ذهبت إلى أمي وأنا طفلٌ صغير وقلت لها: إن عاشق خادمتنا جوستين قد هجرها. فنظرت إليَّ وقالت: هل هي التي أخبرتك بذلك؟ قلت: لا، ولكني لاحظت وعرفت. قالت: إن من التطفل المعيب أن نتحدث عما قد نلاحظ من أمور الناس، وأشد منه عيبًا أن نحاول معرفة ماليس من شأننا من أمورهم، أو أن ندًّعي تلك المعرفة.
ورأيت قصة تُمثَّل في دار التمثيل، وكان أحد الممثلين يمثِّل الشيطان، وكان من حوادث القصة أن يقتل بطلُها الشيطانَ، فلما رأيت الشيطان مقتولًا اعتراني الوجوم والذهول، وظللت في مكاني بعد انصراف النظَّارة المشاهدين حتى جاءَت سوزان تبحث عني فقالت: ما لي أراك واجِمًا حائرًا؟ قلت: لقد قُتل الشيطان يا سوزان، وإذا قُتل الشيطان زالت الشرور، وإذا زالت الشرور زالت الفضائل التي في مكافحة الشرور وبها تُعْرَف، فماذا يكون مصير الناس عامة والفضلاء خاصة يا سوزان؟ فضحكت سوزان وطوَّقتني بذراعها وقالت: لا تقلق فكرك ولا تزعجنفسك، فإنَّ الذي رأيته تمثيل لا حقيقة، فلا قُتِل الشيطان ولا زالت الشرور ولا انمحت الفضائل التي في محاربة الشرور وبها تُعرَف؛ وهذا يذكرنا الذين يخشون إذا أمن الإنسان الفقر والجوع والعري والمرض أن تضعف غرائز المقاومة فيه وعزائمه التي بها ارتقى بسبب الكد كي يأمن الجوع والعري، وبسبب إعمال فكره لتجنب الفقر والمرض، فيضعف عقله أيضًا. ولمثل هؤلاء يقال:
لا تجزعوا ولا تزعجوا أنفسكم ولا تقلقوا بالكم، فلا زال الفقر، ولا المرض انمحى، ولا قُضي على الجهل.
كان اعتمادي في الهروب من المدرسة وأنا صغير على الفوضى التي تخالط نظام الحياة مهما كان النظام سائدًا، وهذه الفوضى المخالطة للنظام قد تلطف من ظلم الحياة وشدَّة العدل – أوقد تزيد ظلمها – والإحساس بهذا الاختلال الملازم للنظام، قلما يكون إذا كان المرء راضيًا عن الحياة. وفي الاطمئنان إليه، كما فعل أناتول الصغير، لذة وسعادة تحجب عنه الخوف من عواقبه؛ إذ أنه يرى أنه قد يُلَطِّف شدة الحياة، وهذه الفوضى الملازمة للنظام تكثر في أعقاب دول الأمم التي قاست عصورًا طويلة من الاختلال أو في أوقات الانقلاب.
