ينتمي مارسيل بروست إلى أسرة يهودية فرنسية نشأت نشأة مسيحية كاثوليكية. وله صلة قرابة بالفيلسوف الفرنسي المشهور هنري برجسون، وكتب مارسيل بروست على صعوبة قراءتها لا يستغني عنها الباحث في النفس، وقد وجد نقادًا ومعجبين به، فمن نُقَّاده من ذكر أنه ينظر إلى الحياة بالمكرسكوب، أي العدسة التي يُنْظَرُ بها إلى الأمور الصغيرة؛ فقال بروست: إنه ينظر بالتلسكوب، أي العدسة التي تُرَى بها الأمور البعيدة، والواقع أنه ينظر بالاثنين معًا بالمكرسكوب والتلسكوب. ومنهم من سماه على سبيل الفكاهة مس جين أوستن الفرنسية، يعني القصصية الإنجليزية المعروفة. وهذا الوصف لا يشابه الحقيقة إلَّا كما تشابه الحقيقة الصورة الكاريكاتورية المبالغ في بعض ملامحها على سبيل الفكاهة، وصحيح أنه يتفق وجين أوستن في ولوعهما بأحاديث المجتمعات والمجالس في القصص، وأن لكل منهما بصيرة سيكولوجية وأنهما قد يهتمان بالأمور الصغيرة، ولكن بروست يتوغل في الأمور السيكولوجية – أي النفسية – توغلًا لا مثيل له. وقد نشأ مريضًا مُعْتَلًّا وقضى الثلث الأخير من حياته في بيته لمرضه، واتهمه ناقد آخر بأنه كان في أكثر قصصه مولعًا بحياة النبلاء والأغنياء ومن اتصل بهم من الخدم وأنه لم يرَ الحياة كاملة من كل وجه كما رآها شكسبير أو بلزاك أو أناتول فرانس، ولكن ولوعه بحياة هؤلاء القوم كان ولوع الباحث لا ولوع المعجب المأخوذ بما يرى، وإذا وصل في بحثه إلى حقيقة سيكولوجية فإنها حقيقة في كل النفوس بلا تمييز بين الطبقات، وقد نشأ لاعتلاله بين النساء، ولعلَّ ذلك أكسبه شيئًا من أسلوب النساء في التحدث عن جيرانهنَّ والاهتمام بأحاديث المجتمعات مهما كانت تلك الأحاديث صغيرة، وإعطاء تلك الأحاديث في بعض الأحايين قيمة نفسية أكبر من قيمتها، ولكن القارئ إذا صبر على قراءتها عاد بفائدة ما قد تحتويه في بعض الأحايين من الدراسات النفسية التي تتخللها، وبالرغم مما قد يعترض القارئ فيها من الملل فإن بعض كتبه قطعًا لا يمل القارئ معاودة قراءتها، وقد يستطرد في تتبع البحث النفسي استطرادًا بعيدًا. وله أسلوب شائق في وصف مناظر الطبيعة والناس. وقد اعترف سمرست موُام القصصي في كتابه المسمى (بالخلاصة)، أنه شعر بملل شديد في قراءته كتاب (طريقة جرمانتيس) من كتب بروست، وقد شعرت بمثل هذا الملل، ولعلَّ من أسباب الملل أيضًا أن القارئ يود أن يقرأ عن حوادث هامة، وقصصه ليست قصص حوادث بل قصص زيارات وأحاديث أو بحث نفسي، أو يود أن يقرأ شيئًا من مثل فكاهة أو سخر أناتول فرانس الحيوي، وقد ذكر هافلوك إيليس في كتابه المسمى (رقصة الحياة) وهو اسم رمزي مدحًا كثيرًا لطريقة بروست في البحث النفسي ولا سيما في كتابه المسمَّى (في الأجمة المزهرة) وأحسب أن هافلوك إيليس كان مصيبًا في اختيار هذا الكتاب من كتب بروست ولو أن بعض المعجبين به يفضلون كتابه المسمى (طريقة سوان) ولكني أفضل ما اختاره هافلوك إيليس وأراه أملأ لنفس القارئ، إلَّا إني أرى أن كاتبًا مثل بروست لا ينال الإنصاف التام، ولا يُعرَف مقدار بحثه في النفس إلَّا بقراءَة كتبه كلها إذا كان ذلك من المستطاع، وبروست يذكر أن حياة الأثرياء التي يصفها حياة تبعث الملل بالرغم من وجاهتها وزينتها، فإذا كان ذلك حقًّا فهو يزيد في براعة فنه الذي به استخلص منها الحقائق النفسية العديدة.
