«فيليب دورمر ستانهوب لورد تشسترفيلد» من نبلاء الإنجليز، وأهم مؤلفاته رسائله إلى ابنه، وقد ضمنها نصائحه التي اكتسبها من خبرته في مخالطة الناس، فقد شغل مناصب مختلفة، وعاشر أناسًا كثيرين من طبقات مختلفة؛ إذ كان أولًا عضوًا في مجلس النواب، ثم في مجلس اللوردات، ثم سفيرًا في هولندة، ثم حاكمًا لارلندة، ثم وزيرًا، ورسائله ذخر مملوء خبرة بالنفوس وكنز من تجارب الحياة، وقد أسرف الدكتور صمويل جونسون الأديب الإنجليزي في ذمها، ولكنه اعترف في ثنايا ذمه بما فيها من فطنة وخبرة إذ قال: «لو سل منها ما لا يجمل التخلق به لصلحت كي يقرأها كل فتى»، وأوجه الاختلاف بينهما كثيرة: منها أن جونسون كان ينمق الرسائل في الأخلاق النظرية ويحتذي ما درسه في الكتب، وتشسترفيلد كان يسترسل في وصف النفوس كما خبرها بأسلوب سهل موجز حتى عد آية في بلاغة الإيجاز. ومنها أن جونسون في أيام فقره تطلع إلى أن يمده النبيل الغني بمعونة تعينه على نشر مصنفاته، فلم يفعل اللورد أو أنه تباطأ أو أهمله مدة. فأرسل إليه الدكتور جونسون رسالته التي كانت كصوت بوق يؤذن بعصر جديد، وباعتماد الأدباء على كسبهم بدل الاعتماد على معونة النبلاء. ومؤرخو الأدب يقولون: إن ابن تشسترفيلد الذي كتبت له الرسائل لم ينتفع بها انتفاعًا كبيرًا، ولم يفده ذكاء ولا خبرة، ولا غرابة فالكتب لا تخلق عقلًا ولا تنشئ ذكاءً غير موجود وإنما تفطن وتربي ما هو موجود، والخبرة قلما تفيد إلا إذا عالجها المرء بنفسه. وكثير من الناس يعالجون التجارب ولا ينتفعون بها، فكيف بها إذا كانت تلقينًا وقولًا يقوله غيرهم، وإنما يكون نفع التجارب إذا صادفت في النفوس توفيقًا واستعدادًا. وكل ما يقال في ابن تشسترفيلد أنه لم يظهر فضلًا كبيرًا ولا نقصًا خطيرًا، وإنما كان من غمار الناس. وأمل المؤرخ الذي كان يأمل نبوغه بسبب الرسائل، إنما هو نوع من الاعتراف بكياستها وفطنتها.
وقد أوردت نتفًا على سبيل الاقتباس منها، والتفكير فيها، لا على سبيل الترجمة الحرفية. وربما أدمجت بعضها في بعض:
بعض الناس يمدح نفسه بصيغة الذم، فيكسو الفضائل لباس النقيصة والعيب، ثم ينتقص نفسه بتلك الفضائل، ويعيبها بتلك المحامد التي كساها كساء العيب، كي يجعل مدح نفسه سائغًا لدى الناس. فيقول مثلًا: من عيوبي التي لا أستطيع أن أغالبها أني أقول الحق في غير موضعه، وآتي بالصدق في غير مكانه، أو يقول: من عيوبي أني ما رأيت إنسانًا مصابًا إلا وددت أن أشاركه في مصابه، كأني أحمل الدنيا أو كأني موكل بها، ولا نزال في تلك الودادة حتى أقاسمه المصاب وأشاطره وأعينه على ما حل به وأهيئ له من أمره ترفيهًا ورشدًا … أو يقول: من نقائصي المذمومة أني كلما رأيت مظلومًا نصرته، وإن كان في نصره ضرر لي، ومن مقابحي التي لا أستطيع الخلاص منها أني كلما رأيت ضعيفًا أعنته على أمره، والعاقل حقيق بالانصراف عن هذه الوسيلة التي توهمه أنها تحمل الناس على اغتفارهم له مدح نفسه؛ إذ هي لا تحملهم على الاغتفار، بل تزيد الناس سخرية به وإزراء عليه – ومن الناس من يتخذ لنفسه شعارًا في أمر من الأمور، ويوهم الناس أنه وحده كفيل به لا شريك له، ويردده في كل فرصة حتى يمل أمره ولا تنفعه طلاقته ولا أنه ذرب اللسان ذلقه، وللناس افتنان في هذه الأساليب المتغايرة، وفي الحالتين المذكورتين، المدح المراد للنفس، مدح لم يقصده صاحبه إلا بطريقة ملتوية، ولكنها حيلة مكشوفة.