ينبغي للإنسان إذا اعتنق رأيًا أن يقبل نتائجه وعواقبه القصِيَّات وإلَّا كانت مقدَّمات أفكاره تخالف أعقابها واختلَّ منطقه وحاول التوفيق بين المتناقضين، وقد يخدع نفسه ويخدع الناس وهو لا يشعر بهذا الخداع. وهذه الفكرة تذكرني أني قرأت مقالين للأستاذ جوليان هوكسلي في أولهما يأسف؛ إذ أن شركات الاحتكار وكبار الماليين تتخذ من نتاج العلوم في الطب والهندسة وغيرهما وسيلة للكسب،بدلًا من أن ينتفع به الشعب كله إلَّا في حالات الأوبئة التي يخشى منها كبار رجال المال على أنفسهم وإلَّا في مجهود الجمعيات الخيرية الضئيل، ولكنه لم يفسر كيف يُستطاع منع احتكار نتاج العلوم للكسب تفسيرًا مفصلًا مقنعًا إلا بقوله تنشأ لجنة علمية مشرفة، وفي المقال الثاني يقول إن الحروب لا تزول إلا إذا كانت هناك تربية دولية تحاول أن تقضي على غرائز الكره والانتقام والحسد والاقتتال وغيرها، ولكنه لم يفسر تفسيرًا عمليًّا مقنعًا كيف يقضي على هذه الغرائز ونظام المنافسة يحييها ويزيدها تمكينًا كلما حاول المعلم محوها بالوعظ، هل صحيح ماقال نيتشه الفليسوف الألماني إن الإنجليز يحجمون عن تتبع أفكارهم إلى نتائجها القصيات أم أن هذه صفة أكثر المفكرين من كل أمة إذا غلب عليهم الفكر وخشوا من غلبته أن تزعزع ثبات حياتهم؟
في بعض الأحايين يتخذ المرء لنفسه عونًا على المصائب بأن يهزل معها أو يداعبها على سبيل الفكاهة والترويح عن النفس، كما كان يصنع المسجونون في سجون الثورة الفرنسية الكبرى وهم على وشك أن يُعدَمُوا. فكانوا في سجنهم يحاكون المحكمة الثورية على طريق الفكاهة والسخر، فيحاكمون إنسانًا ويدَّعون إعدامه، ثم ينتقلون به إلى الحياة الأخرى فيحاكمونه فيها. والإنسان إذا لم يستطع إلَّا مواجهة الأمر المخيف أحس إيحاءً بالإقبال عليه، كالفتاة التي تركتها قريناتها في حجرة مغلقة مع جثة على سبيل المزح فلجَّ بها الزعر وأحست هذا الإيحاء حتى احتضنت الجثة وهي لا تعي، فلما عادت قريناتها وجدنها جثة لا حراك بها معانقة للجثة، ومن المستطاع أن يفسر عمل المسجونين بأنه كان من محاكاة ميل النبلاء الذين كانوا قبل الثورة يتخذون من كل أمر جلَّ أو حقر مادة للهو، وشاعت هذه العادة حتى إن الملكة (ماري أنطوانيت) أحبت أن تعيش في أكواخ يخيل للرائي أنها مهدمة كأكواخ الفقراء، وإنما كانت أرضه من العنبر الغالي، وأمثال هذا اللهو بكل شيء تكثر مؤذنة باضمحلال الدول، على أن لهو المسجونين في سجون الثورة كان دليلًا على الشجاعة أو لاستشارة الشجاعة في نفوسهم وقهر الخوف.
القط الأليف من فصيلة الأسد المتوحش، وكذلك الإنسان المهذَّب الخيِّر من فصيلة الشرير الأثيم، والوديع المسالم المتحضر من فصيلة الهمجي الساطي، ولكننا ننسى ذلك حتى تبدو بادرات الغرائز الكامنة، والرجل الواحد قد يكون في معاشرة إنسان مهذبًا كاملًا خيِّرًا وفي اتصاله بإنسان آخر شريرًا دنيئًا خبيثًا، وفي الثورات والحروب ينضو المسالم المتحضر الوديع لباس الحضارة والوداعة والمسالمة، وقد يبذ المُسَمَّيْنَ بالمتوحشين في قسوتهم وهمجييتهم، ولكن القسوة والهمجية قد تكونان ظاهرتين حتى في أثناء السلم في حياة الرجل المتحضر الذي يألفه أصدقاؤه وكأنهم لا يرون شره وخبث طبعه.
بعض الكتَّاب إذا كتبوا للأطفال كتبًا اقتصروا فيها على لغو القول مدَّعين فيها أنهم أسفُّوا وهبطوا إلى مستوى عقول الأطفال، فتكون نتيجة ذلك أن الأطفال – ولاسيما الأذكياء – يضحكون منهم ويهزءون بهم، ولا أعني أنه ينبغي التفكير النظري، فهذا لاتستسيغه عقول الأطفال، ولكن الأطفال يعجبون بكتب الخيال مِمَّا ألفه العبقريون مثل كتاب روبنسون كروزو وأجزاء من الأوديسية، ونستطيع أن نقول أيضًا كتاب ألف ليلة المهذب المنقح وأجزاء من كتاب أسفار جاليفار ودون كيشوت وأسرة روبنسون السويسرية وأمثالها، وكتاب أليس في أرض العجائب يقبله الكبار كما يقبله الصغار بالرغم من سخف العبقرية فيه؛ لأنه كأنه يعطي العقل إجازة مسلية، وأما محاولة تلقين الأطفال النظريات العلمية في كتب يحسب الكاتب أنها تفهمها عقولهم فهي محاولة لا يقبلونها ولا يجدون فيها مسرَّة، إذ هي للتلاميذ الكبار لا الصغار منهم.