ومن نظراته النفسية ما يلي:
كثير من الناس يرددون آراء معاشريهم بشغف واهتمام خاص إذا كانوا لم يعرفوها من قبل، ولا يستطيعون الحكم عليها أصواب هي أم خطأ، وإنما يولعون بترديدها وإظهار اللهفة في ذكرها، وقد يقنعون السامع أنها آراؤهم وأنهم قادرون على فهمهما والحكم عليها.
قد يسوء رأي المتحدث في سامعه، ولكنه مع ذلك يشركه في سماع ذم إنسان آخر غائب، كأنما السامع خالٍ من صفات الذم التي ذكرها، فيسرع سامعه إلى التصديق والموافقة بشغف ولهفة وبضحك ومسرة؛ كي يبعد عن نفسه احتمال الوصف بالصفات المذمومة المذكورة، وهو قد يعرف أن محدثه يغتابه كما اغتاب الغائب، ويذمه في غيبته كما ذم الآخر، ولكن ذلك لا يمنعه من مشاركته في ذم المذموم ظنًّا منه أن موافقته قد تبعد الريبة عن نفسه وتمنع محدثه عن اغتيابه في المستقبل، وهذه منه محاولة خائبة، ولكنها تتجدد وتبعث الأمل والزهو والارتياح.
في بعض الأحايين تبدر من إنسان شرير بادرة حنان وعطف أو يؤدي معروفًا غير متوقع، فنشعر بارتياح نحوه وشكر له أكثر من ارتياحنا وشكرنا إذا كان غير شرير. ولعلَّ في شكرنا وارتياحنا تلهفًا إلى الاطمئنان من شره وارتياحًا لزوال توقع الشر منه أو سرورًا وتعاظمًا باختياره إيانا لعطفه وخيره وإن اختار غيرنا شره، وهذا بالرغم من أننا قد نسيء الظن بالباعث الذي بعثه على الخير وهو شرير. ولعلنا لا نشعر بهذه اللهفة والارتياح إذا كان العطف أو المعروف من رجل من أهل الخير؛ لأن العطف أمرٌ مفروض ومتوقع من مثله.
من طبيعة الكذب أن الكاذب مهما أتقن كذبه، تبدو منه فلتة صغيرة في أثناء إحكام الكذب وحبكه، وهو يظن أن سامعه لا يهتم بالتأكيد من صدقها والبحث عن حقيقتها لصغر شأنها، ولكن سامعه قد يتتبعها بالبحث ويتأكد من كذبها فتكون سببًا في كشف كل كذبه، وتدعو إلى سوء الظن به وسوء الرأي فيه، وقد تطلع هذه الفلتة الصغيرة سامعه بغتة على كذبه فَيُفَاجأ الكاذب مفاجأة غير سارة ويحاول تفسيرها وتلافيها فلا يستطيع، وهذا كما يقال في المجرم الذي يفكر ويتخذ كل أهبة لمنع نسبة الجريمة إليه، ثم هو بالرغم من كل تفكيره واحتياطه يترك أمرًا صغيرًا يدل عليه لا يفطن له ويكون السبب في كشف جرمه.