إذا أكثر رجل من القسم ولج في الحلف كي يحملك على أن تصدقه وكي يقنعك بحلفه في أمر لا يستدعي تصديقه كل هذا الحلف فهو في أكثر الأحايين كاذب فيما يقول، وإلا ما تكلف جهد الحلف كي يخفي به كذبه، وكي يداري شكه في تصديقك كلامه، وكي يعالج خوفه من رفضك قوله – وهذا يذكرني قصة رجل من أهل المدينة كان يقول للناس: أنا والله من قريش والحمد لله، فقال له سامع: الحلف والتحميد هنا أمران مريبان، أي يدعوان إلى الشك والريبة في صدقه، على أن الرجل قد يكون صادقًا في كلمته، وإنما يعالج بالحلف اشتهاره لدى نفسه ولدى الناس بالكذب في أمور أخرى غيرها، وقد يكون الحلف عادة عودها، ولكنها توقفه موقف الرجل الظنين المتهم في صدقه.
كثير من الناس يكرهون أن يُتَّهموا بالحماقة أو الغباء، أو السخف، أو الحقارة، أو ما شابه ذلك من أوجه النقص والعيب أكثر من كرههم أن يُتَّهموا بالآثام والخطايا والجرائم والشر – ولكن قلما يفطن المعاشر إلى سبب هذا التفضيل ووجوبه؛ إذ أن الرجل يكره ما يلحق به الاحتقار أكثر من كرهه ما يلصق به خوف الناس منه، وهو يعرف أن الناس قد يعجبون بالشر والخطايا ويزيد صاحبها عظمًا وقدرًا في نفوسهم ويفخرون بها؛ ولكن الناس لا يستعظمون السخف، ولا يجلون الحماقة والغباء، ولا يفخرون بهذه الصفات التي تزيد صاحبها احتقارًا في نظرهم، فلا يستهين العاقل بنسبتها إلى الناس اعتمادًا على أنه إن لم يجعلهم من الأشرار ولم يقل أنهم من المجرمين فقد نسب إليهم ما هو أقبح في نظرهم وأكثر مجلبة للذم، على أنك قد ترى ساذجًا ينسبها إلى صديق، فإذا غضب صديقه دهش وقال من غير تعمد للسخرية: أنا لم أقل إنه مجرم شرير ولم أقل إلا أنه سخيف!
كل إنسان يفضل أن يمدحه مادح بالصفة التي يدعيها لنفسه، وليست فيه أو ليست غالبة عليه؛ على أن يمدحه بالصفات الممدوحة التي يقر له بها الناس، ويعترفون بفضله فيها؛ لأنه في الحالة الأولى يكسب محمدة جديدة، ولا يكسب شيئًا في الحالة الثانية إلا اعتراف بعض الناس بما لا يشك فيه أكثر الناس ولا يمارون، وهذا يذكرنا أن الكاردينال ريشليو السياسي الشهير ما كان يبتهج إذا مدحه مادح بحنكته السياسية وخبرته وبراعته، وإنما كان يسره أن يمدحه مادح بإجادة فن من الفنون الجميلة لم يجده ولا برع فيه ولا أتقنه – وهكذا أكثر الناس كأنهم ما سمعوا قول الإمام علي رضي الله عنه: «قيمة كل امرئ ما يحسن».
مهد لنفسك منفذًا إلى عقول الناس من طريق قلوبهم وما تشتهي نفوسهم؛ فإن عقول أكثر الناس وعرة صعبة المسلك ملتوية، وعندي أن هذه النصيحة تنفع أيضًا مع من كان الطريق إلى عقله موطَّأً سهلًا ممهدًا، فإذا لجأت إليه من طريق قلبه وجدت عقله ازداد سهولة وصار أخف مئونة، وقد لا يكلفك طريق قلوبهم إلا البشاشة والملاينة وطيب الذكر وحسن القول.