لا شيء أكثر خداعًا للمرء من فطنة الحواس – لأنها إما ناقصة وإما ينتفع بها المرء كي يخفي عن نفسه ما يريد إخفاءه لمنفعة عاجلة أو ميل نفسي – ولو اتضحت الأخطاء أنها أخطاء ما خُدِع بها أحد، ولكن فطنة الحواس هي التي تكسوها ثوب الصواب والحقيقة فيتحامق الناس في نصرتها والاقتتال عليها.
بالرغم من أني رجل مسالم أحب السكينة والنظام، فإني أحب أن يكون في نفس كل إنسان شيء ولو قليل من التمرُّد، مهما كان سن ذلك الإنسان، أما الاستسلام التام للحياة فهو ركود وفناء.
لو استطاع الإنسان أن يدرس نفسه دراسة تامَّة وأن يعرفها حق المعرفة لسببت له تنغيصًا وشكًّا ويأسًا، ومن أجل ذلك أرى أن رسائل مونتاني الذي كان يدرس فيها نفسه لم تكن إلا لهوًا يتسلى به كي ينسى آلام وجع الكلى الذي انتابه ونغَّصه – ولكن أناتول نسي ما قال مونتاني وهو أنه كان يدرس في نفسه نفوس الناس ولاسيما من حوله ومن كان يقابلهم. وفي مثل هذه الدراسة نجد تعزية لا تنغيصًا مادام يرى غيره شريكًا له في صفات نفسه، بل ربما كان فيها إكبار لنفسه.
مهما قسمنا العمل قسمة عادلة بين الناس فإنه سيظل عبئًا ثقيلًا على أكثر الرجال والنساء؛ لأنه عبء الحياة، وهذا لا يمنع من إنصاف المثقل بأعباء الحياة والترويح عنه.
إنه ليؤلم الإنسان إذا كادت حياته تنصرم أن يفكر في أن العالم بعد موته يعيش ويعمل ويحسُّ ويفكر كأنَّ حياته لم تكن، وعندئذ لا يكون له رأي أو عمل أو إحساس فيها ولا يحاول تنظيمها كما يشاء، فيحس كأنه غارق في مد الحوادث وتيار الزمن، وقد عزاه (شوبنهور) بأنه ما هو إلَّا مظهر من مظاهر إرادة الحياة وأنه لا حياة له من غيرها، أي عزاه في كتبه وهي تعزية لا تُعزَّى.
كما أن الطبيعة تُحوِّل الإنسان وتُشكِّله وتغيِّره وتتحكم فيه، فالإنسان كذلك يغيِّر الطبيعة ويشكِّلها ويحوِّرها. وهذا موضوع كبير، يرجع إليه في كتب فون راتزل، ومس سميل، وفير جريفز وغيرهم، وقد أراد (أوسكار ويلد) أن يضع هذه الحقيقة في أسلوب فكاهي فقال: إن الطبيعة تحتذي ألوان الرَّسامين المصورين الحديثين في ألوان الضباب الذي يحدث في لندن، وإننا ما كنا نَرى للضباب مثلَ هذه الألوان قبل احتذاء الطبيعة ألوانَ الرسامين الحديثين، ومما هو أبلغ في الفكاهة أنَّ (ماكس نورداو) الناقد الألماني الشهير أخذ هذا القول مأخذ الجد فقال: إن هذا الرأي يدل على سخافة عقل أوسكار وايلد وانحطاطه وقوله هذا في كتابه المسمى (الانحطاط)، ولكن ماكس نورداو معذور؛ إذ أن بعض الكتَّاب لا تكاد تستطيع أن تميز فكاهته من جدِّه.