متى أقنع الإنسان نفسه أنه ذو أخلاق سامية ثم حقد على إنسان أو غضب عليه فإنه ربما استطاع أن يحمل نفسه على ارتكاب أي عمل دنيء لإشباع حقده وإرضاء غضبه، إذ أي شيء لا يكون مباحًا حلالًا للقِدِّيس الفاضل والملكِ الطاهر الذي يراه في نفسه.
بعض المهذبين المثقفين إذا أدَّوْا خدمة أو أهدوا هدية قللوا من قيمتها وأصغروا من شأنها مجاملة وتأدبًا وتلطفًا في العشرة، ولكن بعض من تُهدَى إليه الهدية أو تُؤدَى له الخدمة يأخذ قولهم مأخذ الجد، فيوافقهم عليه بطريق مباشر أو غير مباشر، إمَّا من قبح الذوق أو قلة العقل أو حُبًّا للتعاظم، فتكون موافقته لمن أدوا له الخدمة باعثة للامتعاض أو الغيظ، فيمتنعون من التلطف والتجمل معه أو من أداء أي خدمة أو صنع أي معروف.
قد يمدح المادح إنسانًا ولا رغبة له في مدحه إلَّا للتعريض بسامعه، كأنَّ المادح يريد أن يقول لسامعه إنه ليس على صفات المدح التي ذكرها في الممدوح، وقد يَفْتنُّ في إظهار قصده المستتر بلباقة تمنع من صراحة المؤاخذة فَيحَارُ السامع ويرتبك، وقد يجاري المادح في مدح الممدوح لا رغبةً في مدحه ولا لأنه يعتقد أن الممدوح يستحق كل هذا المدح وإنما يجاري المادح خشية – إذا لم يجاره – أن يقال إنه يكره صفات المدح المذكورة في الحديث وإنه فطن إلى التعريض به وإنه يستحق ذلك التعريض به.
كانت السيدة فيردوران لا تدعو إلى منزلها من الضيوف إلا من يوافقها على رأي مهما كان سخيفًا، وعلى كل قول باطلًا محالًا، فلم يبق لها من الزوار غير المستذلين المستضعفين، وكانت تقول لهم إن فلانة النبيلة الثرية لا يزورها الضيوف والزوار إلا لأنها تدفع أجرًا كبيرًا لمن يزورها على زيارته لها، وبالرغم من أن ضيوف السيدة فيردوران كانوا يتمنون أن تدعوهم تلك النبيلة الثرية وبالرغم من أنهم كانوا يعرفون أن الناس يتلهفون ويتوقون إلى زيارة تلك النبيلة الثرية وأن قصة دفعها أجرًا لمن يزورها قصة ملفقة باطلة، فإن أمثالهم من المحرومين الذين تستذلهم السيدة فيردوران لآرائها وأقولها كانوا يستطيعون أن يحملوا نفوسهم على نسيان الحقيقة وإنكارها، ويستطيعون أن يصدفوا قولها عن تلك النبيلة الثرية، وكان يحلو لهم إدعاء الترفع عن زيارة نبيلة تدفع أجرًا لمن يزورها على زيارته كما أوهموا أنفسهم وصدقوا، وهكذا تستطيع النفس أن تقبل المحال الباطل الذي لا يخفى بطلانه، إذا كان فيه ما يرضي زهوها أو حسدها أو حقدها أو حتى ما يرضي إيحاء الموحي الباطل إذا رجت من ذلك الموحي بالباطل عطفًا أو ما يرضي أهواءها وخواطرها السانحة التي تستعز بها.
