أناتول فرانس هو الاسم الذي اشتهر به كاتب من أكابر كُتَّاب القرن العشرين، وهو فرنسي كان أبوه يبيع الكتب، فنشأ مولعًا بالاطلاع، ولكنه كان يخالط الناس ويتقصى أخبارهم، وقد جمع في كتبه بين السخر والحنان والتسامح والرأفة بالضعفاء والفقراء، ولكن عقله لم يكن من العقول التي تتشبث بمبدأ من مبادئ الفكر لا يتعداه ولا ينظر إلى غيره، بل كان ينظر إلى جوانب كل أمر حتى إنه قد ينطق بعض أشخاص قصصه بآراء مختلفة إذا اختلفت حالات نفوسهم، ثم يكون أول من يلفت إلى هذا الاختلاف، وقد برع في القصص الطويلة كما برع في القصص القصيرة.
ومن قصصه الشهيرة قصة (تاييس) وهي كما قال أستاذ كبير تشبه قصة (هاييشيا) للقصصي الإنجليزي شارلز كنجزلي، ولكن الشبه جاء من ناحية تقارب عصري القصتين، وعند التمحيص يختلف أشخاص القصتين، وأناتول فرانس قلما يُجارَى في تذوقه لفنه، ومن كتبه قصة (كتاب صديقي) وفيها انتشى من نفحات الطفولة والصبا وجمع إلى ذلك دقة الملاحظة ونضج الذهن، وله قصة الثورة الفرنسية الكبرى، واسمها (الآلهة ظمأى) وليس فيها عنف فلوبير في قصة سلامبو عن قرطاجة؛ ولكن تحت هدوء فنه يحس القارئ مرجل الثورة يفور وكأن همه أن يفسر روحها، ومن كتبه الشهيرة (حديقة أبيقور) وهو نظرات في النفس والحياة، وكتاب (الحياة الأدبية) وهو مقالات في النقد والأدب، و(طموح جان سرفان) و(قصة ممثل) و(سلفستر بونار) و(آراء الأب كوانيار) و(الحجر الأبيض) و(ثورة الملائكة) وفي الكتاب الأخير يميل إلى الروح الإغريقية القديمة، ومن كتبه المؤثرة (حياة جان دارك) و(جوكاستا) وله قصص أخرى عديدة بعضها يغلب عليه السخر، وبعضها يغلب عليه النقاش الفكري أو وصف تاريخ فرنسا وحياتها في عهده، ويتردد أشخاص بعضها في أكثر من كتاب، وبالرغم من عداء رجال الكنيسة له فقد أنصفهم في وصف بعض أشخاص الكنيسة في كتبه، وقد اعتنق المذهب الاشتراكي في أواخر أيامه. ويمكن أن يقال بالاختصار إنه بالرغم من سخره كثير التسامح كثير الحنان.
ومن نظراته ما يأتي:
كنت وأنا طفل صغير أقرأ كتب الزهاد المترهبين من ذوي التقشف، فأحدث ذلك عندي رغبة في أن أكون راهبًا زاهدًا متقشفًا وامتنعت عن الطعام وحاكيت حياتهم، فقال أبي يصفني «إنه مجنون» فعزيت نفسي وقلت: إن أبي في الحياة الأخرى سوف لا ينال ما سأنال من جزاء على الزهد فلا يقاسمني مجده ولا يشاركني فيه فأختص به دونه، فلم يؤلمني تنقصه لي واتهامه إياي بالجنون، وانشرح صدري وسرت نفسي، وهذا إحساس يشترك فيه الصغار والكبار؛ فإن الرجال قد يودون صديقًا ويرجون له كل خير فإذا خالفهم في أمر سروا بحرمانه المأمول من خيره المنظور وعزوا أنفسهم بالاختصاص به دونه، وإن كانوا صادقين في مودته … وكذلك الحال بين الأحباء … وقد يزداد هذا السرور بحرمان المخالف حتى يصير تشفيًا وانتقامًا كريهين.