كما أن النقود الصغيرة من العملة القليلة القيمة لا غنى عنها في معاملات الناس اليومية الصغيرة، فنقود الفكر القليلة القيمة لا غنى عنها في مجالس الناس ومحادثاتهم ومفاكهاتهم، ومن أراد أن يستبعدها وألا يتعامل معهم في أمثال تلك المجالس إلا بالفكر العويص والرأي العميق والفلسفة البعيدة والألفاظ الفخمة والتقعر في الكلام كان مثله مثل الرجل الذي لا يريد أن يتعامل في المعاملات اليومية الصغيرة إلا بقضبان الذهب الثقيلة الكبيرة فتمتنع المعاملة. وهذا يذكرني قصة رجل كان له ابن هذه صفاته وكان الرجل في مرض الموت وأبى أن يرى ابنه إلا إذا ترك هذه الصفات فوعد ابنه بتركها في زيارته لأبيه، ولكنه لم يستطع مغالبة طبعه فكان الموت أحب إلى أبيه من زيارته.
بعض الناس مولعون بالأحكام العامة والجمل المألوفة والأمثال السائرة يرددونها كلما أتيحت لهم فرصة ويوهمون أنفسهم أنها تصدق في كل حالة، والعاقل من تجنب الأحكام العامة والجمل المألوفة، فليست حالة إلا وفيها اختلاف قل أو كثر عما يشابهها من الحالات، وكذلك الأمم والطوائف والجماعات تختلف آحادها فليس من الصواب أن يحكم المرء على أمة أو طائفة أو جماعة من الناس حكمًا عامًّا – وكثرة التشادق بالأمثال والجمل المألوفة التي سارت مسير الأمثال لا يلجأ إليها إلا من لا يميز دقائق الفكر، وبعض الناس لا ينتهي من مثل إلا ليبدأ مثلًا آخر أو حكمة معروفة، كأنه آلة الحاكي تردد من غير تمييز.
من العلم ما يكسب صاحبه رجاحة في عيون الناس وقلوبهم، ومنه ما يكسبه زينة، والأول لا غنى عنه، ولكن ينبغي أن يذكر العاقل أن كثيرًا من الناس لا يستطيعون وزن الأمور ومعرفة رجاحتها، وإنما يحكمون بما هو رونق يرونه – وإذا كان حكم الناس بالنظر أكثر من حكمهم بالفكر، فقلما يصيب أحد النجاح إلا إذا كان له نصيب من النوع الثاني من العلم.
إن المكارم الكبيرة والنعم السابغة قد يصنعها المرء بسفه ويفعلها بخرق ويهجم بها على من يجود عليه بخطأ أو طيش وحماقة، فتسيء مكارمه ونعمه إلى من يصطنعها عنده فتصير أسوأ من الإساءة إليه، إذا جاءته بلطف يثلم حدها ويقل غربها ويقلل ألمها، فرب نعمة قد تجلب عدوًّا، وإساءة قد لا تنفر صديقًا.
المشاكسة في الأمور الصغيرة من علامات ضئولة النفس، وكثيرًا ما تكون مصحوبة بالشعور بالنقص يداويه صاحبه بمشاكسة أو مهاترة أو مغاضبة، فتكون أظهر لنقصه عند من درس طبائع النفوس.
من أسباب النجاح الصبر على مضض الحديث الغث الممل، أو على سماع رغبات الرجل المشاكس أو الملح، وهو إصغاء لا يلزمك عملًا تعمله – أو خطة ترسمها وتتكلفها وتنفذها – وقد تجد شيئًا من الفكاهة إذا عودت نفسك هذا الصبر، وقد تجمع إلى الفكاهة فائدة أخرى، وهي دراسة نفس محدثك، وفي دراسة النفوس لذة بالرغم من ألم ذلك الصبر ومضضه، وبعض من اشتهر باللباقة من الساسة، وبالحنكة فيها، أكثر بضاعتهم الإصغاء والابتسام.
إذا هششت للناس وتبسطت وتسهلت ظن من ينصب الحبائل للناس ويدبر الوسائل لاقتناص الكسب منهم أنك لست ممن ينصب الشرك أو الشباك فلا يعد لك عدة، ولا يتخذ لك أهبة، ولا يلجأ إلى الحذر معك، كما أن ذوى السذاجة يركنون إلى طيب قلبك، ويستنيمون إلى سلامة طويتك فتربح في الحالتين.
