدون كما يستطيع العالم بعلم الحيوان أن يعرف من فحص عظام قليلة كيف يكون الهيكل العظمي للحيوان وهو تام كامل. (ومما يساعد الخدم أن بعض المخدومين ينزلونه في أنفسهم عن مرتبة الإنسان، فلا يتحرجون من الكلام أمامهم كما لا يتحرجون من الكلام أمام الخيل أو القطط أو الكلاب) إلَّا إذا تعمدوا إسماعهم ما يريدون إذاعته لنكاية غير مباشرة.
يخيل للمرء أولًا إذا سمع العصافير أن صوتها كلها صوت واحد لا يتغير، ولكن الذي يحب العصافير ويكثر من سماعها في الغابات يستطيع تمييز أصواتها، فيعرف صوت البلبل ويميزه من صوت القنبرة أو غيرها، وكذلك لا يستطيع أن يميز اختلاف دقائق محاسن الجمال ومباهجه إلَّا من أحبه وألفه. (وهذا أيضًا مشاهد في اكتساب القدرة على تمييز اختلاف الوجوه أو الصفات، وإن كانت الصفات النفسية زئبقية متقلبة، وقد ينزل المرء في أمة نائية فيخيل له أن أكثر أهلها يتشابهون تشابهًا تامًّا إذا كان لم يألف وجوههم من قبل كما يخيل للمرء هذا التشابه التام في أوجه الصينيين أو اليابانيين، فإذا ألفهم استطاع أن يميز الصفات المختلفة).
قد تنبع من الوعي الباطن ذكرى مباغتة، فلا يعرف المرء لماذا ظهرت وتغلبت على باقي الذكريات المنسية التي رسبت بسبب ضغط عدم المبالاة بها الموزع عليها جميعًا على السواء. وكذلك قد يتذكر المرء صور من يود بغتة، ولا يعرف سبب تذكرها ولا يستطيع أن يصل هذه الذكرى بذكرى أمور أخرى تبعثها، فلا تعليل لذلك إلَّا أن للوعي الباطن حياة مستقلة توحي بأمثال هذه الذكريات، على أن بعض ما يتذكر قد يكون تذكره لأسباب تافهة موصولة بها، كأن يشم المرء رائحة، أو يرى أو يلمس شيئًا تافهًا كان قد طرده المرء من وعيه الظاهر لتفاهته لم يستهلك مجهودًا من نفسه فيعود إذا عاد قوي الأثر، وكثيرًا ما يخطئ المرء فيخيل له أن تذكره صورة من يود ناشئ من أن ذلك الذي يود يتذكره في تلك اللحظة، فيحدث الاتصال الروحي (وليس معنى هذا أن الاتصال الروحي عن بعد محال باطل).
كثيرًا ما يتغير شكل الإنسان وتتغير صورته في نظرنا بسبب عوامل في نفسه، وننسى أن هذا التغير قد يكون أيضًا بسبب اختلاف إحساسنا نحوه، فنتعجب من تغيير صورته، ونحن نسبب التغيير أو قد يكون السبب النظر إليه من جهات مختلفة أو في بيئات متغايرة كما تختلف مظاهر المباني إذا نظرت إليها من جهات مختلفة.
أنا بين طائفتين من المعاشرين: طائفة أمنت اغتيابهم لي، لا من سلامة طويتهم وصدق إخلاصهم، بل لقلة مبالاتهم واهتمامهم بأمري، وقلة اهتمامهم تظهر حتى في أحاديث مجالسهم في حضوري، وفي نظراتهم وفي أصواتهم وملامحهم، والطائفة الثانية يتلقاني آحادها بالمودة والحنان والعطف، ثم إذا غبت يأخذون أجرًا على ذلك باغتيابي إذا غبت، ومجالسة الطائفة الثانية أكثر راحة، (وإن كانت راحة قد تكون محاطة بالقلق إذا فطن جليسهم إلى عواقب ائتناسه بهم من اغتيابهم إياه إذا غاب، والواقع أن آحاد الطائفة الثانية يتقنون مظاهر المودة إتقانًا عجيبًا حتى ليدهش المرء الغريب إذا رآهم يغتابون جليسًا انصرف عنهم أشنع اغتياب، بعد أن تلقوه بالترحيب والعطف والثناء والإخاء).