كان الدرس في حصة الآنسة لافورت المعلمة فوضى من الاضطراب، وكان عندها شيء من الذهول وقلة المبالاة، فإذا لج الصخب في تنبيهها هجمت على أي تلميذ وضربته ثم تعود إلى تبلدها وذهولها … وهكذا الدنيا قد تعاقب من ليس أحق بالعقاب، والعاقل من حاول أن يطامن نفسه على تلقي ضرباتها كما كان يصنع تلاميذ المعلمة لافورت.
أهم ما في التضحية التضحية ذاتها، أما أنها في أمر غير حقيقي وأنها لا تعود بفائدة ولا عائدة فهذا لا يقلل من قيمتها مادام صاحبها الذي يؤدي ما تفرضه عليه التضحية يجد إليها اطمئنانًا، ويحس فيها راحة، ويراها أمرًا واجبًا، وأنها عائدة من غير شك بالخير، وهذا هو الذي يسوغها.
كنت إذا غايظت تلميذًا صغيرًا مثلي يُهوِّن علي ذنبي إليه شعوري بعظم ذنبي … وهكذا الكبار أيضًا يُهوِّن عليهم ذنوبهم إحساسهم بالذنب، ويشعرون كأنما قد كفروا عن ذنوبهم به حتى صار كأن لم يكن – وهذا قد يدعوهم إلى الاطمئنان وإلى معاودة تلك الذنوب.
كنت قد اعتزمت وأنا صغير أن أكتب تاريخ فرنسا في خمسين مجلدًا، ولكن منعني أني لم أستطع معرفة تاريخ أول ملك، ومن ذلك الحين أحمد للصعوبات في الحياة فضلها وأشكر صنيعها، فكم أنقذت من ورطة وكم أسعفت بخيبة في طيها نعمة، أما صديقي فونتانيه فإنه يمرق بين أرجل الصعوبات (إن كانت لها أرجل) … كما يمرق أطفال الشوارع بين السيارات السريعة.
عندما طلب مني القس في الكنيسة أن أعترف (وهذا أمر يؤديه الكاثوليك) أدركتني الحيرة؛ إذ كنت صغيرًا لا أميز صفات أعمالي، ولا أعرف أيها أعد ذنبًا، فحاولت أن أتذكر ذنبًا جنيته كي أعترف به للقس فلم أستطع، فاعتراني الخجل والأسف إذ لم أجد ذنبًا، ثم تذكرت إتلافي قبعة صديقي فونتانيه فارتاحت نفسي وتعاظمت لدي وقلت: الآن أستطيع أن أعترف بذنبي من غير خجل أو شعور بالنقص … وهذا قد يفسر لنا فخر الكبار بذنوبهم في بعض الأحايين ومباهاتهم الناس بها.
مما علمني حب الصغار المحافظة على التقاليد والعرف المألوف، بالرغم من طيشهم وثورتهم عليه في بعض الأحايين، إن عمي كان قد صنع لي حقيبة كتب جديدة من شيء لم يكن حقيبة كتب ولا كانت حقيبتي كحقيبة التلاميذ، فجعلوا يسخرون ويضحكون ويبتكرون الفكاهات إزراءً بها، ولكنهم لم يفكروا في السخر من حقيبة كتب صديقي فونتانيه، وكانت قديمة ممزقة مرعبة، ولكنها كانت على شكل حقائب الكتب، فكان لا شك فيها، وهذا يذكرني قول (وردزورث) الشاعر الإنجليزي (إن الطفل أبو الرجل) فهذه الغرائز والطباع موجودة أيضًا في الكبار، وهم يسخرون من كل جديد؛ لأنه يخالف المألوف.
كنت وأنا غلام صغير أذهب إلى حلاق كي يقص شعري، وكان يحكي لي أثناء الحلاقة (كما هي عادة الحلاقين) كيف أنه كان في سفينة في عرض البحر تحطمت واضطر ركابها أن يأكلوا إنسانًا منهم، وكان يهش ويبتسم وهو يحكي لي كيف أكلوا اللحم البشري، وكأنما كانت هشاشته هشاشة المتفائلين بالحياة المؤمنين بالإنسان، ولا يرون إلا جانب الأمل في حياته … ولا غرابة في اطمئنان ذلك الحلاق، فإن الناس كثيرًا ما يأكلون اللحوم البشرية على سبيل المجاز والاستعارة كما يصنعون في استغلال الضعفاء المحرومين والنساء والاقتتال على النظريات، وكما يصنعون في الغيبة والنميمة في حياتهم اليومية، وفي إهمال المشردين من الأطفال وغيرهم.