حقًّا إن للعقل أثرًا في الجسم، كما أن للجسم أثرًا في العقل (وهذا شيء يعرفه الأطباء حق المعرفة وهو موضوع كبير أيضًا) وقد كان بيير الصغير يدمن النظر في صور المزارع، فتعاوده ذكرى الأيام التي قضاها في المزارع وعاد بعدها نضير الوجه بض الجسم ظاهر الصحة يقبل على طعامه وينضر وجهه ويعاوده مظهر الصحة إذا أدمن النظر في صورها وتأمها تَأمُّلَ المستملي محاسنها، فكأنه عائد من نزهة ريفية.
إن شغفي بقراءة الكتب من صغري جعلني أحس من عهد ذلك الصغر بفناء العالم؛ إذ كم من فكرة جاءت ثم زالت، وكم من رأي ولد كي يموت، وكم من نظرية استحدثت كي تنمحي كما تنمحي الفقاقيع، وكم من مذهب ساد ثم باد، وبعد أن كان مقبولًا صار مرفوضًا، فصرت أحس برحلة عقل الإنسان في فيافي الزمن.
كان لي كلب كنت أتأمله وهو نائم، فأراه كأنه يحلم، وتارة يئن كما يئن المتوجع المهموم، وتارة يبتسم أو كأنه يضحك، وتارة يبكي فكأن له نفسًا يقظى ووعيًا باطنًا كما للإنسان –وهذا يذكرني (تورجنيف) القصصي الروسي في قصصه القصيرة التي تشبه الشعر المنثور، إذ كان يدمن النظر في عيني كلبه فيرى فيها عواطف الإنسانية جميعها فناداه بالأخوة، وهي على الأقل أخوة في الحياة.
قال لي أنعون فورنيه الرحالة متفكهًا: احذر أن تكسر البيضة من الجانب المحدب الأصغر، اكسرها دائمًا من الجانب المنبعج الكبير، لأن قومنا يكسرونها من ذلك الجانب، وقد طفت العالم فوجدت أن الناس المعروفين بالخير هم الذين يصنعون كما يصنع غيرهم حتي في الأمور الصغيرة التافهة، وإذا خشيت أن تنسى نصيحتي فعليك بالعزلة، واعتزل الناس كيلا يروا سهوك وكسرك البيضة من الجانب الصغير،وقد احتذى أناتول في هذه الفكاهة سخر (يونوثان سويفت) الكاتب الإنجليزي في كتاب أسفار جاليفار، فإنه أيضًا تخيل في دولة الأقزام ليليبوت حزب جانب البيضة المنبعج، وحزب جانب البيضة المحدب، وأقام بينهما حروبًا ومؤامرات وعداوات، والموعظة في هذه الفكاهة هي أن الناس كثيرًا ما يتعادون ويتقاتلون لأسباب تافهة.
تذكر أنك لاتستطيع أن تهب أحدًا السعادة، بأن تقهره على أن يرى السعادة فيما تراه أنت سعادة، فلكل إنسان رأي في السعادة، وكان يستطيع أناتول أن يقول أيضًا: إن هذا الرأي كثيرًا ما يتغير فتارةً يرى الإنسان السعادة في شيء وتارةً في ضده، وفي بعض الأحايين يرى السعادة فيما فيه شقاؤه وهو لا يدري.
لابد لكل جيل أن يختبر تجاب الحياة بنفسه؛ لأن الحياة كأنها تنشأ من جديد بنشأة كل جيل؛ إذ أن التجارب لا تُعَلَّم وإنما يكسبها الإنسان بمزاولة الحياة، وقد لا ينتفع بها بالرغم من ذلك، ولعل ضرورة اختبار تجارب الحياة في نشأة كل جيل من أسباب قلة تغيرها أو تغيرها ببطء.
بعض الناس إذا أصابه أمر محزن ونفس عن نفسه بمظاهر الحزن احتقر نفسه من الكبر، ولو تذكر أنه ليس أعظم من الأمر الذي أحزنه لما زاد على نفسه المصائب بهذا الكبر، لأن احتقاره لنفسه بسبب حزنه أو المخالط لحزنه يزيد المصيبة أو الأمر الذي حزن من أجله.