الأغرار من الشبان ومن لم ينتفع بتجاربه من الرجال يرون أنهم يكسبون بالعنف والشدة في كل معاملة أو معاشرة أكثر مما يكسبون بدهاء الخبرة ولباقتها وتأنيها في معالجة الأمور، ويعدون كل هذه الصفات ضعفًا وعجزًا وجبنًا ورياءً، وأنها صفات لا تليق، وهم في عنفهم وشدتهم يدعون لأنفسهم الحكمة كما يدعى السكران بأنه غير مخمور – وقد يكون ادعاؤه مضحكًا يدل على أنه سكران، وإن أنكر ذلك إذ يترنح وبتلعثم ويتلجلج ويخلط ولا يبين في كلامه، ويتكلف الاتزان ويتغاضب تارةً ويعاتب تارة، وهذا أيضًا شأن الأغرار، الذين ليس لهم إلا سبيل العنف.
إذا كان لك فضل فليس السبيل إلى اعتراف العقلاء المبصرين والدهاة، ولا إلى اعتراف من يغمط الناس حق فضلهم وهم كثيرون، أن تكبد الناس بمباهاتهم به في الأحاديث والمجالس وبأن تظهر لهم أنك تعرف من فضلك أكثر مما يعرفون، فإن الناس قلما يغتفرون لك ذلك ويعدون فضلك إساءةً إليهم وإن اعترفوا به سرًّا أو جهرًا، وهم يحاولون انتزاع اليقين والثقة به من نفسك بأساليب مختلفة، ولكنك إذا كان لك فضل على إنسان بأن صفحت عن ذنب له أو إساءة أو زلة أو إذا كنت قد انتشلته من وهدة سقطة كاد يتردى فيها وأزرت به، فليكن همك أن تنسيه فضلك عليه واطلاعك على سيئاته وموضع النقص منه، فإن كثيرًا من الناس يحقدون على من أطلع على زلاتهم ونقائصهم وإن كان اطلاعه عليها من ناحية انتشاله إياهم من وهدة زلتهم ومعونته لهم وإنقاذهم من عواقبها، فإن تلك المعونة وذلك الإنقاذ لا يشفعان لاغتفارهم اطلاعك على نقصهم، وفضلك في ذلك لا يشفع لك، بل يزيد حزازة حقد من تفضلت عليه، إلا إذا كانت لك لباقة تنسيه فضلك عليه واطلاعك على نقصه، وقد يكون مثلهم مثل المرأة التي لطمت سائق الترام الذي رآها قد زلت قدمها وكادت تسقط تحت الترام فجذبها إلى نفسه وأنقذها من الموت.
الناس قلما يغتفرون ذنب من إذا شرعوا يحدثونه أسرع إلى إظهار معرفته للحديث، وبعض الأغرار ومن لم ينتفع بتجاربه لهم ولع عجيب بهذا التسرع إلى إظهار معرفتهم حديث المحدث – كأنهم يخشون أن يحسب الناس أنهم قد فاتهم شيء من أمور العلم والدنيا لم يدركوه ولم يطلعوا عليه قبل حديث المحدث، وهو اطلاع لا يزيدهم فضلًا بل نقصًا في نفس المحدث الذي لا يهمه أن يزن قدر علم من سبقه، وإنما يهمه ألا يسلب منه جليسه كرامة نفسه وألا يشعره الاستخذاء.