كانت حياتي في الطفولة حياة صغيرة، ولكنها كانت (حياة) أي إنها كانت عندي قطب الدنيا ومركز الكون ومحور العالم، وكل حي حتى ولو كان كلبًا صغيرًا يحس كأنما هو مركز الكون ومحور العالم.
كنت في صغري مدللًا منعمًا على قدر ما يستطيع أهلي من التدليل والتنعيم، وكنت أجد لذة وسرورًا واطمئنانًا، ومع ذلك فقد كنت أحسد غلامًا صغيرًا مشردًا، وكنت أراه من نافذة منزلي، وكان أبواي يمنعانني من مخالطة أبناء الشوارع، وكانت أم ذلك الغلام تتركه حرًّا طليقًا قذرًا ممزق الثياب وتذهب كي تكسب قوتها بأن تغسل ثياب الناس، فلم تكن تقيده تكاليف الحياة، وكان يخيل لي أنه كان ينظر إلي كما ينظر العصفور الطليق إلى العصفور الحبيس … وهذه الفكرة تذكرني قصة من تصنيف (ستاسي) أو (مونييه) القصصي الإنجليزي الذي تتبع فيها دائرة الحسد، فوجد كل إنسان يحسد من هو أحسن حالًا حتى إذا بلغ أكبر محسود وجده وقد سئم تكاليف حياته وقيودها وهمومها يحسد أحقر حاسد ولو كان صلعوكًا متشردًا حسبه حرًّا طليقًا غير مقيد بتكاليف الحياة.
عندما نبحث عن الحق كثيرًا ما نجده أمرًا مألوفًا وإن كان غريبًا قبل معرفته، ولكن تلك الغرابة تحببه إلينا ولو لم نشعر بالغرابة لمللناه وضجرنا به، والمراد حقائق النفس والحياة التي نشاهدها ونغفل عنها، كأنما قد غُطِّيَت عنا ولُبِّسَت علينا.
كانت عندنا خادم ريفية سمحنا لها مرة أن تذهب إلى باريس. وبعد عودتها سألناها ماذا رأيتِ في باريس؟ وماذا أعجبتِ منها؟ قالت الفجل! رأيت فجلًا كبيرًا، إنها رأت كل ما تُستطاع رؤيته من حضارة باريس ومبانيها وما في نوافذها وشوارعها ومتنزهاتها، ولكن لم يعجبها إلا أنها رأت فجلًا كبيرًا … وهكذا بعض الناس في الحياة يرون ما تعرضه عليهم، ثم لا يعجبهم منه إلا ما هو شبيه بالفجل في نظر الريفية.
إننا نرى الأطفال لا يستطيعون أسهل الأمور والأعمال إلا بعد الدربة والمزاولة، وننسى حقيقة أولية، وهي أن هذا يصدق أيضًا في الكبار كما يصدق في الصغار، فإن كل عمل مهما هان يصعب حتى يتعوده من لم يتعوده من قبل.
إذا كان لبعض الأمهات ابن ذكي وسألتها جارة عن سنه أصغرت عمره وقللت سنه؛ كي تظهر على جارتها وتنتصر وتعلو؛ إذ إنها تعرف أنه من المحال أن يكون لجارتها ابن صغير ذكي في مثل السن التي ادعتها لابنها وهي إذ تستثير إعجاب جارتها تستثير حسدها … ومن الأمور المتناقضة في النفس أن الذي يباهي الناس ويستفز حسدهم بالمباهاة لا يمنعه ذلك من محاولة إخفاء كل ما يمكن لأن يحسد عليه في حالات نفسية أخرى إذا أزعجته عاقبة الحسد، وبعض الأمهات وغير الأمهات يخشين صولة القدر المفاجئة وضربته المباغتة إذا كن في سعادة وغبطة وحبور، وهن في ذلك مثل الأمهات الأثينيات قديمًا اللواتي كن يضعن أطفالهن عند قدمي تمثال نميسيس (ربة الحسد) ويتضرعن إليها أن تغتفر لهن سعادتهن بأطفالهن خشية أن تصيبهم ربة النقمة والحسد بمكروه، وبالرغم من أن خيال الوثنيين قد خيل لهم ربةً للحسد فإن للناس افتنانًا عجيبًا باستثارة إعجاب الناس واستفزاز حسدهم وهم يخشون هذا الحسد ويعلمون أنه كثيرًا ما يحيق بهم السوء منه من غير استثارة واستفزاز، لميل كثير من الناس إلى إلحاق الأذى بمن يحسدون، والحسد – وإن عم – من الغرائز الموروثة بسبب هذا النظام الاجتماعي.