بعض حقائق الحياة قد تكون غريبة على قربها وألفتنا لها، حتي إنها لغرابتها قد نعدها فكاهة لا حقيقة – وهذا يذكرني قصة من قصص (سموست موام) اشتهرت فيها امرأة بفطنة الفكاهة وذكائها، وما كان ذلك إلا لأنها كانت ساذجة، فكانت لا تستطيع لسذاجتها أن تتجنب ذكر الحقائق المألوفة التي يحاول الناس نسيانها ويتحرجون من ذكرها.
المال له دولة عالمية حقيقية كبيرة كدولة البابوية والكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى، وهي دولة مستقلة ذات سيطرة، ولكن كثيرًا ما ننسى أن نعدها بين الدول العظمى.
كثيرًا ما تسرف الحكومات إسرافًا كبيرًا في مظاهر الأبهة والعظمة ومناصب السياسة النائية أو غيرها، وتحاول أن تقتصر فلا تستطيع، فتوهم نفسها أن كل ذلك أمر ضروري لهيبتها وصيانة مصالحها، ثم هي تشكو من قلة المال الذي تحتاج إليه لإصلاح حال الناس فترهقهم بالضرائب.
ذوو العقائد المختلفة في البقعة الواحدة قد يكونون أقرب أخلاقًا من ذوي العقائد المتفقة في البقاع المتباعدة فكان الإمبراطور جوليان الوثني يصوم ويزهد في لذات الجسم ويعتقد التكفير عن الخطايا، ويرى أن الألم مطهر للنفوس، كما كان يصنع المسيحيون في عهده، ولو قارنت بين المسيحية في أوروبا وبينها عند الزنوج لوجدت اختلافًا كبيرًا واختلافًا في أخلاق الفريقين.
بعض الناس يكره العلم من شدة عشقه له، كما يكره العاشق محبوبته إذا وجد أنها بالرغم من جمالها وحسن أخلاقها لم تستطع أن تجلب له كل أحلامه وأمانيه، وكذلك بعض الناس يكرهون العلم لأنه لا يستطيع أن يفسر كل شيء، وما ادَّعى أنه يستطيع ذلك، وبعضهم يكره العلم لأن الغرائز الإنسانية الموروثة قد تستخدمه في الشر، والعيب عيب الإنسان لاعيب العلم.
الأفكار كثيرًا ما تكون وليدة النزعات النفسية المتناقضة، فتتناقض أفكار الإنسان كثيرًا وهو يحسب أنها غير متناقضة، وقد يغضب إذا نبهته إلى ذلك ويلج في إنكاره.
حسن الذوق ضروري … فكثيرًا ما ترى إنسانًا قبيح الذوق يقول: فلان «ليس عنده حسن ذوق»، وهو من ضرورات الحاكم والسياسي؛ لأنه يشمل صفات أخرى كثيرة مثل عدل المرء في قوله وعمله وخلقه.
ما استطاع الإنسان أن يؤسس الحكومات إلَّا لأنه يأمل أن يكون حاله في غده أحسن من حاله في يومه، وهذا الأمل يتجدد بالرغم من خيبته.
ليس انتشار ثورة أو نجاحها دليلًا على مقدار الظلم الذي ابتعثها، فإنه إذا كانت جماعة من الناس جائعة متبلدة القول والإحساس من التعاسة هزيلة الأجسام لا سلاح لها إلَّا الغيظ والمقت، كانت أضعف وأعجز من أن تزيل الظلم بثورة ناجحة، وهذا أمر معروف في التاريخ؛ فإن بعض الحكام كان يتعمد إيجاد مثل هذه الحالة أو المحافظة عليها كي يظل هو وأنصاره مستأثرين بخيرات الحياة والحكم، ومن المعروف أيضًا أن الثورة الفرنسية ما استفحل أمرها لأن الفرنسيين كانوا أتعس حالًا، بل لأن تعاستهم كانت قد قلت نسبيًّا عن تعاسة غيرهم من شعوب القارة الأوربية وتعاستهم في أزمان غابرة.
ربما كانت القسوة جُمَّاع الرذائل، وربما كان العنف ضعفًا لا يغتفر إذ هو على الأقل ضعف الإنسان عن أن يملك نفسه وأن يحكمها.
يصح أن نختصر وصف أسباب الخصومات في كلمة واحدة، فنقول: إننا نلوم من لا يفكر كَمَنْ يفكر، ومن لا يشعر كَمَنْ يشعر.