لعل من أسباب نسبة المُحَدِّث عيوب نفسه إلى غيره من الناس، التلذذ بالتحدث عن نفسه بطريقة غير صريحة، وهي طريقة تطهيره من تلك العيوب في نظر بعض الناس كما يظن، وتعطيه لذة المعترف اعترافًا غير صريح وغير محسوس وكأنه يجد لذة في مباشرة عيوبه التي ينسبها إلى الناس من غير أن يؤاخذه الناس على تلك اللذة ومن غير أن يفطنوا إليها، وكل إنسان مشغول منهوم بصفات نفسه ويخادعها في تلك اللفتات وهو يحسب أنه يرى الناس مرآة لنفسه فينسب إليهم ما لا يزينه، وعلاوة على ذلك فإن كل سيئة في نفس المتحدث كأنها مهنة يعرف أسرارها وكل عيب كأنه حرفة يدرك خفاياها، وكل صاحب مهنة أو حرفة مولع بالتحدث عن حرفته أو مهنته؛ لأنه يعرفها أكثر مما يعرف أي شيء آخر، كما يحلو للطبيب أن يتحدث عن الطب، وللمعلم أن يتحدث عن التعليم، وللمحامي والقاضي أن يتحدثا عن القضاء والقوانين، وللنجار أن يتحدث عن النجارة، وللزارع أن يتحدث عن الزراعة، وكذلك صاحب السيئة والعيب، يتحدث عنهما كأنهما مهنة أو حرفة الكلام فيهما غالب على لسانه، ولكنه ينسبهما إلى الناس بقصد التجمل والترفع.
بالرغم من شرور الناس وقسوتهم وتحاسدهم، فإن كل نفس بها جانب من الخير والحنان والكرم والرقة، وقد تجده غريبًا في النفس بين صفات تخالفه كما قد تجد الزهرة النادرة النفيسة غريبة في وادٍ موحش قفر مجد. وإذا منعت الأثرة ومنع حب النفس من ظهور جانب الخير من النفس، فإن تلك الرقة وذلك الحنان والكرم صفات موجودة مستترة فهي موجودة بالرغم من خفائها. وقد تجد الرجل الفظ الغليظ الطبع القاسي إذا قرأ قصة مؤثرة يبكي لما حل بالضعفاء والأبرياء فيها الآلام والظلم حتى تفيض دموعه وتبلل وجهه، وهو قد لا يتورع في أعمال الحياة من أن يفعل مثل ذلك الظلم الذي أثار عطفه وأراق دموعه عندما قرأ القصة، ولكن الإنسان إذا قسا أو ظلم سوغ عمله. فإنه يعد نفسه دائما عادلًا مهما كان قاسيًا ظالمًا، ويقول إن القسوة قد تكون نوعًا من الرحمة، بمثل هذا القول يسوغ المرء إتيان ما يجلب له منفعته أو يرضي نهمة غضبه بالرغم من جانب الرقة والعطف في نفسه.
كثيرًا ما يقول إنسان لآخر يسرني أن أفعل كذا كي أسرك ثم يحسب أنه قد أدى له خدمة، أو صنع معه معروفًا، وما يهم السامع ليس ما يدعي القائل أنه يود عمله ليسره، بل ما يستطيع أن يعمله كي يسره، ولكن القائل يستطيع أن ينسى ذلك وأن ينسى أنه لم يعمل ما يدعي أنه يود أن يعمله كي يسر السامع، ويكاد يقنع نفسه أنه في الواقع قد صنع معروفًا وأدى خدمة، والمجاملة في الكلام محمودة ولا شك، ولكن من غير المحمود أن يغالط المجامل القائل نفسه حتى يظن أن المجاملة تقوم مقام الحقيقة وحتى يحسب أن سامعه مدين له بالمعروف الذي يكاد يقنع نفسه أنه أداه.
إذا وصف إنسان إنسانًا آخر أمامك بمدح أو شر، فإنك قد لا تصدق القائل، ومع ذلك تتأثر بقوله المرفوض بالرغم منك أو قد تتأثر كلما رأيت ذلك الإنسان الموصوف أو كلما فكرت فيه أو سمعت به أو اتصلت به أي اتصال، ولعل ذلك من طرق الإيحاء، ولعل هذا التأثر يكون في الوصف بالشر أكثر مما يكون في الوصف بالخير؛ لأن أثرة النفس تجعلها أميل إلى التأثر بالشر إلا إذا كانت لها عند الموصوف حاجة ورأت أن الحصول عليها بأن تتأثر بوصف الواصف له إذا كان خيرًا.