سأل أندريه الصغير أمه وقد مات أبوه: هل مات أبي وذهب عنا ولا يعود؟ قالت: نعم. فصمت قليلًا، ثم قال: هذا شيء حسن لأني أحبك كأني أحب اثنين، وإذا عاد أبي إلينا لا أجد في قلبي شيئًا من الحب أخصه به، وهذا ما أخشاه. وإحساس أندريه الصغير هو الإحساس الذي بني عليه (فرويد) نظريته في حب الابن للأم وغالى فيه حتى جعله مثل حب (أوديب) لأمه وهو لا يعرف أنها أمه، وهذا قياس محال، وقصة الملك أوديب قصة معروفة من قصص قدماء الإغريق.
المراهقة وأحلامها قد تسبب للمراهق حزنًا، ولكنه حزن مملوء بالسعادة، فتلتقي التعاسة والسعادة في وقت واحد، ولا غرابة فإن من الناس من يأنس إلى المحزن ولو سُلِب منه أحس فراغًا في نفسه وحياته.
من الخطأ المضحك أن يحزن إنسان أو يتملكه الغيظ إذا ابتكر نظرية فوجد ما يثلمها ويهدمها؛ إذ إن النظريات ما خلقت إلا كي تكون هدفًا للرماة، وكي تصاب حتى تزول كما تزول الفقاقيع، وإحساس المرء بالغيظ إذا عورضت نظريته حماقة وضيق ذهن وأثرة ونقص.
وجد الباحثون بعد البحث والتقصي أن القصص الخرافية والأساطير الشعبية موجودة أمثالها عند شعوب لم تتصل في ماضي تاريخها – وهذا قد يجعل المفكر يرى أن اعتقاد بعض المؤرخين أن الحضارة نشأت في بقعة من الأرض وانتقلت منها إلى باقي البقاع فيه غلو؛ إذ إن عقل الإنسان أساسه مشترك ومهيئات الحضارة كثيرة متنوعة، والمعروف أنها تنمو بتبادل الآراء على طرق المواصلة، فليس أشحذ للذهن منها، وأما قول بعض المؤرخين إن جمهور الناس لو تُرِك وميله، حدثت له رجعة ونكسة وإنه أميل إلى التخريب، وإن سطح الأرض مكسو بالحضارات التي هُدِّمَت وخُرِّبَت فلا ينفي ما ذكر، والحقيقة أن الخلاف خلاف لفظي محصور في تفسير معنى نشأة الحضارة، فعند أية مرحلة يُعتَرَف بالنشأة؟ نعم قد تسبق بعض الأمم غيرها في نمو الحضارة، ولكن النمو غير النشأة.