ينبغي للعاقل ألا يظهر الامتعاض والغضب إذا ظهر عليه إنسان بالحجة أو بذه شأوًا وشأنًا أو مزح معه مزحًا مستكرهًا، بل الكرامة والربح في أن يكظم غيظه وأن يسري عن نفسه وأن ينظر إلى هذه الأمور كأنه يشاهد مشهدًا في عالم آخر من غير تصنع للكبر المضحك المغالي فيه والذي يجعله كالممثل الهازل، ومن غير شجار أو مهاترة؛ لأنه بهما يضيع كرامته، ومن غير أن يأذن لفكره وذاكرته في معاودة هذه الأمور فيتعب، ومن غير أن يلجأ إلى التعويض في ثنايا كلامه بالسخر المعمي أو الواضح، وهذه أمور قد تسبب عداوات وتارات قد يشترك فيها أصدقاء خصمك وأقاربه، فكأنك أثرت حول نفسك النحل من خليته، وأقل ما في هذه الأمور من الضرر إذا لم يتخذ خطة متسعة النواحي لاغتيابك أن يأذن ويبتسم صامتًا لمن يغتابك كما قال الشاعر:
فسامع الذم مقر به
وقابل الغيبة كالقائل
كثير من الناس لا يميزون بين التسامح والتسهل في المعاشرة وبين التمليق والنفاق، فيأبون التسامح ويرفضون التسهل، ويضحون بحسن المودة وطيب العشرة بأن يراجعوا كل إنسان فيما يصف به نفسه أو ينسيه إليها أو يغلطوه أو يكذبوه أو يكثروا من مخالفته، مع أن بعض الناس يعد القليل من مخالفه تكذيبًا – ويفعل المغلط المراجع المقاطع ذلك بدعوى نصرة الحق والانصراف عن التمليق والنفاق، وإنما يفعل ذلك خشية أن يظهر إنسان بفضل يدعيه أو رأي يرتئيه أو حجة يدلي بها وتوهم المغلط المقاطع نفسه أنه إذا لم يفعل ذلك أضاع كرامته ولم ينصر الحق وأعان على الباطل بسكوته وكأنما تنهد الأرض وتسقط السماء إذا لم يفعل ذلك، فلا يميز الكبائر من الصغائر، وإنما يكون الباطل الذي يحارب ما تختل به أمور الناس لا ما يتسهل ويتسامح فيه العشير في العشرة.
أحسن ما تكون الفضيلة إذا أرادها المرء كما يريد نظافة جسمه للراحة والصحة والعافية لا للمباهاة، وكما أن المرء لا يطلع الناس على نظافته ولا يلفتهم إليها ولا يحدثهم بها، كذلك الحازم العاقل لا يحدث الناس عن فضيلته.
في أكثر الأحايين إذا قال الإنسان قولة مزح بريئة جره إليها حديث محدثه وكانت صلتها بالحديث أو بإنسان مذكور فيه تفسيرها، فإنها تنقل إلى إنسان آخر له صلة أيضًا بالحديث مبتورة ويخفي نافلها صلتها بحديثه، فتخرج عن معناها وتصير «إهانة»، ولو أن ناقلها ذكر حديثه وصلته به ما كانت إهانة، فيحسن تجنب المزح البرئ اعتمادًا على صدق الناقل؛ إذ كيف تكفل صدقه؟
الحازم لا يشارك المغتاب بالكلام ولا يشاركه بالإصغاء والسكوت، فقابل الغيبة كقائلها، وإنما يجمل أن يقول: إنه لا يعرف من أمر الغيبة شيئًا، وهو إذا لج في إنكارها جنى فوائد: منها أن الناس تبرئه من الغيبة وتعده غير متتبع أخبارهم فيقل حذرهم منه، وكلما أمعن في إظهار الجهل والإنكار أكثروا من تعريفه ما يدعون معرفته من أخبار غيرهم، إذ أن الناس منهومون بادعاء معرفة أخبار الناس وأسرارهم، وكلما قلت معرفتهم زادت نهمتهم بإطلاع معاشريهم على ما يدعون معرفته، ومنهم من يستطيل بادعاء صداقة الناس بالباطل؛ كي يستطيل بادعاء معرفة أخبارهم وأسرارهم بالباطل أيضًا.
في الناس أصناف يجمل ألا يشركهم العاقل في خاصة شئوه، ولا أن يطلعهم على بواطن أمره وأخباره وأسراره، ومن هؤلاء الغرير الجاهل؛ فإنه يذيعها كي يعرف أنه عالم بالناس، والخائن كي يوهم الأغرار أن غيرهم قد ائتمنه، والماكر الداهية كي يفيد من إذاعته ما يستطيع، والخبيث إذ أنه يحولها مادة صالحة للأذى يؤذي بها من أشركه في أمره، والزميل الذي ربما جعلته الحياة منافسًا فيتخذ منها مادة لمنافسة زميله وتنقصه كي يفوز في موضوع المنافسة بدلًا منه، والمنافس مهما كان شهمًا ذا مروءة لا يؤتمن على سر أو خبر أو شأن خاص، إذ أن المنافسة قد تحمل الناس على الانصراف عن سبيل المروءة حتى يفوزوا في المنافسة، ثم يعودون إلى مروءتهم وشهامتهم بعدها.