إن الإنسان إذا حدثه مُحَدِّث مغرم بأن يطبق على نفسه كل حديث بالخير أو الشر؛ إذ أنه يفكر في نفسه حتى ولو كان محلقًا في سماء التفكير النظري العام، وبعض الناس يستطيعون إخفاء هذا التطبيق إذا كان الحديث كريهًا يخفض من قدر أنفسهم ويظهرون أنهم لم يطبقوا الحديث على أنفسهم ولا صلة لهم بموضوعه، وبعضهم ترى في عينيه شيئًا من الشك والقلق وسوء الظن خشية أن يكون المحدث يريد بحديثه النظري العام الإشارة إلى شيء في أنفسهم لا يستملح.
ليس الإفحام في المجادلة والمحاجة دليلًا دائمًا على رجاحة رأي المناظر الذي أفحمك، فقد يفحمك المجادل فلا تستطيع الرد والقول، إذا كانت آراؤه لا اتصال لها بنفسك وعقلك أو لا حقيقة لها على الإطلاق، أما المناظر اللبق فهو إذا أدلى بحجة ورأي راجح قد يستطيع أن يجد جانبًا من عقلك يألف ذلك الرأي وإن خالفته فيستطيع أن يتصل بأفكارك ويلقحها كما تلقح الأشجار؛ ومن أجل ذلك كان «برجوت» إذا ناظرني أستطيع أن أرد عليه القول، ولكن رأيه كان يلقح رأيي ويتداخل في نفسي، وكانت طريقته في المناظرة أن يرد على قولي بما يخالف رأيي وكأنه لا يخالفه إلا في بعض الأمور دون بعضها، فكان يصل رأيه برأيي مظهرًا موضع الاتفاق، حتي ولو كان صغيرًا، وموضع الاختلاف وأسباب الاختلاف، فتكون مقبولة أكثر مما تكون لو فصل بين رأيي ورأيه فصلًا تامًّا.
إن سرور المرء إذا فهمه وقدَّرَهُ رجل ذو عقل كبير راجح، أقل من غيظه أو حزنه إذا لم تفهمه ولم تقدره امرأة، كأنها لا عقل لها ولا ذكاء، لغباوتها، إذا كان يحبها؛ فالإنسان يغتبط إذا فهمه من يحبه أكثر من اغتباطه إذا فهمه من لا يحبه.
إن اتفاق الآراء والنظريات لا يؤدي إلى تداني المثقفين قدر ما يؤدي إلى تدانيهم ائتلاف الأرواح والأذواق والأمزجة، وقد يُظهر المرء امتعاضًا وغيظًا إذا وافقه على رأي يستعز به إنسان يعتقد أنه فاسد الذوق جامح الروح ثقيل الظل حتى ليكاد من امتعاضه وغيظه أن يتهم الرأي الذي شاكله فيه ووافقه عليه من يستثقل من الناس، إلَّا إذا كان صاحب الرأي سياسيًّا فيخفي غير ما يظهر؛ لأن همَّ السياسي كسب الأنصار وإن كان يستثقلهم، أو إذا كان صاحب الرأي فيه ذلك الشعور بالنقص الذي يدفعه إلى العطف على كل من يردد رأيه ويوافقه عليه، وإن كان يخالف ذوقه ومزاجه. ومع ذلك فإن الرغبة في احتكار الرأي لنفسه ولمن وافق مزاجه وذوقه نوع من الأثرة وحب الذات.