قال لي برجوت: لا داعي لأن يحزنك مرضك؛ فإنه لا يمنعك من لذات الفكر، قلت: بل يمنعني، فنظر إليَّ وقال: أنا واثق أنه لا يمنعك، فأحسست بسرور، بالرغم من أني لم أقتنع. ولهذا السرور أسباب كثيرة منها لذة الإيحاء وقبول النفس له بالرغم من مظاهر عدم الاقتناع، والشعور بعظمة من يتمتع بلذات الفكر، وفي هذا الشعور لذة، ولذة التمتُّع من قبول رأي سار يريد أن يصدقه؛ فإن في هذا التأبي والتمنع لذة ورغبة في أن يردد له. ولذة المغالطة إذ ما من شك أن بروست كان يتمتع بلذات الفكر وإنما عدم اقتناعه مغالطة منه. ولذة في مباشرة أمر سار أو متعة بريئة يخفيها كي يحتال الناس لمعرفة ما يخفي، ولذة في الرثاء لنفسه من عدم القدرة على التمتع بلذات الفكر كما يدعي إلخ.
إن إحساسات المرء وخواطر نفسه لا تتبع دائمًا نظام تاريخ حياته، فهو وإن كان عائشًا بظاهر حسه في الزمن الحاضر، فإنه قد يكون عائشًا في الحقيقة بإحساسه وخواطر نفسه في عهد قديم مضى من حياته قبل حوادث أمس واليوم.
قد يبدي المرء شيئًا من السخر ممزوجًا بالاحترام إذا واجه نوعًا من العظمة يرى أنه من قلة الذوق وقبحه أن يزدريه، ومن الحماقة أن يحتقره، ومن حسن الذوق والفطنة الإشارة إليه بشيء من الدعابة الممزوجة بالاحترام. وبذلك يرضي أثرته كما يرضي ما يحب أن يُعرَف به من حسن الذوق والتمييز والفطنة.
قد يدعو المرء إنسانًا لزيارته على سبيل المجاملة وهو يسر لو أن المدعو لا يقبل الدعوة، ويفرح لو أغفلها، فتأتي الدعوة فاترة ممزوجة بما يشير إلى رفضها، وهكذا دعا سنت لوب بلوش لزيارته قائلًا: «ولكني قلما أكون موجودًا» كي يظهر أنه غير جاد في دعوته. ولكن بلوش بالرغم من هذا التنبيط الظاهر صار يمدح تلطف سنت لوب ويقول: «بعد هذا التلطف منه ينبغي أن نزوره عاجلًا وإلَّا كان امتناعنا عن زيارته أو تأخيرها خارجًا عن حدود اللياقة». وغضب مني لأني لم أوافقه ولم أحدد ميعادًا لتلك الزيارة، وما كان يمكننني أن ألفته إلى أن صيغة الدعوة دليل على الرغبة في رفضها.
للجفاء أسباب عديدة منها خشية المحب أن يظهر حبه فيتغاضب ويدعي الجفاء (ومن الناس من يتغاضب ويدعي الجفاء أمام الناس كى يعرفوا أنه يستطيع أن يعامل إنسانًا يفوقه بمظاهر الغضب أو الجفاء أو بلهجة الأمر).
أعز الحكمة وأثمنها التي نقتبسها بأن نعيش ونتغلب على زلاتنا، وليست هي التي تلقن بالتعليم أو الأمر، وإنما صاحب الثانية كالعبد الذي يعمل الصواب كما أُمِر، ولا فضل له في صوابه.
كان «لجراند» عندما يكون في صحبة مدام ف. يتحرك كأنه لعبة تحركها السعادة كما يحرك الأطفال لعبهم التي لا حياة فيها، وبعض الناس إذا استسلموا للسعادة العارضة كانوا أشبه الأشياء بتلك اللعب؛ لأنهم لا سيطرة لهم على حركاتهم وأعضائهم.
مما يدل على أن آراء الناس وفق رغباتهم وميولهم أن المرأة من العامة إذا تلطفت معها امرأة نبيلة غبية قبيحة الوجه والشكل تنسى غباوة المتلطفة وقبح وجهها، ولا تفتأ تذكر ذكاءها وفطنتها وحسنها، وكذلك قد يتلطف الرجل مع من هو أقل منه منزلة تلطفًا ممزوجًا بالزهو والخيلاء الكامنين، فينسى هذا عيوب الرجل المتلطف معه، وقد يصفه بأضدادها من المحاسن.
في بعض الأحايين إذا توقع المرء حادثًا في حياته مستقبلًا يخيل له أن حياته كالمسرح الذي يمثل عليه فصل من القصة، بينما تعد معدات الفصل التالي وراء ستار خلفي.