كان معلمنا المسيو شوتار جبانًا يخشى الكلاب واللصوص والرعد والعربات في الطرق، وكان يخشى كل ما قد يؤذي الإنسان، ولكنه كان إذا وصف الحروف والوقائع في دروس التاريخ وما قاساه الأبطال فيها من آلام وجروح ومشاق وما لاقوه من العذاب والموت، برع كل البراعة، وكان يخيل له أنه يقاسيها معهم ويقاسمهم مجدهم، وكان يجد لذة في إهلاك الجيوش الكثيرة بحيل قديمة، أو مبتكرة يتخيلها، وهكذا شأن كل جبان يحاول أن يعوض نفسه عما فقد من الشجاعة إما بادعاء الشجاعة، وإما بوصف أعمال الشجعان والأبطال، ويجد في ذلك ما يعينه لاحترام نفسه، ولذته في وصف إهلاك الجيوش الكبيرة بوسائل مبتكرة، من القسوة التي كثيرًا ما تلازم الجبان، وأكثر الناس بهم شيء من الجبن حتى ولو كانوا شجعانًا، وقد قال أحد الأبطال: «من زعم أنه لم يخف قط ولم يجبن قط فهو أكبر كاذب» وإنما العبرة بما تئول إليه النفس بعد التغلب على الخوف عند مفاجأة الخطر وبعد أول وهلة، ومن المعروف أيضًا في الاختلاف بين الطبع والقول أن بعض الكتاب المتزمتين في حياتهم يولعون بتصنيف كتب المجون كأن أنفسهم تريد أن تأخذ حظها مما فاتها منه في الأعمال بتنميق الأقوال فيه والافتنان في أساليبه بالكتابة، وقد تكون صفتهم العجز عنه لا التزمت، فيلجئون إلى ما يلجأ إليه هؤلاء من زخرف القول.
شغف بعض الناس بالمعرفة ناشئ من البغض أو الحسد، ولكن شغفي بالمعرفة كان شغف من يود أن يألف الأشياء والحيوان والإنسان، لا شغف من يتخذ المعرفة أداة الأذى، وكل ما رأيته أو سمعته كان يهيئ لي وسائل هذا الشغف ويعينني على الإحساس بعناصر الحياة وأسسها.
كان دوسيل رجلًا فاضلًا محبًّا للحرية، ولكن الثوار المتطرفين حبسوه في أثناء الثورة الفرنسية الكبرى، فصرخ ممتعضًا قائلًا: أهذا جزاء خمسين سنة قضيتها في مناصرة الفضيلة والحرية؟ وهذا يذكرنا غيظ بارناف عندما ساقوه إلى المقصلة (الجيولوتين) كي يُعدَم، وكان من اللذين ناصروا الثورة من أول نشأتها ونشأته، فدق الأرض بقدمه من الغيظ وقال: أهذا جزاء مناصرتي للحرية وعملي على تحقيقها؟! ويذكرنا أيضًا غيظ كاميل ديمولَن، وهو من أوائل المنتصرين للحرية عندما ساقوه إلى الإعدام فمزق ثيابه من الغيظ وقال للجمهور: ألست أول من دعاكم إلى الثورة على الاستبداد؟ وكان الجمهور يهزأ به ويضحك ويسخر منه، وكم من إنسان في هذه الدنيا يفعل كما يفعل هؤلاء ويحس كما أحسوا إذا غمط حقه ووكس حظه ووجد جزاء الخير شرًّا، وجزاء العمل تثبيطًا لتضارب الآراء وتنازع المصالح، والعاقل من لا يجعل جزاءه بإظهاره الغيظ سخر الجماهير اللاهية عنه في أثناء اقتتالها على الحياة وتنازعها المنافع كما فعل هؤلاء.
قد علمتني المدرسة أن التلميذ الصغير كثيرًا ما يعجب بما يقرأ، أو بما يلقى إليه من غير فهم إو إدراك للمعنى، وإنما هو يلتذه بإحساسه وخياله، أو بالإيحاء أو قدرة من يقول: إنه فاهم أو يدعي الفهم أو يخشى أن يُتهم في عقله.
ماتت جدتي وأنا صغير وبالرغم من خيبة أملى عندما سمعت العصافير تغني وكل شيء في الدنيا كان كأن لم تمت جدتي، فإني كنت أحس إحساسًا غامضًا أن جمال الأشجار وبهاء السماء وأصوات الأحياء أمور كلها متصلة بما يسمونه الموت وبه يتجدد.
لا بد أن نتخلى عن كثير من أمور ماضي العالم، ولكن ينبغي ألا نتخلى عنها كلها، وأن نكون فارغي القلوب والعقول منها؛ لأننا لا نستطيع بناء المستقبل إلا بمادة الماضي.