كثيرًا ما يدعي المرء عاطفة أو يتصنع شعورًا أو يهيئ فكرة باطلة وهو يعرف بطلان كل ذلك، فإذا لجَّ به هذا الادعاء وألحَّ عليه التصنع انقلبت هذه الأمور في نفسه حقائق ومَثَلُهُ مَثَلُ الإنسان إذا أوحى إلى نفسه أنه مريض فلا يزال به الإيحاء النفسي حتى يكون مريضًا معتلًّا، وكذلك إذا ادَّعَى على إنسان دعوى تستوجب الملامة والمؤاخذة وهو يعرف أنها دعوى باطلة، فإنه لا يلبث أن يصير ادعاؤه حقيقة في نفسه، إذا لم يُراجَع مراجعة تؤدي إلى التفاهم.
مما كنت أتعجب له أن «بلوش» كان كثيرًا ما يذم من لا يستحق بعض ذمه أو كله حبًّا للذم لا لسبب آخر، كما أنه كان يمدح من لا يستحق كل مدحه أو بعضه. وقد يختلف تفسير هذه الظاهرة منه؛ فلعله كان يتخذ من مدح الممدوح وسيلة يخدع بها السامع كي يقبل ذم من يذمه، إذ أن مدحه الناس قد يُبْعد عن الأذهان أنه حقود سيئ الرأي في الناس، فإذا ذمَّ بعضهم تلمسوا له عذرًا أو لعل التفسير أنه كان يرى في مدح الممدوح تكفيرًا عن ذم المذموم، أو لعلَّ الدافعين كانا يمتزجان في نفسه، أو قد يكون المدح والذم استجابة منه للحالة الغالبة على نفسه من راحة أو تعب أو حزن أو سرور أو غيظ عام يحيله على إنسان معين أو ارتياح عام يشمل به إنسان آخر فيصير مدحًا، وهذه الصفات كلها تُشاهَد في الناس.
كان «بلوش» يُقْسِم ويحلف لا أملًا في إقناع الناس بصدق الكذب الذي كان ينمقه بالقسَم، فما أظن أنه كان يأمل ذلك، وإنما كان يُقْسِم بدافع أشبه بالهستيريا وانسياقًا مع الشعور المتغلب على نفسه وجسمه، وذلك الدافع إلى الحلف والقسم كان يمنحه لذة شديدة في تزيين الكذب بالحلف وتجميله بالقسم، وكان وهو يحلف يُخَيَّل لمن يراه أنه يفيض حنانًا ورقة ويذوب لطافة وإن كان موضوع الحلف يخالف كل ذلك، وكأنما كان ينتشي من عذوبة الإحساس الغالب عليه الذي دفعه إلى الحلف كذبًا – وبعضهم إذا حلف كذبًا يخالف عذوبة حلف «بلوش» بالكذب، فإن بعض الناس من إحساس أنه كاذب ومن غيظه وخوفه أن يعرف السامع ذلك يحلف كذبًا وكأنه يكاد يلتهم سامعه، ويقسم كذبًا وكأنه يكاد يبتلع ذلك السامع، كأنه بالعنف يريد أن يخيفه فيصدقه.
إن بعض الناس قد يريدون أن يسمعوا من جليسهم قولًا يسرهم ويرضيهم، ولكنهم مع ذلك يريدون أن يوهموا أنفسهم أنهم لم يحثوه على قوله، ولم يغروه به ولم يلحوا عليه في طلبه، ولم يلجوا معه في الحديث حتى يذكر القول الذي يريدون أن يسمعوه منه، وهكذا فعل دوق «جرمانتس» مع «سوان» عندما أراد أن يسمع منه أن صورة جده من رسم كبار الرسامين المصورين، فجعل يقول له لا تملقني، اذكر الحقيقة، ما رأيك في الصورة؟ فلما ضاق «سوان» ذرعًا قال: إنها كالنكتة الباردة والفكاهة الغثة، فلم يستطع الدوق أن يخفي إشارة تدل على الغيظ؛ لأنه لم يظفر بالقول الذى كان يحب أن يسمعه، بل ظفر بعكس ذلك، والحقيقة هي أن هذا الإلحاح كثيرًا ما يُشاهَد في الناس.