من أهم أسباب سعادتي أني كنت دائمًا إذا رغبت في شيء وأعوزني الحصول عليه واستعصى علي، لا أكيد نفسي بالحزن والغيظ لفواته، بل أستعيض عن ذلك بأن أتخيل أني حصلت عليه وحزته وتمتعت به، وقد أكسبت هذه العادة تخيل التمتع به شدة في الوضوح وأثرًا بالغًا في الإحساس ومسرة كمسرتي بالحقيقة. فكان الخيال يغني عن الحقيقة، ونعمة الخيال هذه لا شك فيها، إلا أنها قد توهن قدرة المرء على العمل، ولا سيما إذا كان بطبعه يميل إلى الكسل ويحتاج إلى الراحة فتسبب خيبة الكسالى.
كنت في صغري عظيم الثقة بالحياة شديد الإيمان بها، بالرغم مما كانت تلحقه بغيري من الشقاء والتعاسة والمصائب، ولكل إنسان نصيب من هذه الثقة بالحياة حتى بالرغم مما تلحقه بذاته من الآلام والشقاء وإن كان يرى أنه أحق من غيره بالسعادة وبالعصمة من الشقاء – والآن صرت أفرق من كلمة الغد وأخشى المقبل من الأمور والحوادث، وقد فقدت ثقتي بها التي كنت أعتز بها في الشباب، ولكني لا أزال أحب الحياة كما يحب العاشق عشيقته التي فقد ثقته بها.
كانت أمي تعظني وتمنعني من مخالطة الصغار المشردين في الشوارع وتقول يا بني لا تحسب أن ذلك من جناية جنوها، وإنما جنت عليهم الحياة فصرت أرحمهم بدل أن أحسدهم على نعمة الحرية التي في التشرد، حقًّا، لقد علمتني أمي من صغري بقولها هذا ألا أغتر وألا أخدع بقول الأثرياء السعداء: إن الأشقياء إنما كانوا أشقياء بسبب ما جنوه على أنفسهم … وهم إنما يقولون ذلك كي يسوغوا إغفالهم إصلاح مساوئ الحياة.
حبَّب إليَّ الخيال وقراءة الكتب حياة الترهب والتقشف وامتنعت عن الطعام، فسألتني أمي عن سبب ذلك وقد راعها أن ترى طفلها الصغير تبدو منه بادرة الرغبة في الزهد، فقلت إذ سألتني يا أمي إني أفعل ذلك كي أكون شهيرًا ذائع الصيت وأطبع بطاقة أكتب فيها اسمي وأكتب تحته (الزاهد الشهير في الدنيا) فصرخت أمي: لقد فقد ابني رشده قبل سن الرشد، فقال أبي: لا تزعجي نفسك، إن الدنيا ستعلمه الزهد في الشهرة قبل أن يزهد في الحياة … وقد فعلت، لقد علمتني الدنيا الزهد في الشهرة قبل الزهد في الحياة، وما من مرة عاودتني فيها الرغبة في الترهب والزهد إلا جددت الحياة في نفسي الرغبة في مقاسمة الناس أعمالهم وأن أجد السعادة في ذلك.
لو عاشت أمي لسرها أن تجد أكبر فضيلة لي في التسمُّح مع الناس ولو وجدت أن أكبر نقص لي في الشعور بهذا التسمُّح؛ لأن التسمُّح لا تتم فضيلته إلا إذا كان أمرًا طبيعيًّا يصدر عن المرء من غير شعور بأنه يتسمَّح ومن غير اعتداد به.
إن للأطفال منطقًا عجيبًا، ولكنه مستقيم – لقد قالت جيسي الصغيرة لخالها: إنك لا بد أن تحبني يا خال؟ قال متفهمًا: ولماذا أحبك؟ قالت: لأني صغيرة. كأنها تقول: إن الصغير الضعيف أحق بالرعاية، وإن الضعيف أحق بأن ينال ما يحتاج إليه، ووجه الخلاف في هذا المنطق أن الإنسان لا ينال دائمًا في هذه الدنيا ما يحتاج إليه، ولكنه خطأ طبعي من جيسي الصغيرة؛ لأنها لا تعرف الدنيا ونظامها.
لم يتسع هذا المقال إلا لنظرات قليلة من كتاب واحد من كتب أناتول فرانس العديدة، وهو القصة المسماة (كتاب صديقي).