قد تكون خشيتنا فقد ما نود أن نملك ولم نملكه بعد، ولكنا نأمل ذلك في المستقبل، أعظم من خشيتنا فقد ما قد ملكناه وتمتعنا به، ولعل هذا من أهم أسباب غيظ المرء واضطغانه إذا نال أحد الناس شيئًا لا يملكه المضطغن وقد لا يملكه، ولكنه قد يوهم نفسه أنه ربما حاز بعضه أو كله في المستقبل، فيخيل له الوهم كأنه الذي فاز به قد سلب منه أمرًا واختلس منه شيئًا يملكه، وربما كان من البعيد أو المحال أن يملكه حتى في المستقبل البعيد، فاضطغانه وغيظه مؤسس على وهم الأماني الباطلة التى تجعل ما لا يمكن أن يملكه كأنه قد ملكه وسلبه منه الفائز به.
عندما نتكلم ونسمع كلامنا، كثيرًا ما ننسى أن وقع كلامنا في آذاننا وعقولنا ونفوسنا قد يختلف اختلافًا كبيرًا عن وقع كلامنا في آذان غيرنا وفي عقول السامعين ونفوسهم، فالأثر الذي نظنه لكلامنا في آذان غيرنا يكون في هذه الحالات أثر كلامنا في آذاننا وفي عقولنا وفي نفوسنا، وننسى أن السامع قد لا يصله كلامنا إلَّا من وراء حجاب نفسي وعقلي أو جثماني، كما يسمع المرء كلام من يحدثه من وراء مسقط مائي لجب صاخب، فيصله مختلف المخرج، وقد يختلف معناه في ذهنه أو يفهم بعضه أو كله على غير ما أراد المتكلم، وهذه حقيقة ينبغي ألا يغفل عنها المتكلمون، ولا سيما من كان معلمًا منهم.
إننا إذا قابلنا إنسانًا يحدثنا واتجه عقلنا لسماع كلامه ولفهمه، لا نشعر بالسرور كالسرور الذي نشعر به إذا اتجه عقلنا إلى أنفسنا، هذا إلَّا إذا كان اتجاه عقلنا لسماع المتحدث لا يشغلنا عن التفكير في نفوسنا أو كان قصير الأمل أو كان داعيًا إلى التفكير في أنفسنا وفيما يهمنا.
بعض المثقفين من ذوي الأدب والحياء يخجلون ويتحاشون أن يعرف جليسهم وعشيرهم أنهم قد اطلعوا منه أو أن الناس قد اطلعوا منه على زلة بدرت منه أو نقص ظهر فيه. فإذا بدرت من الجليس بادرة سقطة، استحيوا له خشية أن يتأثر بظهور تلك السقطة وهم قد لا يهولون من أمر هذه الزلة، وقد لا يعيرونها اهتمامًا، ولكنهم يخشون أن يهتم ويتأثر صاحبها لظهورها منه ويستحيون له أن يجرح ظهورها إحساسه، وهذا منهم من فرط لطافة الحسِّ التي قد تخشى أن يتألم الجليس إذا علم أن الناس قد فطنوا إلى زلته أو سقطته – ومن العجيب أن استحياء لطافة الحسِّ هذه قد يُفَطِّن الجليس صاحب الإحساس والشك والفطنة إلى أن زلته قد كُشِفَ أمرها، وقد يحقد على من استحيا له، ويعد استحياءه نفورًا من زلته ويغيظه اطلاع صاحب الحياء على سقطته، وقد يكون هذا التحاشي والاستحياء عناء لا طائل تحته إذا كان صاحب الزلة ممن لا يهتم باطلاع الناس عليها، ولكنه على أي حال يدل على أن صاحب الاستحياء ليس ممن قلت ثقافة نفسه، فيتتبع سقطات جليسه فيظهرها ويكيده بها أو يسخر منه بسببها.